حكومة «الولاء والبراء» في السعودية فؤاد إبراهيم
على الرغم من محاولات آل سعود الإيحاء بأن التغييرات الوزارية التي شهدتها السعودية الأسبوع الماضي هي لصالح المواطن السعودي والمصلحة العامة، إلا أن الواقع لا يشي بذلك أبداً. بل على العكس، فإن التغيير الحاصل لا يعدو كونه «عملية تجميلية» لجسم «مترهل». كما هو معروف، فإن أي شخص يعين لوظيفة عليا في السعودية يكون قد قدم فرض الطاعة لآل سعود سلفاً، وأي محاولة منه للتمايز عن موقف العائلة الحاكمة ستضعه خارج الجنة الوزارية فوراً. وفي الوقت عينه، فإن الحكومة الجديدة بتشكيلتها الحالية، أقل تمثيلاً على مستوى المناطق، والقبائل، والطوائف، وقد تؤسس لأزمة في المستقبل، لأن المعايير المعتمدة في تعيين الوزراء تقلّصت إلى مجرد الولاء للعائلة المالكة دون رعاية للحسابات الأخرى
لن يتردد أي كاتب سعودي مقرّب من السلطة في إضفاء أهمية «استثنائية» على التعديل الوزاري الأخير في السعودية. الطريف أن ما صوّره موقع قناة «العربية» على أنه سبق صحافي حين بادر كاتب سعودي إلى تقديم تحليل بعد مرور 24 ساعة فقط على الإعلان عن التعديل الوزاري، يفشي «احتفالية» مفتعلة، فالقراءة التي تقدّم بها الكاتب خلصت إلى (أن التغيير الوزاري السعودي الكبير مبشر بالخير، وواعد بالأمل) على حد قوله. السؤال: هل يمكن أن تخلص قراءة أي إعلامي سعودي مقرّب من السلطة إلى غير ذلك؟!
على أي حال، فإن البشارة التي ساقها الكاتب السعودي، مشاري الذايدي، لم تنل حظها من اهتمام الرأي العام المحلي. فالتعديل الوزاري لم يلفت انتباه مواطني السعودية، وبالرغم من تخصيص «هاشتاغ» على موقع «تويتر» للتعليق على الأوامر الملكية، فإنها لم تحصد نسبة لافتة من المغرّدين. عزوف الناس عن التفاعل مع التعديل الوزاري يعكس عدم ثقة في الحكومة، فالناس يبحثون عن برامج تأتي بحلول لمشكلات الفقر والبطالة وأزمات السكن والصحة والخدمات العامة، وليس تغيير الوجوه.
في الشكل، يجري التغيير الوزاري في السعودية كل أربع سنوات، منذ أن تقرّر العمل بالأنظمة الثلاثة التي أعلنها الملك فهد في آذار 1992، ومع ذلك فإن «التمديد» للوزراء كان هو السائد، ببساطة لأن الحكومة السعودية (وفي ضوء نزعة المحافظة لدى الطبقة الحاكمة) تميل إلى إبقاء الأشياء كما هي دون تغيير. في واقع الأمر، هي لا تريد أن يتعوّد الناس على التغيير، فيتطلعوا إلى ما هو أفضل مما في أيديهم أو ما يقدّمه لهم ولاة الأمر!
وقد جرت العادة في السعودية على أن يبقى الوزراء في مناصبهم ما بقوا على قيد الحياة، وحين تروج شائعات عن تغييرات وزارية «كبيرة» و«وشيكة» فإنها في الغالب لا تقع، مع أن سقف توقعات الناس مرتفع إلى القدر الذي يجعل من التغيير حدثاً استثنائياً.
وبحسب التجارب السابقة، فإن التغيير الوزاري يكون غالباً محدوداً، ويشمل وزيراً أو اثنين من الوزارات الخدماتية، أما الوزارات السيادية (الداخلية والدفاع وأضيف إليهما الحرس الوطني بعد تحويلها إلى وزارة في التعديل الوزاري سنة 2012) فهي حكر على الأمراء ضمن محاصصة دقيقة بين الجناحين الرئيسين (السديري وجناح الملك عبد الله)، إضافة إلى وزارة الخارجية التي بقيت في بيت آل فيصل منذ تأسيسها، إذ ورث وزير الخارجية الحالي سعود الفيصل الوزارة من أبيه الملك فيصل بعد مقتله سنة 1975. وعليه، فإن أي تغيير في الوزارات السيادية يتمّ عادة بموت الوزير، والاستثناء الوحيد حصل بإعفاء الملك عبد الله أخيه الأمير أحمد بن عبد العزيز (المحسوب على الجناح السديري) من منصبه كوزير للداخلية في تشرين الثاني 2012 وتعيين محمد بن نايف مكانه، في قرار وصف حينذاك بأنه «ملتبس».
التعديل الوزاري الجديد يعدّ الأكبر، إذ شمل تسع وزارات غير سيادية (التجارة، الصحة، الشؤون الإسلامية، الإعلام، التعليم العالي، النقل، الزراعة، الاتصالات وتقنيّة المعلومات). وكان آخر تعديل وزاري قد جرى في كانون الأول 2011 وشمل وزارات (التجارة، الصناعة، الخدمة المدنية، الاقتصاد والتخطيط والحج)، فيما تمّ تحويل الحرس الوطني إلى وزارة، وتعيين نجل الملك متعب بن عبد الله وزيراً عليها.
أول ما يلفت في التعديل الوزاري إعفاء ثلاثة وزراء من مناصبهم «بناء على طلبهم» فيما يشبه إحالة على التقاعد، وعليه بات هؤلاء خارج معادلة السلطة وهم وزراء: الشؤون الإسلامية، التعليم العالي والنقل. ولإعفاء وزير الشؤون الإسلامية خصوصية مثيرة، فالوزير المقال هو الشيخ صالح بن محمد آل الشيخ، من سلالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مؤسس المذهب الرسمي للدولة السعودية. وينظر التيار الديني الوهابي في المملكة إلى مثل هذا الإجراء على أنه «تحجيم» لآل الشيخ، بالرغم من أن آل سعود أزاحوا في مرات سابقة آل الشيخ عن مواقع كان الاعتقاد السائد بأنها حكر عليهم، مثل: التعليم، منصب المفتي العام، وزارة الشؤون الإسلامية والعدل. ويأتي إعفاء آل الشيخ على خلفية انتقادات وجّهت إليه بسبب عدم حزمه مع أئمة الجوامع وخطباء الجمعة والدعاة في مواجهة «داعش». وكان الملك عبد الله قد وبّخ المشايخ في لقاء معهم في نهاية تموز الماضي بأن فيهم «كسلاً وصمتاً».
نشير إلى أن رئاسة مجلس الشورى يتولاها عبد الله بن محمد آل الشيخ، وزير العدل السابق، وأصبح أيضاً عضواً في هيئة كبار العلماء، إلى جانب المفتي العام للمملكة عبد العزيز آل الشيخ.
في حقيقة الأمر، إن صدمة التيار الديني الصحوي على وجه الخصوص تعود إلى تعيين مدير جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، سليمان أبا الخيل، وزيراً للشؤون الإسلامية، وهو مصنّف على «الجاميّة» نسبة إلى الشيخ محمد بن أمان الجامي، من أصول أفريقية، وبرز إبان أزمة الخليج الثانية وكان مناصراً لمواقف النظام السعودي ويدعو إلى لزوم طاعة ولي الأمر. وينظر التيار الصحوي إلى أبا الخيل على أنه خصم لدود له، كونه المسؤول عن تعزيز الاتجاه الجامي في الجامعة، فكان يدعو رموز السلطة مثل عضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح الفوزان إلى إلقاء ندوات حول طاعة ولي الأمر، كما أبعد الأساتذة المحسوبين على التيار الصحوي واستبدلهم بآخرين محسوبين على الاتجاه الجامي المقرّب من السلطة. وكان أبا الخيل قد أطلق مواقف حادة ضد الإخوان المسلمين ورجب طيب أردوغان في مؤتمر مكافحة الإرهاب الذي رعته الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في نيسان الماضي ووصف تركيا بأنها «دولة فاسدة وفاجرة وتحارب عقيدة السعودية»، ووجّه نقداً لاذعاً لمن أثنى على تركيا أردوغان وقال: «هذه الدولة التي يمجّدها، لأنه يسير على منهجها الإخواني، هذه الدولة هي من أشد الدول عداوة لعقيدة هذه البلاد، ومنهجها وما تقوم عليه».
التشكيلة الجديدة الأقل تمثيلاً مناطقياً وقبائلياً وطوائفياً
في تواصل مع قراءة خلفيات الإعفاء والتعيين في التعديل الوزاري الجديد، يأتي إعفاء وزير الثقافة والإعلام عبد العزيز خوجة على خلفية إغلاق قناة «وصال» المعروفة بكونها من «قنوات الفتنة» بحسب توصيف البيان الرسمي السعودي. وبرغم ما قيل عن سبب آخر للإعفاء وأنه يتعلق بعقود تجارية موضع تنافس بين «روتانا» و«إم بي سي» على شراء حق بث مباريات الدور السعودي لكرة القدم، فإن خوجة خرج من الحياة السياسية، ومعه وزير الصحة السابق عبد الله الربيعة الذي فشل في وضع حد لتفشي فايروس كورونا في المملكة، رغم الإطراءات السابقة التي حصل عليها في «فصل السياميين»، وكانت سبباً لتوزيره.
لا بد من لفت الانتباه إلى أن قرارات التعيين والإعفاء لا تتم بالضرورة بناءً على فشل أو إنجاز، لأن ذلك يفترض أن يكون لدى الوزراء صلاحيات كاملة في مزاولة مهماتهم، والحال أن الوزراء في السعودية هم مجرّد منفّذين لسياسات رسمت من أعلى. ولهذا السبب، لا ينظر إلى التغييرات الوزارية على أنها إصلاح سياسي، ومن يطالع سير الوزراء لا يجد ما هو غير تقليدي، فأغلب هؤلاء أبناء «المؤسسة»، فيأتي تعيينهم في سياق «ترقية» وظيفية وإدارية، أو أنهم جاؤوا نتيجة المحاصصة بين الأجنحة الحاكمة.
تحميل الوزراء مسؤولية الإخفاقات في البلاد يعدّ تجاوزاً للواقع. لتوضيح ذلك، فإن وزارة الإسكان، على سبيل المثال، تعاني من مشكلات كبيرة نتيجة سرقة الأراضي العامة من قبل الأمراء الذين يجوب وكلاؤهم أرجاء البلاد بحثاً عن أراض شاغرة لوضع اليد عليها وتسويرها ووضع لائحة مكتوب عليها عبارة (هذه من أملاك سمو الأمير فلان بن فلان)، حتى بات يطلق على السعودية (مملكة الشبوك) لكثرة الأسوار التي تحيط بالأراضي في كل مناطق المملكة وتسجّل بأسماء أمراء كبار. وتعود ظاهرة «تشبيك» الأراضي إلى عهد الملك فهد الذي فتح الباب أمام الأمراء للتنافس التجاري ضمن مجالات عمل الدولة والتعدّي على المال العام والممتلكات العامة. فما دخل وزير الإسكان بالمشكلة؟ وهل يملك تفويضاً يخوّله نزع أملاك من أيدي كبار الأمراء من العائلة المالكة؟
على أي حال، فإن التغيير لا يعني الانتقال إلى الأفضل، فاختيار الوزراء يتم بناءً على قدر ولائهم للعائلة المالكة وليس على أساس الكفاءة والخبرة. على سبيل المثال، لم يعرف عن أي من الوزراء الجدد منجز سياسي أو موقف إصلاحي، أو حتى دور متميّز على المستوى الوطني، بل إن بعضهم مرّ عبر قنوات «الداخلية»، ما يحسبهم على الجناح السديري. للتوضيح: وزير الإعلام الجديد عبد العزيز الخضيري تولّى منصب وكيل إمارة منطقة مكة المكرمة قبل تعيينه وزيراً في التشكيلة الجديدة، أي أنه يتحدّر من وزارة الداخلية. لم تكن لدى الخضيري اهتمامات إعلامية، وحتى يملأ الفراغ في سيرته الإعلامية ذكرت الصحافة السعودية الرسمية أن له مقالات في صحيفة «الاقتصادية» وهي تنضح ولاءً للعائلة المالكة. على أي حال، فإن وزارة الإعلام فقدت قيمتها بفعل الثورة الاتصالية، وتجاوزها الناس بعدما عثروا على قنوات تعبير خارج الرقابة الرسمية مثل الإعلام الفضائي ومواقع التواصل الاجتماعي. نشير إلى أن الإعلام كان ملحقاً بوزارة الداخلية، وكان الأمير نايف، وزير الداخلية الأسبق، يتولى منصب رئيس المجلس الأعلى للإعلام.
يقال عن وزير التجارة توفيق ربيعة، الذي يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة «بيتسبرغ» في ولاية بنسلفانيا الأميركية في علوم الحاسب الآلي، إنه رجل ناجح بسبب انخراطه في تطوير المدن الصناعية وربطها بشبكة اتصالات ذكية، ويحكى عن تواضعه والتزامه. ولكن قد يكلّفه تميّزه كثيراً في حال خروجه عن نطاق «الولاء والبراء» بالمعنى السياسي وليس الديني السلفي.
بصورة إجمالية، ليس في التعديل الوزاري ما يشدّ الانتباه، كأن يأتي بأشخاص من خارج «الصنف»، أي من المحسوبين على المعارضة أو من مكوّنات أخرى. يقال إن محمد بن علي آل هيازع، وزير الصحة الجديد، ومدير جامعة «جازان» سابقاً وخريج جامعة ولاية بوسطن الأميركية في الكيمياء، هو أول وزير لهذه المنطقة التي تصنّف بكونها من الدرجة السابعة، بحسب فتح خط الهاتف الداخلي. تعيين آل هيازع في الصحة يضعه أمام تحدٍ كبير لما تواجهه الوزارة من مشكلات على مستوى مكافحة الأمراض الوبائية.
وفي الخلاصات، فإن التغيير الوزاري كان روتينياً (حتى لا نقول أقل من ذلك) ولا صلة له بأي عملية إصلاحية منتظرة. التشكيلة الجديدة تمثّل نموذجاً لحكومة الولاء لآل سعود والبراء من خصومهم في الداخل والخارج، فالمواصفات التي تمّ على أساسها اختيار الوزراء بدت أشدّ صرامة من السابق، إلى القدر الذي يصعب أن تجد ما يمكن وصفه «مختلفاً» في توجّهه، ولو نسبياً من بين الوزراء الجدد.
التشكيلة الوزارية… مناطقياً
فقدت الحجاز حصّة وازنة من حجمها التمثيلي، وبعد خسارتها وزارة الإعلام بعدما فقدت وزارة البترول سابقاً، تكون الحجاز خارج معادلة المحاصصة، فيما تسيطر منطقة نجد على ما يربو على 80 في المئة من الجهاز البيروقراطي. وعليه، أمكن ملاحظة أن التشكيلة الوزارية الجديدة تعد الأقل تمثيلاً على مستوى المناطق، والقبائل، والطوائف، وقد تؤسس لأزمة في المستقبل، لأن المعايير المعتمدة في تعيين الوزراء تقلّصت إلى مجرد الولاء للعائلة المالكة دون رعاية للحسابات الأخرى، المناطقية، والقبلية، والفكرية/ السياسية. غياب الشيعة في التشكيلة الوزارية ليس الثغرة الوحيدة الدائمة في التركيبة الوزارية، فثمة تغييب متعمّد لمكونات أخرى دينية (سلفية وصوفية وإسماعيلية)، وسياسية (ليبرالية وقومية)، فيما يراد إعادة شدّ أواصر السلطة المركزية، ولكن عن طريق تقليص نسبة التمثيل، ما يشير إلى أزمة خطيرة سوف تواجه الدولة في أي تحديات جديّة مقبلة.
(الأخبار)