أوروبا تنتظر صوم أردوغان.. حتى رمية النرد البريطانية وسيم ابراهيم
بعدما كان الاتفاق مع أنقرة يترنح، بفعل العاصفة السياسية المفاجئة داخل بيت الحكم التركي، والتي أدت إلى إطاحة رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، يأمل الأوروبيون الآن أن يلتزم أردوغان بالصيام عن ابتزازهم سياسياً. آخر ما يودونه هو انهيار الصفقة التي أوقفت تدفقات اللاجئين، خصوصاً في وقت حاسم يترقبون فيه استفتاء بريطانيا المصيري لهم أيضاً.
يضع الأوروبيون يدهم على قلوبهم منذ حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالإعدام على المستقبل السياسي لرئيس وزرائه. رسائل التهديد المُضمَرة كانت تصلهم في البريد العاجل لتصريحاته التالية. لم يتوقف أردوغان عن مهاجمة الصفقة مع الأوروبيين، في حملةٍ انطلقت تواً مع عملية عزله لرفيقه في الحكم. خشيةُ الأوروبيين كانت تدور حول فرضية أن يكون أردوغان يشنّع بالاتفاق في إطار عملية تصفية سياسية لإرث داود أوغلو، مع ختمه بوصمة أخيرة، فطوال فترة المفاوضات جرى التعامل مع رئيس الوزراء بوصفه مهندس الصفقة لوقف تدفقات اللاجئين.
بدت الأمور مجمدة في وضعٍ حرج. كرّر أردوغان أنه لن يغيّر قوانين مكافحة الإرهاب، وهي أحد الشروط الخمسة الرئيسية الباقية لختم القائمة الطويلة من متطلبات إتمام اتفاقية السفر بدون فيزا للأتراك. ترك لمسؤولين في حزبه توضيح المغزى لمن غاب عنه، فأعلن بعضهم صراحة أن عدم تحرير الفيزا سيعني فتح السدّ الذي أقاموه مؤخراً لحجز سيل اللاجئين.
لكن ديبلوماسياً أوروبياً لفت إلى أن الفرصة لا تزال قائمة لإتمام الصفقة. خلال حديث مع «السفير»، قال «لقد قطعنا مسافةً طويلة باتجاه إتمام الاتفاق، تحرير الفيزا في النهاية مصلحة مهمة للمواطنين الأتراك، ولا أرى ما يبرر قيام القيادة التركية بهدم الاتفاق بعدما بات إنجازه بهذا القرب». لم يخف أن أجواء عزل داود أوغلو شغلتهم، لكنه شدد على أن «المفاوضات وما نتج منها كانت مع حكومة تركيا لذلك، فالأمر ليس مرتبطاً بأشخاص».
لم تأت هذه التطمينات من تلقاء ذاتها. ساد التوتر وعدم اليقين بعد الحملة الأردوغانية على الصفقة، فالصورة لم تكن واضحة في بروكسل حول دوافعها وإلى أين ستنتهي. لكن بعد إلغاء اجتماع أوروبي ـ تركي مجدولٍ سلفاً، اختارت أنقرة بعث رسائل طمأنة. أرسل أردوغان وزير الشؤون الأوروبية ورئيس فريق التفاوض حول عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ليلتقوا وزيرة خارجية الاتحاد فيدريكا موغيريني.
تنفس المسؤولون الأوروبيون الصعداء بعد ذلك الاجتماع. ليس فقط لأن الإنجاز الأساسي لوقف تدفقات اللجوء جاء بيدي أنقرة، في وقت يكافحون فيه لاحتواء صعود اليمين المتطرف، بل لأن انهيار الاتفاق وتفجر «أزمة اللاجئين»، كما يسمونها، سيكون له تأثير كبير على حدث مصيري بالنسبة للتكتل الأوروبي.
الجميع يقف على ساقٍ واحدة الآن، في انتظار يوم 23 حزيران، وما سيسفر عنه الاستفتاء البريطاني للبقاء أو الخروج من النادي الأوروبي. زعماء حملة الخروج من الاتحاد كانوا في مقدمة المصفقين لترنح الصفقة مع تركيا، وسبق لمقربين منهم التأكيد أن انفجار «الأزمة» سيلعب كعامل نفسي مهم في مصلحتهم. قال أحدهم إن عودة تدفقات سيل اللجوء، مع استمرار تعطيل «شنغن» وسط الخلافات الأوروبية، سيوصل رسالتهم على أكمل وجه بأن الاتحاد الأوروبي «لا يعمل».
فيما يأمل الاوروبيون أن يصوم أدروغان عن مزيد من الابتزاز السياسي، خصوصاً تنفيذ تهديدات أنقرة بفتح بوابة اللجوء مجدداً، يبدو أن التطمينات التركية تذهب في هذا الاتجاه. مصادر أوروبية أوضحت لـ«السفير» أن التفاهمات تشمل تمرير موعد 23 حزيران، مؤكدة أن «موعد النظر في الاتفاق مع تركيا حول تحرير التأشيرات هو نهاية حزيران، ننتظر تطبيق أنقرة لباقي الشروط، لكن لن يكون هناك قرارات قبل هذا الموعد».
مصالح أنقرة تمشي على مسار دقيق هنا. باتت متأكدة أنها لن تنتزع أي تنازلات إلا حينما يكون الاتحاد الأوروبي في موقعٍ ضعيف، خصوصاً حيال أوراق ضغط تمتلكها. من جهة، تريده ضعيفاً في هذا المستوى، لكن لا مصلحة لها في اللعب في مستوى يُعرّضه لمخاطر كبيرة، كالتي يمثلها خروج بريطانيا. يكفي لإدراك ذلك النظر للتصريحات الأميركية الضاغطة على البريطانيين، كي يصوتوا لمصلحة البقاء، فإضعاف التكتل الأوروبي سيرتدّ أيضاً على حلف «الناتو»، المظلة الدفاعية والأمنية التي تجمع تركيا مع الأوروبيين بقيادة أميركية.
مؤشرات أخرى على مرور عاصفة الخوف من انهيار الصفقة، تحديداً فترة «الصيام» قبل الاستفتاء، جاءت أيضاً في مواقف أطلقها رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك. قال مستعرضاً «النجاح» في وقف التدفقات إن «الاتحاد الأوروبي سيوفي ما عليه، وأنا واثقٌ من مستقبل تعاوننا ما دامت تركيا توافق على اللعب مع القواعد وليس اللعب بالقواعد».
الحجم الحقيقي لتحدي الاستفتاء البريطاني غاب خلف جداول حسابات الفوائد والخسائر، التي يواصل طرفا الحملة استعراضها بغزارة لاستمالة المصوّتين المترددين.
استطلاعات الرأي متضاربة، بعضها يعطي تقدماً لحملة البقاء وأخرى تظهر فارقاً ضئيلاً.
لكن العيار الثقيل للحدث، بوصفه مقامرة كبرى، ظهر خلال استعراض قدمه، قبل أيام، ريتشارد ديرلوف، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البريطانية الخارجية «إم آي 6». اعتبر أن نتائج التصويت ستحدد مستقبل الاتحاد الأوروبي ككل، مشدداً على أن الاستفتاء سيكون «ضربة النرد الأولى في لعبة جيوسياسة أكبر».
حاولت الحكومة البريطانية تجنب الخوض في سيناريو انهيارات سياسية في أوروبا تحت تأثير عودة تدفقات اللاجئين، لكن رجل الاستخبارات لأربعين عاماً تحدث بتحرر من تلك المحاذير. اعتبر أن فشل أوروبا في إقناع مواطنيها بسياسة فعالة للسيطرة على الأزمة سيعني أن «الاتحاد الأوروبي سيجد نفسه تحت رحمة انتفاضة شعبوية، بدأت تنشط فعلاً». أصرّ على أن المقايضة مع تركيا، بأثمانها المطروحة، تمثل نهجاً «أحمق». ركز خصوصاً على منح اتفاقية تحرير التأشيرة لـ75 مليون تركي مقابل وقف التدفقات، مشبهاً ذلك بـ «مثل تخزين البنزين بجانب النار التي نحاول إطفاءها».
الحديث عن لعبة جيوسياسية كبيرة ليست فيه مبالغات، خصوصاً حين النظر للتداعيات المحتملة إذا قرر البريطانيون الخروج. فوق الخسائر الاقتصادية غير القليلة، ينتظر أن تواجه بريطانيا معركة سياسية حامية عالية المخاطر. في الأساس صوتت اسكتلندا بغالبية ضئيلة لمصلحة البقاء داخل بريطانيا، لكن ذلك كان مع بقاء المملكة المتحدة تحت السقف الأوروبي. خروج بريطانيا سيعطي عنواناً كبيراً يحمله المطالبون بانفصال اسكتلندا، خصوصاً أن فيها غالبية كبيرة تدعم البقاء في الاتحاد الأوروبي.
الاتحاد الأوروبي بدوره يواجه مأزقاً كبيراً إذا تحقق سيناريو الخروج. الغالبية، مثلاً، في فرنسا وايطاليا، عبّرت عن رغبتها في إجراء سيناريو مشابه. أحزاب اليمين المتطرف، على اختلاف تلويناتها، ترفع شعار استعادة قوة الدولة الوطنية من مؤسسات الاتحاد المركزية. المفارقة أن هذه الأهداف جعلت هذه الأحزاب تلتقي مع روسيا، لدرجة أن بعضها لا يخفي تأييده لسياسات موسكو، كما لا يتحرج من كيل المديح لنهج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
سيكون خروج بريطانيا هدية كبيرة لم تنتظرها روسيا، فهي لن تمانع إطلاقاً في إضعاف جار عملاق وطموح، خصوصاً أنه لم يتوقف عن التمدد في ما تعده مناطق نفوذها التقليدي. لذلك ليس غريباً أن تطرب موسكو تصريحات قادة حملة خروج بريطانيا. آخرها، وأكثر جدلاً ربما، ما قاله عمدة لندن السابق بوريس جونسون حينما اعتبر أن الاتحاد الأوروبي يشكل صيغة جديدة لمشروع يشبه مشروع التوسع والتوحيد الذي حمله الزعيم النازي أدولف هتلر. رفع مستوى التعارك إلى هذا الحد، أو الانحطاط به كما يرى الأوروبيون، هو فقط أحد مؤشرات الإحساس العام بمخاطر رمية النرد المرتقبة في لندن.
(السفير)