المفاوضات للكبار… الحرب للصغار د. عصام نعمان
قلّما تفشل مفاوضات بين لاعبين كبار. قد تتعثر، لكنها لا تتوقف. ما من مرةٍ اجتمع جون كيري وسيرغي لافروف وانتهى اجتماعهما إلى خلاف. الاختلاف بين الكبار ممكن. الخلاف مستبعَد، أقلّه غير معلن. ذلك أنّ المفاوضات بين الكبار أضحت نهجاً في العلاقات الدولية يعتمد التنافس السياسي والاقتصادي بدلاً من الصراع الساخن وذلك تفادياً لسفك الدماء والتدمير الشامل المتبادل.
الحرب، في العصر النووي، ليست للكبار. الكل يخسر في الحرب، لذلك تمّ الاتفاق بين الكبار على عدم الانزلاق إليها بأيّ ثمن. إذا لم يكن بدّ من حرب، لسببٍ أو لآخر، فلتكن بالوكالة بين لاعبين صغار ينتمون إلى هذا اللاعب الكبير أو ذاك. والحرب بالوكالة لا تكون بين الصغار لمصلحة الكبار، فحسب بل تكون أيضاً ودائماً على أرض الصغار.
اللاعبون الكبار مستعدّون لتحمّل جزءٍ من تكلفةٍ مادية لحرب يُكرِهون فيها اللاعبين الصغار على تحمّل معظم تكلفتها، لكنهم يتفادون دائماً دفع تكلفتها البشرية. هل جرت، بعد الحرب العالمية الثانية، أيّ حرب على أرضٍ للاعبين كبار؟ هل دفع أحد الكبار في الماضي القريب تكلفة بشرية لحرب بالوكالة شنّها عبر لاعبين صغار؟ كلا، بالتأكيد.
لنعد إلى الحاضر: أليست الحروب الدائرة في سورية والعراق واليمن وعليها حروب بالوكالة بين أميركا وروسيا عبر لاعبين صغار؟ الجواب: نعم، ثمة لاعبون صغار لكنهم ليسوا دولاً في غالب الأحيان. إنهم تنظيمات تعمل لدى لاعبين كبار دوليين ولاعبين كبار إقليميين.
ربما لهذا السبب طالت، وستطول أكثر، الحروب في سورية والعراق واليمن وعليها. فاللاعبون الكبار الدوليون أصبحوا يعايشون لاعبين كباراً إقليميين قادرين على منافستهم باستئجار لاعبين صغاراً وزجّهم في حروب بالوكالة تجري خارج أراضي اللاعبين الإقليميين الكبار.
لنضع النقاط على الحروف: تركيا والسعودية، وهما لاعبان إقليميان كبيران، يشنّان في سورية والعراق واليمن حروباً بالوكالة لمصلحتهما بالدرجة الأولى ولمصلحة اللاعبين الدوليين الكبار جزئياً. إيران ستضطر عاجلاً أو آجلاً، إزاء تصعيد الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين ضغوطها عليها بعد انبرام الاتفاق النووي، إلى شنّ حروب بالوكالة لردع أعدائها الدوليين والإقليميين.
ما عاد في وسع اللاعبين الدوليين الكبار الهيمنة على اللاعبين الإقليميين الكبار كما في الماضي التليد. لا أميركا قادرة على الهيمنة على تركيا، العضو في حلف «الناتو»، ولا هي قادرة على لجم السعودية التي تجمعهما منظومةُ علاقات ومصالح كبرى منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. هذا لا يعني أنّ أميركا وروسيا لا تستفيدان من الحروب بالوكالة التي يشنّها لاعبون إقليميون كبار في المنطقة. وهل يمكن نسيان ما فعلته وتفعله «إسرائيل» لمصلحتها ومصلحة أميركا في المنطقة منذ قيامها في العام 1948؟ المهمّ أنّ «إسرائيل» وتركيا والسعودية وإيران أصبحت على مستوى من القدرات وهوامش من حرية الحركة تمكّنها من القيام بمبادرات، بل بحروب، بمعزل عن الولايات المتحدة وروسيا، وحتى من دون استئذان أحياناً.
في ضوء هذه الواقعات والاعتبارات، ما مستقبل الحروب بالوكالة الدائرة حالياً في سورية والعراق واليمن، وهل للمشاورات الدائرة في جنيف والكويت حظ في النجاح؟
لا يبدو أنّ الحرب في سورية والعراق واليمن وعليها تتجه إلى التوقف في المستقبل المنظور. بالعكس، يبدو أنّ لدى أهل القرار في كلّ من تركيا والسعودية اقتناعاً بأنّ سياسة الولايات المتحدة، بعد انتهاء ولاية باراك أوباما أواخرَ العام الحالي، ستكون مغايرة، بل أكثر تشدّداً. مؤدّى ذلك تعزيز مواقف الصقور بين أهل القرار في أنقرة والرياض وحلفائهم في واشنطن الداعية إلى التصلّب وتكثيف الضغوط على أعدائهم ومنافسيهم الإقليميين.
ثمة شواهد لافتة في هذا المجال:
ـ إعلان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير مجدّداً «أنّ على الرئيس بشار الأسد الرحيل سلماً وإلاّ بالقوة».
ـ رفض وفد المعارضة السورية الآتي إلى مفاوضات جنيف من الرياض وجود الأسد أو أيٍّ من فريقه الحاكم في هيئة الحكم الانتقالية المقترح إنشاؤها.
ـ محاولة واشنطن حذف «جبهة النصرة» من قائمة التنظيمات الإرهابية بذريعة تسهيل اجتذابها إلى التزام الهدنة المطلوب بسطها على مختلف المناطق السورية المنخرطة في الاشتباكات. اللافت أنّ ردّ «النصرة» على رفض دمشق وموسكو طلب واشنطن تمثّل في حشد قوات إضافية، بعضها من تركيا، وشنّ هجومٍ واسع من جهات عدة في محاولة لانتزاع مدينة حلب ومحيطها من الجيش السوري.
ـ تعثّر المحادثات بين الأطراف السورية في جنيف والأطراف اليمنية في الكويت، وذلك على إيقاع خروقٍ متعمّدة للهدنة في كلّ من سورية واليمن.
ـ الكشف عن اجتماعات عقدها مسؤولون سعوديون كبار «متقاعدون» مع مسؤولين أمنيين إسرائيليين «متقاعدين» أيضاً، كان آخرها لقاء الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات السعودية السابق، مع الجنرال ياكوف عميدرور، رئيس «مجلس الأمن القومي الإسرائيلي» السابق، في سياق ندوة نظمها «معهد واشنطن لدراسة سياسات الشرق الأدنى».
هذه التصريحات والمبادرات واللقاءات تشكّل شواهد ناطقة بإرادات اللاعبين الإقليميين الكبار باتجاه متابعة الحروب الدائرة في سورية والعراق اليمن وعليها، بل تعزيزها لغاية الوصول إلى أغراض جيوسياسية، بعضها معلن وبعضها الآخر مضمر.
لعلّ أخطر الأغراض المعلنة في هذا المجال تغييرُ نُظم الحكم في كلٍّ من سورية والعراق واليمن وليس مجرد الإطاحة برؤوسها. فالمطلوب تغيير مجمل النظم القائمة هناك بحكّامها ومؤسساتها وسياساتها لتأمين دورانها مستقبلاً في أفلاك لاعبين إقليميين كبار على صلةِ تحالفٍ وتعاون مع لاعبين دوليين كبار.
لأنّ الغرض المعلن كبير وخطير، والصراعات التي تكتنفه طويلة وقاسية، فإنّ الحروب المستعرة في سورية والعراق واليمن، ولا سيما في فلسطين، ستبقى ناشطة ومتأججة ولن تضع أوزارها في المستقبل منظور.
(البناء)