بقلم ناصر قنديل

ما يغيبُ عن بعض المتابعين لملفات المنطقة

ناصر قنديل

– يجري تناول أحداث المنطقة عموماً وفق جزئيات مشاهدها المنفصلة شكلاً، بينما هي كلها مرتبطة عضوياً بمشاهد الحروب الممتدّة من سورية إلى اليمن والعراق وليبيا، وخلفها أزمات التسويات ومشاريع قيصرية متعثرة لولادة حكومات توافقية، وفي جوارها أنظمة راكدة بلا جاذبية تواجه مخاطر الإرهاب والضعف الاقتصادي، من مصر إلى تونس والمغرب، وأنظمة وكيانات تعاني من التراجع والتقهقهر وتطلق ضجيجاً وصراخاً يحلان مكان صمتها المعبر أيام القوة، وتخوض حروباً بلا أفق وتسويات بلا شجاعة قياساً بقدرتها على التربّع فوق عرش حروب الآخرين وتسوياتهم في أيام العز، وتشترك في هذه الصورة كلّ من السعودية وتركيا، وفي المنطقة كيان تربّع طويلاً على منصة القول الفصل في الحرب وأنشأ مهابة ردع وشبكة أخطبوطية لعلاقات الهيمنة على الساحتين الإقليمية والدولية يستشعر خسارة المكان والمكانة، ودخل شيخوخة العجز عن الحرب والسلم معاً، وبات يخشى كلّ مقبل، ويرتعد قلقاً من سلام الضعفاء وحرب المذعورين وهذا هو حال حكومة الاحتلال.

– في المشهد الإقليمي ذاته ظهر تنظيم «القاعدة» بمتفرّعاته مقاتلاً علنياً في قلب تحالفات لم يحلم بها، تضمّ ائتلافات مباشرة وغير مباشرة ممتدّة من واشنطن وتل أبيب وتحظى بمباركة ودعم في كلّ من أنقرة والرياض، وتستثمر على أزمات نموذجية لنموّها وتمكّنها من الفوز حفرت عميقاً في النسيج الاجتماعي لكلّ من سورية والعراق، واختبر أعرق أحزاب الإسلام السياسي الذي يمثله تنظيم «الإخوان المسلمين» فرصة وصوله إلى الحكم في أهمّ بلدين في المنطقة تركيا ومصر، ومعهما تونس وبعض من ليبيا والمغرب وسورية والأردن، ومعه راية مقاومة في فلسطين، وفوق كلّ ذلك قدر كافٍ من الرضى في واشنطن وتل أبيب، وما كان يمكن له أن يحلم بأكثر ولا بأفضل، ورغم ذلك ما عاد ممكناً وصف تجربته بغير الانحدار العمودي المدوّي الذي لا قيامة بعده ينازع فيها لبقاء ما تبقى منه، في تركيا أو بعض من البقايا في سواها.

– في المقابل تظهر إقليمياً معادلة تقول إن إيران تنتقل من الدولة المعزولة الملاحقة بلقب الدولة المارقة، لتصير جزءاً من معادلة نادي الكبار، ويعترف لها أعداؤها بهذه المكانة. وتثبت إيران بسلوك الدولة القادرة أهليتها لتجديد حياتها السياسية بحيوية، وتقدم جاذبية مجتمعية لتجربتها، وتتقدّم في الإنجازات العلمية، والنمو الاقتصادي. وكذلك تظهر سورية وقد عرفت أشد وأقسى الحروب، واجتمعت عليها الدول جيوشاً ومخابرات وتمويلاً وإعلاماً، ولوحقت وعوقبت وحظرت، وحوصرت، ورغم كل ذلك تظهر دولة متماسكة قادرة على تخطي المحن، وجيشاً مؤهلاً لتحقيق الإنجازات في الميدان، كقوة برية مؤهلة لقيادة الحرب على الإرهاب، ومجتمعاً عصياً على التفكك الطائفي والمذهبي ودخول عهد الفتن والحروب الأهلية، رغم ما عصف به من محن وتشوّهات وما تأثرت به بعض شرائحه من شعوذات وعصبيات، وفي قلب الثنائية الإيرانية السورية تظهر المقاومة في لبنان كقوة مفاجئة في طاقتها على إدارة المعارك المتعدّدة سياسياً وعسكرياً، فهي قوة حاسمة في حرب سورية دون أن يتأثر ميزان ردعها لإسرائيل مقدار ذرة وهي المنشغلة بحسابات اليمن والعراق وسورية، لم تغب عن كل شاردة وواردة في ملف الرئاسة اللبنانية ونقاشات فضائح الفساد ومقترحات قوانين الانتخاب، وتحالفات البلديات، وقد تمكنت بإعجاز يفوق التقدير من تحقيق النصرين، نصرها على إسرائيل ونصرها على تنظيم القاعدة الغامض الذي أعدّ لقتالها لذات يوم وقد جاء.

– خلف هذا المشهد الإقليمي مشهد دولي لا يقلّ عنه، وضوحاً بحجم متغيراته، حيث تظهر الدولة الأعظم وقد فقدت مكانتها، ونزلت عن عرش الأحادية مُجبرة بعد سنوات عناد ومكابرة وقد جرّبت كل سلاح، من حشد الأساطيل إلى العقوبات، وحشد الحلفاء، والتحالف مع الشياطين والعفاريت، والحروب الخشنة والناعمة، وصولاً لحروب الأسعار، ومعها حلفها الأطلسي وحلف مَن يرغب، ومقابلها روسيا المتقدّمة ببطء لاسترداد مكانة مفقودة، والصين الساعية ببطء أشدّ لحجز مقعَد مرموق في اقتصاد العالم الجديد، لكن خلال سنوات خمس، يتغيّر المشهد جذرياً، فواشنطن تسلّم بقيادة روسيا للتسوية والحرب في سورية، ويكفي لقراءة المعادلة الدولية سماع خطاب قوة وثقة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وخطاب الذرائع والتبريرات للرئيس الأميركي باراك أوباما، وسماع عرض الوقائع والشروط والحلول لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وخطاب التنصل والتلكؤ والانكفاء والبكاء لوزير الخارجية الأميركي جون كيري. خطاب الوضوح مقابل خطاب الغموض، خطاب ماذا نريد مقابل خطاب ماذا لا نتمنّى، خطاب فخور بما فَعَل مقابل خطاب فخور بما لم يفعل.

– العالم والمنطقة يتغيّران جذرياً، والبعض يقبع بتحليلاته في الأمس، يتخيّل أن واشنطن والرياض وأنقرة ومَن معهم جميعهم لا زالوا في عز الشباب، ولديهم لكل معضلة حل، ولكل إشكال وصفة، وإذا صمتوا أو تلعثموا فلا بدّ أنهم يخبئون شيئاً لا نعلمه. ومن هذه الزاوية يقارب الكثيرون حرب حلب، فيتخيل البعض أزمة روسية سورية محورها تمنّع روسي عن خوض حرب حلب، ودعوتها لسورية لخوض حرب الرقة ودير الزور إرضاء لرغبة واشنطن بأولوية الحرب على داعش، أو مسعى معاكساً من واشنطن لإشغال سورية وروسيا في حلب للتفرّد في حرب الرقة ودير الزور باعتبارها حرب داعش، وبالتالي حربها وحدها، والبعض الآخر يتخيّل إمساكاً تركياً بزمام الأمور، ويرى أنّ الخسارة السورية تقترب ما لم تنتقل الحرب إلى الأرض التركية وتعامل تركيا بالمثل، تحت شعار فلستقط الصواريخ. ويكفي التذكير أنّ مثل هذه التحليلات والدعوات قد سمعناها مراراً من قبل، يوم ما قبل الفيتو الروسي في العام 2012، وبعده في مفاوضات جنيف. وفي كلّ مرة تمّت فيها مراكمة الإنجازات العسكرية والسياسية، فقيل كلام مشابه يوم فيينا ثم يوم الهدنة، ولكن قبلهما جاء التموضع العسكري الروسي وغيّر وجه الحرب واتجاهها، وبعدهما جاءت حرب تدمر، وبين هذه وتلك سجل سورية مليء بالانتصارات بالشراكة مع روسيا وإيران وحزب الله، لكن بهدوء وبجمع متين للسياسة والميدان، وتركيا تتغيّر كما سيتغيّر سواها بسبب الحكمة والنضج والحنكة وإتقان قواعد اللعبة الإقليمية والدولية، وإدراك أنّ العصبية والانفعالية كتعبير عن غضب الوجع مقبولان، لكنهما لا يصلحان لصناعة القرارات.

– بوضوح هي حرب النصرة، هو عنق الزجاجة الذي يبدو مؤلماً لواشنطن وصعباً وشبه مستحيل على حلفائها اجتيازه بعد تأجيل عمره سنوات، واستحقاقات مسار فيينا وقرارات مجلس الأمن ومضمون أحكام الهدنة صارت على الطاولة. أين هي النصرة هو سؤال لافروف لكيري، إذا كانت مستثناة من الهدنة وهي القوة الأكبر في سورية بين الجماعات المسلحة، ولذلك كنتم تقترحونها وكان حلفاؤكم يقترحونها حليفاً للحرب على داعش فأين يختبئ هذا الفأر العملاق، وفي أكمام أيّ ثوب؟ فإذا كانت الحرب على النصرة جزءاً من أحكام الهدنة وأهدافها فهل تنفكوا من حولها ليتمّ هذا القتال، أو تختاروا الالتحاق بها فتنكسر التسويات، إن لم تقولوا هذا لحلفائكم فما هو وجه شراكتكم في صناعة الحرب على الإرهاب وقيادة التسوية السياسية في سورية؟

– قرار حرب تحرير حلب وأريافها متخذ وهو قرار سورية المؤيَّد من كلّ الحلفاء، بعدما خرجت النصرة إلى العلن من أكمام جماعة الرياض من جنيف إلى الميدان، والذي يدور اليوم هو صراع الغطاء السياسي، وهو أقرب ليكون نقلة الشطرنج الحاسمة، كش ملك، إن رفضت مات الملك، وإن قبلت سحب عن الطاولة، لكنه ميت سريرياً.

– في خلفية كلّ المشهد الدولي والإقليمي، لا يجوز نسيان الزمن، فخلال هذا العام يجب أن تستكمل واشنطن انسحاب قواتها من أفغانستان وقد صار في منتصف الطريق، ويجب أن تتفرّغ لانتخاباتها الرئاسية ومستحقات السياسة الخارجية لتخديم اللعبة الانتخابية، والسعودية تُنهي عام الفشل الكبير في اليمن وتحتاج تسريع الخروج بأقلّ الخسائر، وفي تركيا تنتهي نصف ولاية رئيس الحزب الحاكم بلا إنجازات ويبدو نصفها الثاني سوداوياً، بينما على الضفة المقابلة لا استحقاقات داهمة في روزنامة الزمن، وبرود القدرة على التعامل مع الوقت، وتحمّل تبعات السير البطيء ولكن الثابت نحو النصر، أو التسوية المشرفة، ويكفي القياس لبنانياً على معادلة بسيطة، أنه بعد عام تنتهي الولاية الممدّدة لمجلس النواب، ولن يكون بالمستطاع تمديدها، وفقاً لما تقوله الانتخابات البلدية، وما سيجري في المنطقة خلال عام، وسيكون على المعتمدين على تأجيل مواجهة ساعة الحقيقة أن يستعدّوا مع ساعات رملهم، فالسنة وراء الباب، والانتخابات وفقاً لقانون الستين بلا تفاهمات وتوافقات شاملة بعد المتغيّرات والتحالفات الجديدة فضيحة أحجامهم، والبحث عن قانون جديد تعني توافقات أخرى، ورئيس من هذا المجلس يعني توافقاً قبل نهاية العام، ورئيس من المجلس المقبل يعني المفاجآت.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى