بقلم غالب قنديل

انفصام على حافة الهاوية

مسلحون

 

غالب قنديل

بكل بساطة قيادة «قوى 14 آذار» أيضاً ترفع يافطة مكافحة الإرهاب، وبينما يستعد تيار المستقبل لحوار ثنائي مع قيادة حزب الله لا يوفر متحدثوه فرصة للهجوم على حزب الله لتحميله مسؤولية كل ما يجري. ونراهم يفيضون بحماسة في الهجمات لاعتقادهم أن تلك هي الوسيلة المتبقية لتأكيد الاختلاف مع الجبهة السياسية التي تضم الحزب وحلفاءه، بعدما أكدت الأحداث صحة خياراتها الوطنية. والدليل البسيط أن هجاء الحريرية للتطرف والإرهاب والتكفير يبدو اليوم، على قيمته السياسية، بمثابة «استعارة» موصوفة لخطاب الخصوم من دون أي إقرار لأسبقيتهم في إدراك خطر التورط في الحرب على سورية والجري خلف سراب وعود فيلتمان وخطط بندر وإزهاق أرواح المئات من المجندين بالمال والمعبئين بالأحقاد الذين أرسلوا في بعثات تهريب لم تعمل يوماً بالإغاثة والمساعدات.

يطرح السؤال نفسه عشية انطلاق ذلك الحوار وبعد تحريره من أثقال اشتراطات موتورة، من نوع خروج حزب الله من سورية أو تسليم سلاح المقاومة، لماذا أغرقت البلاد بموجات تأزم خطرة ودفعت على حافة الهاوية لقاء شروط يمكن التخلي عنها؟ كما حصل تماماً عشية تشكيل الحكومة تلبية لتمنيات السفير الأميركي كما تردد في التقارير الصحافية، وطبعاً لم ينكر أحد على قيادة المستقبل حق الاحتفاظ بتلك الأفكار بعدما كفت عن أن تكون شروطاً معطلة.

يجتهد مؤخراً وزراء ونواب «نجباء» من بعض أطراف «14 آذار» في البرهنة على أن نشاط الجماعات التكفيرية الإرهابية في لبنان ليس سوى رد فعل على ما يقوم به حزب الله في سورية، التي ينفثون أحقادهم ضد دولتها الوطنية ولا يترددون في مواصلة التحريض ضد قيادتها ويحاولون من مواقعهم تعطيل أي تنسيق رسمي معها، على رغم ما تمليه ضرورة صد الإرهاب أو حاجة تسويق الموز والبطاطا، أو مجابهة معضلة النزوح وبكل عناد جنبلاطي يتحصن الموقف الحريري تعطيلاً لكل تنسيق محتمل عبر الحدود. والسادة جميعاً لا يمانعون دوراً خفياً لحلفاء سورية وخصوصا حزب الله أو لمدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم في معالجة ملفات ثنائية مع دمشق. بشرط ألا يضطروا بأنفسهم للمجاهرة علناً بأنهم تراجعوا عن أحقادهم العمياء، وازدردوا خيبتهم القاسية بعد صمود سورية التي وعدوا جمهورهم مراراً بأنها ستسقط. وتدحرجت مواعيد الفشل تباعاً وليس ثمة من يسأل أو يفكر بوقف الأسطوانات المشروخة والبائسة.

جميع الاعتداءات على الجيش اللبناني في عرسال وطرابلس وسواها لا تختلف واقعياً عن جرائم مشابهة ارتكبت منذ سنوات على يد «القاعدة» وفروعها وأصولها المتحصنة بقاياها وخلاياها في مناطق عدة بمثابة أرشيف مصفوف لموجات التكفير التي تفضح في سيرها التراكمي كذبة الخطاب الشائع عن رد الفعل المزعوم.

العودة علمياً إلى تاريخ النشاط التكفيري والقاعدي في لبنان تظهر انفصام المستقبل و«قوى 14 آذار»، وابتعادهم عن الواقع لتبرير منطق سياسي يستصعبون مراجعته على رغم كونه مبنياً على بث الأحقاد ويعرض الوحدة الوطنية للخطر.

وقعت معارك الضنية عشية الألفية الجديدة قبل أعوام من ظهور التكفيريين في سورية، ويومها كان على رأس جماعة الإرهاب التكفيري الغازية القيادي القاعدي أبو عائشة بسام كنج القادم من حروب أفغانستان بجواز سفر أميركي ناله مع وسام الشرف الذي وهبه الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان «لأبطال الحرية»، كما وصف سائر مجندي «مكتب الجهاد» برئاسة أسامة بن لادن في ثمانينات القرن الماضي.

من تلك الأحداث ورث لبنان معضلة موقوفي الضنية الذين منعت توصية أميركية الإفراج عنهم ليظلوا ورقة ضغط وابتزاز وتحريض يجري تحريكها وتوظيفها. والغريب أن حكومات عدة تعاقبت منذ معارك الضنية شغل فيها مستقبليون بارزون وزارتي العدل والداخلية ورئاسة الحكومة أحياناً، وظل الملف معلقاً فلا فتحت المحاكمات ولا تمت تسوية الأوضاع. واستمر المستقبل متباكياً على هذه القضية من داخل الحكومة وخارجها بينما لم يتقدم بأي خطوة عملية لوضعها في طريق المعالجة وفق الأصول، وتظهر صارخة فضيحة ما يجري في سجن رومية ربطاً بالملف نفسه. إنه الانفصام السياسي مرة أخرى.

هكذا يتردد صدى السؤال «البريء»: كيف استجلبت إلى لبنان جماعات التكفير وما هي الخرافات والأكاذيب التي روجت للتغطية على تورط جهات معروفة بضمان الحماية والتسهيلات لتلك الجماعات منذ أزمة «فتح الإسلام»، وصولاً إلى دور تلك الجهات النشط في عمليات استيراد السلاح وتهريبه إلى سورية، ودعم الجماعات التكفيرية الموجودة في مناطق معروفة وتحت تغطية حملات الإغاثة ومن مكاتب ومحميات ما يسمى بالثورة السورية وفصائل ما يدعى بـ”الجيش الحر” وغيرها من عصابات الإرهاب ومرتزقة الاستخبارات الأجنبية والخليجية.

بكل أسف لا يبدو الرأي العام اللبناني قادراً على التحرر من العصبيات الطائفية والمذهبية ليرى بوضوح في غياب العقل النقدي، بينما يهيمن تراجع الروح النضالية في العمل السياسي الذي أسرته رتابة الوظيفية الرثة والتقاليد البيروقراطية الراسخة في سائر أحزاب لبنان الغافلة عن وطن يترنح على حافة الهاوية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى