أوباما أطلق الحروب الناعمة
غالب قنديل
بإمكاننا توقع صخب الاحتفال في مقرات الاستخبارات والمراكز القيادية الأميركية المختصة بأميركا اللاتينية بعد التطورات الأخيرة التي حاصرت رئيسة البرازيل داخل البرلمان الذي بات في قبضة اليمين الفائز بالانتخابات مستثمرا متاعب تراجع أسعارالنفط وانعكاسات عديدة اقتصادية واجتماعية مرهقة تفاقمت في السنوات الأخيرة.
واجهت الرئيسة روسيف اتهامات بهدر المال العام في حملة إعلامية واسعة كرس نتائجها تصويت على توصيف أمر رئاسي بتخصيص اعتماد ضخم بالمليارات ( 11 مليار دولار ) لمساعدة الطبقات الفقيرة وجاء ذلك بعد ما وقع في الأرجنتين انقلاب سياسي مشابه في الانتخابات الرئاسية في حين تعيش فنزويلا وسط اضطراب كبير يواجه الرئيس مادورو خليفة الزعيم الراحل هوغو شافيز.
الحصيلة العملية هي تقريبا شل الجناح اللاتيني من مجموعة البريكس الدولية بقيادة البرازيل التي منحت للمجموعة الحرف الأول من تسميتها بينما تشتعل الأزمات السياسية والدستورية والحركات الاحتجاجية النقابية في معظم العواصم العاصية على مشيئة الولايات المتحدة في ما وصف تاريخيا بالحديقة الجنوبية للبيت الأبيض.
من باب المصادفات غير البريئة أن الأحزاب والنقابات ووسائل الإعلام وما يدعى بمنظمات المجتمع المدني المنخرطة في كل ذلك الصخب محظية برعاية خاصة مالية وتقنية من وكالات الدعم والرعاية المتخصصة في واشنطن التي تسرج خيول الحرب الناعمة وتنشب اظافرها الدقيقة في كل مكان بينما تبدو موجة انفتاح اوباما على كوبا أداة لفتح أبواب تسلل بارد إلى القلعة الثورية اللاتينية الملهمة بعد فك الحصار عنها ويمكن الاستنتاج أن أوباما لايضيع الوقت وبينما يحزم حقائبه للمغادرة يحجز لائحة من الإنجازات السياسية الهامة لإدارته دفاعا عن الهيمنة الأميركية في العالم.
في ضوء هذه التطورات يمكن تفهم التنبيهات المتلاحقة التي يطلقها الإمام السيد علي الخامنئي حول مستقبل الخطط الأميركية ضد إيران وبالتأكيد فهي ليست اختلاقا لخطر افتراضي بدوافع إيديولوجية بل هي تعبير واقعي عن اخطار حقيقية تنطوي عليها المرحلة المقبلة التي سيطبق فيها الأميركيون استراتيجية القوة الناعمة في التعامل مع إيران بعد اضطرارهم للرضوخ امام معادلات القوة وللاعتراف بحقوق إيران .
السيد الخامنئي المعروف بحصافته الفكرية والثقافية وابتعاده عن أساليب البروباغندا الغربية يتابع على الأرجح ما تنتجه مراكز التخطيط الأميركية من دراسات وتقارير حول الوضع الإيراني الداخلي وما تقترحه من تدخلات تهدف لاستمالة فئات اجتماعية وعمرية معينة داخل البلاد ولاستهدافها بغواية نماذج الاستهلاك الأميركية وتحت شعار الانفتاح والشراكات التجارية ومن خلال توظيف متقن لجميع الحساسيات الإثنية والسياسية في المجتمع الإيراني .
تسخرالولايات المتحدة لحربها الناعمة وسائل الاتصال الحديثة وهيمنتها التقنية على شبكة الأنترنت العالمية وامتلاكها لشبكات عملاقة من الأقمار الصناعية وتحكمها بأسواق العالم المالية وهي توظف منابر إعلامية عالمية تطور بثها بالفارسية وتكيف لغة مخاطبتها للداخل الإيراني بهدف استمالة قوى اجتماعية نحو الالتحاق بمنظومات الهيمنة الغربية في المنطقة والتخلي عن الثقافة الإيرانية السائدة منذ انتصار الثورة ومحورها التعبير عن مصالح إيران وتطلعاتها من خلال نهج استقلالي تحرري مناهض للهيمنة الاستعمارية الصهيونية وعبر نهج سياسي داعم لنضالات الشعوب وقضاياها وخصوصا لقضية فلسطين .
تقضي الخطط الأميركية بالسعي لعزل الشباب الطالع والقوى الاجتماعية الفتية عن هذا النوع من المفاهيم ويبني مخططو الحرب الناعمة رهاناتهم على ما يصفونه بالتعب من الحصار والمواجهة والتطلع إلى الاستراحة من القيود والضغوط والرغبة في التمتع بالحياة وهم يروجون في هذا السياق لخطب الشراكة مع الغرب والانفتاح كما يوظفون مفاعيل التطلب الاستهلاكي لتخطي نفوذ الشريحة العمرية التي صعدت في قيادتها للرأي العام الإيراني قبل أربعة عقود مع انطلاق الثورة وتلك مفاتيح أميركية تم اختبارها في تقويض الاتحاد السوفيتي والتخطيط للهيمنة على جمهورياته السابقة بما فيها روسيا.
ما يجري في دول اميركا اللاتينية يستحق الدراسة والمتابعة فهو نموذج لمفاعيل الحروب الأميركية الناعمة او “الذكية” كما تسمى في واشنطن وهي حروب حقيقية وموجعة تستهدف إيران وسورية ولبنان والجزائر واليمن ومصر وكوبا وهي ستطال روسيا والصين وجنوب أفريقيا والهند وسواها من دول العالم المتمردة على المشيئة الأميركية وينبغي التمعن في محاور الحملة التي تستهدف حزب الله مؤخرا كنموذج لما يجري تنفيذه في المنطقة.
نمط من الحروب التي تقوم على تفعيل التناقضات الداخلية وتوظيف نتائجها وتسخير شتى الأدوات والسبل لشبك ولتجنيد قوى وشرائح اجتماعية وحركات سياسية ونقابية في حراك مناهض لإرادة الاستقلال تحت عناوين شتى وباستثمار مفتوح للتناقضات والمتاعب ومن خلال التحكم بالفضاء الإعلامي والقدرة على تعقيمه باستعمال التفوق التقني الأميركي في عالم الاتصالات والسيطرة الأميركية في أسواق المال العالمية وغيرها من مواقع القوة التي تمسك بها الإمبراطورية الأميركية على الرغم من تقلص نفوذها العالمي.
ما يجري في البرازيل وما جرى في الأرجنتين وما تشهده بوليفيا ودول لاتينية أخرى من اضطرابات وانقسامات وصراعات سياسية له ظروفه ومحركاته الداخلية وبعضها ربما ناتج عن قصور فكري او سياسي لدى القوى الاستقلالية نفسها لكن فيه بصمة نافرة لتدخلات اميركية خفية ومفضوحة فمن الواضح ان الولايات المتحدة فهمت مغزى زحف التيارات الشعبية الاستقلالية في تلك القارة ونهوض ما عرف بالبوليفارية مما يهدد الهيمنة الأميركية والمصالح الأميركية التي يصعب الدفاع عنها راهنا بالوسائل والأدوات التي اعتمدتها واشنطن قبل نصف قرن عبر نشر فرق الموت وتدبير الانقلابات ودعم الديكتاتوريات العسكرية ومن خلال التدخلات التي وصلت إلى حدود الغزو المباشر او شن حروب بالوكالة كما حصل في بنما ونيكاراغوا والسلفادور وغيرها.
إنه عهد الحروب الناعمة عهد تدخلات اميركية واستعمارية واسعة ومؤلمة تستعمل فيه بدلا من الجيوش والأساطيل أدوات اخرى كالمصارف والقنوات الفضائية ووكالات الاستخبارات والشركات الاستثمارية وشركات الإعلانات ومنظومات معقدة من ادوات صناعة الرأي العام واختراق المجتمعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي …وما تزال الولايات المتحدة هي القوة العالمية المهيمنة في هذه المجالات جميعا ويستدعي الانتصار على حروبها الناعمة إرادة مقاومة ذكية تتسلح بوعي كبير وبقدرة نوعية على الإبداع والتفوق وكذلك تحتاج إلى إمكانات كبيرة لا بد من حشدها وتوظيفها لكسر الحصارات ومحاولات الخنق ومنظومات العقوبات التي سوف تشتد وتتوسع .