ضد أربع ساحات: يوآف ليمور
أنفاق في غزة، موجة إرهاب في الضفة، عمليات «داعش» والحرب الاهلية في سوريا، تعاظم حزب الله ومستقبل المشروع النووي في إيران، استقرار الحكم في مصر وفي الاردن ـ كل هذه هي فقط بعض من التحديات التي ترافق في السنوات الاخيرة الشرق الاوسط، وإسرائيل، والتي تجمع بينها ميزة بارزة للغاية هي انعدام اليقين ـ المسؤولون عن محاولة تبديد انعدام اليقين هذا، او على الاقل ايضاح بعض من مؤشراته، هم رجال الاستخبارات: فهم المطالبون بان يقدروا ماذا سيكون، وأن يضعوا بنية تحتية للرد التنفيذي (والسياسي) الإسرائيلي. عشية عيد الفصح جمعنا في مقابلة حصرية أربعة قادة الساحات في دائرة البحوث في شعبة الاستخبارات العسكرية: «ع»، رئيس الساحة الفلسطينية؛ «ش»، رئيس الساحة اللبنانية، «ر»، رئيس ساحة دول المنطقة والقوى العظمى؛ و «أ»، رئيس الساحة الشمالية ـ الشرقية (سوريا، العراق وإيران).
في الماضي كانت في شعبة الاستخبارات العسكرية «امان» ساحات أكثر، ولكن التغييرات الاقليمية ومتغيرات اضافية اخرى مثل عالم السايبر واضطرابات الميزانية أدت إلى المبنى الحالي الذي تكون فيه أربع ساحات (وواحدة اخرى فنية) مسؤولة، عمليا، عن كل العالم. وبطبيعة الحال وبطبيعة المهنة، فان الاشخاص انفسهم سريون، ولكن التقديرات عما هو متوقع لنا يطرحونها هنا لاول مرة ليوفروا اطلالة نادرة على التهديدات (والفرص) حولنا.
غزة: ردع هش
غزة توجد في هدنة عميقة، واذا نظرنا إلى الامر منذ الفترة التي صعدت فيها حماس إلى الحكم ـ فهي هادئة بتعابير تاريخية. وبالتوازي، نرى عملية تعاظم مستمرة، النفق الذي انكشف مؤخرا في جنوب القطاع هو جزء منه. ورغم أنه بتقدير شعبة الاستخبارات نفق قديم حفر قبل فترة الجرف الصامد، فان هذا الجهد مستمر.
على المستوى الاستراتيجي تعيش حماس في ضائقة. فاذا كانت تحدثت في الماضي مع الجميع وتلقت المساعدة من الجميع، فانها اليوم معزولة. فقد طلقتها مصر تماما، ومن ناحيتهم فانها تساوي «داعش»، ولدى السعودية ودول اخرى يوجد لها منافسون. فالمال يذهب إلى اليمن، إلى سوريا والى تهديدات اكثر اشتعالا.
التمويل والوسائل القتالية تحصل عليها المنظمة اساسا من إيران، التي تنقل معها بالتوازي حملة اهانات، لانها تطالبها بان تقرر في أي جانب هي: معها، أم مع السنة في سوريا. فضلا عن ذلك، فان النشاط المصري يجعل من الصعب ايضا ادخال السلاح إلى القطاع (من ليبيا اساسا)، بحيث أن حماس تجد نفسها منعزلة اكثر من أي وقت مضى.
رغم ان الظروف الاساسية في القطاع تشبه تلك التي سادت قبل الجرف الصامد، فان حماس مردوعة من المواجهة. ولا ينبع هذا من العزلة الاستراتيجية، بل اساسا من ضائقة السكان. ففي القطاع يوجد اليوم ثماني ساعات غير متوالية من الكهرباء في اليوم و 50 في المئة فأكثر بطالة (ولا سيما لدى الشباب)، وقدرة حماس على أن تأخذ السكان مرة اخرى إلى مواجهة واسعة هي قدرة محدودة. رغم العزلة، تنجح حماس في ايجاد صناعة سلاح مزدهرة. فاذا كان السلاح في الماضي يتم تهريبه في معظمه من الخارج، فانه ينتج اليوم في القطاع على اساس علم محلي ومواد تبقت في بعضها من السنوات التي هربت فيها كميات كبيرة، وبعضها من انتاج محلي، وان كان بجودة اقل.
بقيت العلاقات داخل حماس مركبة مثلما كان في المثلث بين الذراع العسكري والذراع السياسي في القطاع وبين خالد مشعل في الخارج. العنصر الجديد هو القوة المتعاظمة ليحيى سنوار، من الاباء المؤسسين للحركة والمحرر في صفقة شاليط، والذي جعل لنفسه مكانة مستقلة، ورغم أنه ينتمي رسميا للقيادة السياسية فانه لا يخفض عينيه عندما يتحدث مع محمد ضيف.
ثمة ثلاثة سيناريوهات من شأن الوضع في غزة فيها أن يتغير. الاول، قرار تبادر اليه حماس في أنه لا يمكن المواصلة في الوضع الحالي من العزلة والضائقة الاقتصادية، والسبيل الوحيد لتغييره هو من خلال انجاز كالاختطاف مثلا. مثل هذا السيناريو لعملية تأتي بمفاجأة تامة، يقوده ضيف وسنوار، ولكن احتمالاته متدنية جدا.
في السيناريو الثاني، الذي هو ايضا في هذه اللحظة باحتمالية متدنية، تخرج حماس لعملية كخطوة مسبقة او وقائية. فمثلا، إذا كانت تشعر أو تفكر بان إسرائيل حلت لغز الانفاق وتعرف كيف تصفيها، فانها تقرر استخدامها قبل أن تفقدها. أما السيناريو الثالث الاكثر إثارة للقلق بين كل السيناريوهات فهو دينامية تصعيد، مثلما رأينا قبل الجرف الصامد.
حقيقة أن حماس غير معنية الان بالمواجهة ـ او عمليا معنية بان تختار الموعد للدخول فيها ـ لا تعني انها غير مستعدة للمواجهة. فاليوم ايضا هي قادرة على أن تحقق مبادئها القتالية: تنفيذ اقتحامات إلى داخل إسرائيل، اطلاق الصواريخ بشكل متواصل وضرب بلدات غلاف غزة.
معقول الافتراض بان الجولة القتالية التالية ستكون حماس معنية بان تبدأها باقتحام ـ ادخال الكثير من المقاتلين لاهداف عسكرية ومدنية على حد سواء ـ خطوة بدء قوية كل قتال يأتي بعدها لا يمكنه أن يمحو انجازاتها. لهذا الغرض فانها تبني كمية كهذه من الانفاق الهجومية والدفاعية: هذا هو لباب مفهومها القتالي. والنفق الذي انكشف هو جزء من هذا الجهد، رغم أن هذا نفق قديم لم ينكشف في الجرف الصامد؛ يحتمل ألا تكون حماس استخدمته بسبب عدم جاهزيته العملياتية أو أن يكون النشاط في الجانب الإسرائيلي جعل استخدامه صعبا.
يهودا والسامرة: بين اليأس والخليفة
لا يمكن تجاهل الانخفاض في حجم العمليات في الفترة الاخيرة. فلا يدور الحديث عن نهاية موجة الإرهاب بل عن انخفاض، بعضه يعود للنشاط العملياتي وبعضه يتأثر بأحداث اخرى. ومثلما اندلع العنف ليس من حدث مبادر ومنظم، هكذا خبا ومن شأنه ان ينشب من جدديد. وعليه، فان التعريف للاحداث هو الاخر «هبة» كما يسمي الفلسطينيون ذلك هم ايضا؛ ليس مثل الانتفاضة الاولى إذ لا يوجد هنا جماهير، وليس مثل الثانية لانه لا توجد هنا مزايا الإرهاب المنظم.
العامل المركزي الذي يصعب حل لغزه هو الشباب. حتى الان كانوا يسمونهم الجيل المصلحي الذي نسي معنى ان يكون المرء فلسطينيا، والان وجدوا لانفسهم صوتا. هذا جيل يركل كل شيء: يركل السلطة، يركل إسرائيل، يركل جيل الاباء ويركل المنظمات، وعليه فانه اكثر تعقيدا على الفهم. ولا يزال، يدور الحديث عن عادات قليلة: أغلبية الجمهور بقيت في البيت ولا تنضم إلى الاحداث. وعليه فان التقديرات هي الاخرى لا تتناول «الجمهور» بل «اجزاء من الجمهور»، ولا سيما الشباب.
في نظرة أوسع، فان موجة الإرهاب الحالية هي جزء من عملية تصدع النظام الشامل الذي كان في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) منذ 2007: ابو مازن كحاكم فردي وقوي، فتح ملجومة ومشاركة في الحكم، حماس مضعفة، وجمهور هاديء ـ في كل هذه المداميك توجد صدوع. لاول مرة يوجد اليوم انشغال بمسألة الخليفة، وواضح أنه انتهى عصر الابوات. ليس لابو مازن خليفة طبيعي، ومتوقع معركة خلافة غير بسيطة بين غير قليل من المحافل، ويحتمل أن نرى ارتباطا لبعض من ذوي القوة في ائتلاف سلطوي.
في هذه الاثناء من سيربح من الاحداث هي حماس، التي حيال الضائقة في غزة تشخص في الضفة فرصة استراتيجية. فحماس تأمل بان تتصاعد الاحداث فتجر إسرائيل لعمل في الضفة، والى الضعف الذي سينشأ، إلى الفراغ، تدخل فتسيطر. في حماس ايضا يلاحظون الانخفاض في حجم الاحداث، ويحاولون تشجيع الجمهور على النشاط والعمليات. في هذا الجانب، فان الفترة الحالية لعيد الفصح حساسة على نحو خاص، لانه تشارك فيها ملازمات دينية (الحرم) وكذا كميات كبيرة من المتنزهين الذين هم دوما هدف محتمل وسهل نسبيا للإرهاب.
التخوف الاساس هو أن يجبر التدهور الجهتين المسلحتين المركزيتين ـ اجهزة الامن والتنظيم ـ إلى التوجه ضد إسرائيل، مما يغير الوضع من الاساس. فطالما بقيت المنظومة الفلسطينية مستقرة والرواتب تدفع فان احتمال ذلك طفيف نسبيا، ولكن تصاعد العمليات او معارك الخلافة الداخلية من شأنها ان تضعضع التوازن الحساس القائم. في هذا الجانب، فان استمرار التنسيق هو مصلحة مشتركة ـ إسرائيلية وفلسطينية.
يغطي التنسيق الامني بقدر كبير على غياب المسيرة السياسية ايضا. فابو مازن يعارض العنف، ليس لانه نباتي بل انطلاقا من الفهم بان هذا يخدم إسرائيل. وعليه فهو يعمل في اتجاه استراتيجي آخر: لذع إسرائيل وضعضعة اساساتها في الساحة الدولية. أبو مازن لا يؤمن بانه سيصل عبرها إلى هدفه ـ دولة فلسطينية ـ ولكنه يعتقد بان تعاظم هذه الميول سيجعل ادارة النزاع باهظة الثمن اكثر على إسرائيل، وعندها فانها ستلين لتقبل بحل ما.
سوريا: ضوء في نهاية الحرب
ان المساعي الدولي لانهاء القتال في سوريا ادت إلى تغيير في التقدير الاستخباري: فاذا جرى الحديث حتى الان عن حرب ليس لها افق ومن غير المتوقع فيها حسم في المستقبل المنظور، بات الحديث الان يدور عن احتمال للتسوية، في ختامها (وبخلاف التقديرات السابقة) تعود سوريا لتؤدي دورها كدولة.
من المتوقع لهذه الخطوة أن تستغرق اشهر، وربما حتى سنين، وهي منوطة بمتغيرات كثيرة جدا. ليس واضحا إذا كانت سوريا ستقسم في نهايتها إلى فيدراليات على اساس طائفي، أم ستكون فيها مناطق ذات حكم ذاتي، كما ليس واضحا من سيسيطر فيها: ليس للاسد خليفة واضح، ومثلما في السلطة الفلسطينية ـ معقول ان بعده سيقوم ائتلاف لمراكز قوة، ويحتمل أنه خلافا للماضي لن يقوم هذا فقط على الطائفة العلوية. تسوية كهذه لن تتاح بدون روسيا، التي ستحافظ على العلويين وعلى مصالح إيران وحزب الله ايضا، وبالاساس على مصالحها: تواجد عسكري في الشرق الاوسط، حفظ قوتها في الصراع بين الكتل، تحقيق مصالحها الاقتصادية ومنع انتقال الإرهاب الإسلامي إلى حدود روسيا. صحيح أن جيش الاسد تعزز مؤخرا في اعقاب بضع نجاحات عسكرية، ولكنه يواصل الاعتماد اساسا على المساعدة الروسية والإيرانية. في سوريا يوجد اليوم اكثر من 10 الاف مقاتل من الميليشيات الشيعية تساعد الجيش السوري، يضاف اليهم نحو 1.500 مقاتل إيراني، والاف من مقاتلي حزب الله وكذا قوة روسية هامة. كما أن روسيا تدير عمليا جزءا من القتال، ولا سيما في تركيز الهجمات ضد «داعش».
النشاط الروسي (وكذا الأمريكي) أوقف مؤخرا الانتشار الجغرافي ل»داعش»، الذي تكبد بالتوازي انخفاضا بعشرات في المئة في قدرته الاقتصادية ايضا. والسبب المركزي في ذلك هو الضربة للبنى التحتية النفطية، ولكن ايضا الانخفاض في المداخيل من الضرائب كنتيجة لقلة السكان في المناطق التي تحت سيطرته. واستمرارا لذلك يتبين انخفاض ما في وتيرة تجنيد المقاتلين الجدد إلى صفوف «داعش»، الذي يعيش الان في دائرة مغلقة: الخسائر الاقليمية والمالية تقلص الهالة وحده كتنظيم ثوري لا يهزم، وبالضرورة تخفض هذه الدافعية للخدمة والتجند في صفوفه.
لقد أدى هذا الضغط في سوريا وفي العراق، على ما يبدو، إلى العمليات الاخيرة في أوروبا كجزء من جهود التنظيم للابقاء على الزخم. والتقدير هو ان مثل هذه المحاولات ستستمر ايضا على خلفية انضاج القدرات العملياتية، ولكن الاستخبارات لا تلاحظ في هذه اللحظة تركيزا لجهود «داعش» على اليهود أو على الإسرائيليين.
كما أن احتمالات العمليات المباشرة ضد إسرائيل ـ من حدود هضبة الجولان ـ متدنية نسبيا، ليس لنقص الدافعية بل بسبب مصالح اولى: صراعات السيطرة في هضبة الجولان حيال مجموعات اخرى. لدى «داعش» (وكذا جبهة النصرة) توجد قدرة ووسائل قتالية مناسبة لتنفيذ العمليات عبر الجدار، ولكن تصريحاتهم لا تشهد في هذه اللحظة على النية للتركيز على إسرائيل بل على محاولة توسيع سيطرتهم في الاراضي السورية. وبالمناسبة، في الغرب قلقون مؤخرا من ترسيخ وضع «داعش» في ليبيا لدرجة امكانية أن يسيطر على اجزاء واسعة في الدولة وبالاساس على ذخائرها الاقتصادية مع التشديد على النفط. فالقرب الجغرافي من أوروبا متداخلا مع كمية وتنوع الوسائل القتالية في الدولة كفيل بان يؤدي إلى عمل عسكري قريب في ليبيا بهدف الامتناع عن تكرار السابقة العراقية ـ السورية في اقامة دولة «داعش»ية جديدة.
ولكن بينما تلوح ليبيا بأنها التحدي التالي، فان ضعف «داعش» في قاعدته الحالية يفترض، لاول مرة، امكانية عملية بان يهزم دون تواجد عسكري اجنبي على الارض. واحتلال تدمر هو مثال بارز على ذلك، والتحدي التالي سيكون القتال ضد مركزيه الاخرين ـ الرقة في سوريا والموصل في العراق. وفضلا عن ذلك، سيجد «داعش» صعوبة في أن يعود إلى التوسع، وتوسيع الضربة له سيزيد ايضا احتمال تحقيق تسوية تنهي القتال في سوريا.
واستمرارا لذلك، وهذا تغيير ايضا، واضح أن «داعش» لن يسيطر على سوريا، ولكن إيران هي الاخرى لن تسيطر. بالمقابل، فان التطلع الإسرائيلي للتعطيل التام للتدخل الإيراني في سوريا يلوح بانه غير واقعي، ولكن في كل تسوية مستقبلية ستطلب إسرائيل التقليص قدر الامكان لمسارات نقل الوسائل القتالية من إيران (عبر سوريا) إلى حزب الله، التأخير قدر الامكان من اعادة بناء الجيش السوري الذي تآكل جدا في السنوات الخمسة من الحرب الاهلية، وايجاد آلية تضمن الهدوء في هضبة الجولان ـ الممزقة الان بين جملة محافل، مما من شأنه أن يجعل تحقيق الاستقرار فيها صعبا.
حزب الله: درع لبنان
دفع حزب الله في الحرب في سوريا ثمنا باهظا أكثر مما كان معروفا حتى الان: نحو 1.300 قتيل، ونحو 10 الاف جريح. رغم هذه الاعداد، يواصل التنظيم التدخل عميقا في مساعدة قوات الاسد في الحرب في سوريا؛ نحو 7 الاف مقاتل من حزب الله يشاركون في الحرب، والعلامة العملياتية التي تعطى لهم عالية ـ فقد انتصروا في معظم المعارك التي شاركوا فيها.
لقد وضعت الحرب في سوريا حزب الله في الجانب «الصحيح»: فلاول مرة حقا اصبح درع لبنان. فقد اعطى للتنظيم ما لم يكن له في الماضي ايضا: تجربة قتالية هامة، في اطر كبيرة، بما في ذلك استخدام وسائل متطورة كالطائرات غير المأهولة. ومن جهة اخرى، وضعت له اثقال جسيمة على الرقبة. نفقاته ارتفعت جدا في اعقاب القتال، كنتيجة للحاجة لدفع علاوات للمقاتلين، وتمويل الجرحى وعائلات القتلى.
هذا العبء وقع بالتوازي مع تقليص 10 ـ 15 في المئة من ميزانيته، نتيجة الضائقة الاقتصادية في إيران. ويبدو ضرره واضحا اساسا في الانفاق الجاري، وبقدر اقل في التعاظم. فرغم القتال والخسائر، ورغم التقليصات، يحافظ حزب الله بعناية على مبنى قوته العسكرية استعدادا للمواجهة مع إسرائيل.
بعد سنوات استثمر فيها اساسا بالكميات (الصواريخ) يركز حزب الله الان على النوعية. صواريخ للمدى البعيد، دقيقة، ومع رأس متفجر كبير يضمن ضررا اقصى. وهذا يستهدف السماح له بجباية ثمة كبير من إسرائيل في الحرب التالية، وبالمقابل ردعها من الدخول إلى حرب كهذه لعلمها بالثمن الذي ستدفعه.
يجمل حزب الله لنفسه بايجابية العقد الذي انتهى منذ حرب لبنان الثانية. فقد نما، تعاظم، وبنظرته ـ يردع إسرائيل. بعد سنوات من التجلد على جملة الاعمال المنسوبة لإسرائيل، عاد ليرد على ما يعتبره مسا بذخائره او بمكانته. ومع أنه مستعد لان يمتص الضربات، شريطة إلا يحرج؛ ففي اللحظة التي تنشر فيها الامور وتتضرر مكانته، يضطر إلى الرد بل ومستعد لاخذ المخاطر. وهو يفعل ذلك رغم أن لا مصلحة له في مواجهة واسعة مع إسرائيل، وعليه فهو يحرص على أن يكون رده في اطار «قواعد اللعب» ـ في «هار دوف»، ضد اهداف عسكرية ـ ولكن التخوف هو أن يؤدي تواصل الضربات المتبادلة إلى دينامية تصعيدية وفقدان السيطرة وتدهور الوضع في الشمال. في السنة الماضية كان يخيل ان مثل هذا التصعيد سيأتي بالذات من هضبة الجولان، حيث حاول حزب الله اقامة مثابة قاعدة متقدمة تسمح له بتنفيذ العمليات ضد إسرائيل من غير الحدود اللبنانية. والضربة للشبكات وقادتها، التي نسبت لإسرائيل، ادت إلى اجتثاث الجهد؛ صحيح حتى اليوم يوجد انشغال اقل من حزب الله وإيران في هضبة الجولان، وان كان الواقع كفيل بان يتغير بسرعة.
«بشرى» اخرى ترتبط بجهود حزب الله لتنفيذ عمليات ضد اهداف إسرائيلية ويهودية في ارجاء العالم. فبعد سنوات من النشاط المشترك مع الإيرانيين (ذروته في العملية في بورغاس في 2012) يمتنع التنظيم الان عن الإرهاب في ارجاء العالم. ورغبته الواضحة هي أن يثبت نفسه في الرحاب السياسي في لبنان وكجزء من الحكم الشرعي في نظر العالم، ويخشى من أن تصوره عمليات في الخارج كتوأم لـ»داعش».
إيران: التهديد بقي
منذ التوقيع على الاتفاق النووي، لا تلاحظ الاستخبارات بان إيران تنفذ اعمالا محظورة عليها بشكل واضح، ولكنها بالتأكيد تلعب على الحدود وتناور مع ما هو مسموح لها وممنوع عنها. المثال على ذلك كان حيازة كمية اكبر من المسموح لها من المياه الثقيلة، والتخلي عن الفائض قبل وقت قصير من نشر اللجنة الدولية للطاقة الذرية تقريرها للمتابعة الدورية.
ومع ذلك، واضح ان شيئا ما هاما جدا تغير بعد الاتفاق. إيران عادت لتكون جزءا من اسرة الشعوب، ومعقول انها على الاقل في السنوات القريبة القادمة ستكون حذرة من ان تعرض للخطر المكاسب التي تترافق وهذه امكانة. وضمن هذه الفرضيات، فان التحدي الاستخباري للعقد القادم هو الملاحظة في الوقت المناسب للتغييرات أو للبنود التي تخرج فيها إيران عن الاتفاق، ولا سيما كي لا نستيقظ متأخرين.
التقدير، كما أسلفنا، هو أن إيران ستمتنع عن ذلك، وستركز على اعادة بناء الاقتصاد. وقد شهدت الانتخابات الاخيرة على أن الشعب الإيراني يعطي تفويضا واضحا للرئيس روحاني ويؤمن بان بوسعه أن يستخدم الاتفاق النووي لاجل الرفاه الاقتصادي، ولكن خلف الزاوية ـ في 2017 ـ ستجرى الانتخابات للرئاسة، ونجاح أكبر مما ينبغي من شأنه ان يكلف روحاني كرسيه إذا ما شعر الزعيم الاعلى خامينئي بتهديد من جانبه، ونجاح اقل من شأنه أن يكلفه في الانتخابات إذا ما شعر الشعب بخيبة امل لان الوعود لم تتحقق (صحيح حتى اليوم النمو الاقتصادي اقل من المتوقع، وبالاساس نتيجة الانخفاض في اسعار النفط). وبالمناسبة، فان من يسخن المحركات في الاسابيع الاخيرة ويتسلى علنا بامكانية العودة إلى مركز الساحة هو الرئيس السابق، احمدي نجاد، الذي يحق له الان العودة للتنافس.
القلق الإسرائيلي لا يتركز فقط في موضوع النووي. فالانتقاد الاساس على الاتفاق يكمن في حقيقة أنه لا يعالج على الاطلاق المساعدة المكثفة التي تمنحها إيران لمحافل إرهابية مختلفة، وعلى رأسها حزب الله، حماس والثوار الحوثيين في اليمن. والى جانب التعاظم التقليدي الإيراني، الذي يوجه في قسم منه إلى مخازن منظمات الإرهاب في المنطقة، وحقيقة أن الاتفاق ـ ولا سيما الحرب ضد «داعش»، يضعها في معسكر «الاخيار» تواصل إيران الترسخ بصفتها التهديد الاكبر، حتى وان لم يكن المباشر والفوري، على أمن إسرائيل.
مصر: الاقتصاد أولا
في دولة يولد فيها طفل جديد في كل ست ثوانٍ، فان التحدي الاساس لمصر هو اقتصادي. اطعام اكثر من 80 مليون نسمة كل يوم. يبذل الرئيس السيسي جهودا جبارة، ناجحة في بعضها، لتحسين الاقتصاد وتعزيز النظام، وعليه فان التقديرات هي أن عوامل الاستقرار أكبر الان من عناصر الاضطراب، ولكن هذا ايضا محدود الضمان؛ فقد شهدت مصر في السنوات الاخيرة ثورتين، وصبر الجمهور فيها قليل وقد ينفد مرة اخرى. التعلق المركزي لمصر اليوم هو بالسعودية، التي بقدر كبير تبقيها على الحياة من ناحية اقتصادية. إلى جانب ذلك، وعلى خلفية خيبة املها الواضحة من الولايات المتحدة، فان مصر تتسكع مع جهات اخرى بينها روسيا وفرنسا، بحثا عن مساند دبلوماسية وعسكرية محتملة للمستقبل. ورغم هذه الميول، لم تغير مصر الاتجاه الاستراتيجي ويحتمل أن تعود مع تغيير الادارة في واشنطن إلى الجانب الأمريكي.
ترى مصر بإسرائيل شريكا، وان كان هادئا، تتشارك معه المصالح فتستقر المنطقة. للدولتين تهديد مشترك فوري مزدوج: حماس في غزة وفرع «داعش» في سيناء، الذي يستند اساسا إلى بدو محليين ويتحدى جدا الحكم بل ويجبي منه ثمنا: بالارواح وبالمال، وبالاساس كنتيجة لفقدان المداخيل من السياحة.
التقدير هو ان لواء سيناء في «داعش» يعد 500 ـ 1.000 مقاتل مسلحين جيدا (السلاح يأتي اساسا من ليبيا) وعلى خلفية التجربة القتالية التي راكموها في السنوات الاخيرة فانهم ينفذون عمليات مركبة ايضا، ضمن اخرى باسقاط طائرة المسافرين الروسية في سيناء.
وفي صوره السابقة عمل التنظيم ضد إسرائيل ـ في العملية على طريق 12 وباطلاق الصواريخ على ايلات ـ اما اليوم فهو يركز على القوات المصرية اساسا، وتأتي إسرائيل بالنسبة لهم في المرحلة التالية. ومع ذلك فالخوف هو انه كلما اشتد الضغط على «داعش» في العراق وفي سوريا، سيصعد التنظيم جهوده للعمل في ساحات اخرى ـ في الخارج وفي المنطقة ايضا. في مثل هذا الوضع، فان العملية ضد إسرائيل ستعتبر انجازا هاما؛ هذه ايضا هي الخلفية للحفاظ على التأهب الدائم في الحدود المصرية.
يوظف الجيش المصري غير قليل من الجهود في حربه ضد «داعش»، ولكن نجاحه جزئي جدا. وينبع بعض ذلك من الابتعاد عن القاهرة: ما لا يهدد العاصمة، يكون اقل الحاحا؛ قسم آخر ينبع من عدم التكيف مع القتال ضد الإرهاب. كما ان هذه الخلفية لقرار إسرائيل السماح لمصر بادخال مزيد من القوات والوسائل إلى سيناء انطلاقا من الفهم بانه رغم أن هذا يعد فنيا خرقا لاتفاق السلام إلا ان الحرب المصرية ضد الإرهاب تعززه عمليا.
السعودية: الاستقرار والأمل
من ناحية السعودية، ينقسم العالم اليوم إلى اثنين: من في جانب إيران، ومن ضدها. في هذا الامر، كل من يعمل ضد إيران، بما في ذلك إسرائيل، هو ذو مصالح مشتركة، وهكذا، فانه حليف محتمل.
الملك الجديد، سلمان باسناد ابنه الذي يتولى منصب وزير الدفاع، يتصدر بالتوازي فكرا فاعلا تقود فيه السعودية علنا المعسكر السني في العالم العربي. وكجزء من ذلك، بدأت السعودية تعمل في كل ساحات المعركة ـ في المساعدة لمصر، ضد حزب الله في لبنان، في المشاركة في الحرب الاقلية في سوريا وبالطبع ضد إيران، وبالاساس في كل ما يتعلق بتخفيض سعر النفط من اجل تأخير اعادة بناء اقتصاد طهران.
هذا التموقع السعودي وضع إسرائيل ايضا في جانب السعودية وضدها ايضا. معها حيال إيران وفروعها، وضدها في كل ما يتعلق بالفلسطينيين. فالحكم في الرياض ملزم بان يدفع هذه الضريبة الكلامية ولكن من الصعب تفويت اصوات الخلفية: التركيز على المحور الفلسطيني سيعطي إسرائيل جملة فرص غير مسبوقة في المنطقة.
للاردن علاقا مع إسرائيل، ومصادر قلق اكبر بكثير. فالتخوف الاساس هو من انتشار «داعش» إلى المملكة وان كانت الخطوات الأمنية التي اتخذها حتى الان الاردنيون نجحت في احباط التهديد. والتحدي الموازي لحكم الملك هو الوضع الاقتصادي، التحدي الذي يتعاظم حيال مئات الاف اللاجئين الذين استوعبتهم المملكة من العراق ومن سوريا. ورغم ذلك، فان الحكم في عمان مستقر، ولا يبدو في هذه اللحظة أي خطر عليه، ومن هنا ايضا لا يبدو أي تهديد فوري على إسرائيل من الشرق.
تركيا: اردوغان يبحث عن أصدقاء
اجتازت تركيا في السنوات الاخيرة تحولا: من صفر نزاعات مع الدول المجاورة، إلى صفر دول مجاورة ليس معها نزاع. هذه هي خلفية جهود حكم اردوغان للتقرب مؤخرا من السعودية، وكذا من إسرائيل، بحثا عن حلفاء جدد واقوياء.
في الساحة الداخلية يواصل اردوغان توسيع نفوذه، وهو قريب من استكمال سيطرته على اجهزة الحكم في تركيا. في الساحة الخارجية قلقة تركيا من «داعش» واكثر من ذلك من الاكراد، وبالاساس من نقص نجاحها في القتال ضدهم بنجاعة، لان الاكراد هم رعايا واضحين للأمريكيين، وبصفتهم هذه فانهم ايضا القوة البرية الاساس التي تستخدمها واشنطن في الحرب ضد «داعش».
في البحث عن التحالفات تخفض تركيا النبرة، وتحاول ان تعرض نفسها أكثر تصالحا وودا؛ تجاه أوروبا وكذا تجاه إسرائيل. وكلما استمرت الحرب في سوريا، واثارها تضر بتركيا ايضا، نتوقع أن نراها تخفف حدة المواقف، ولكن محظور علينا أن نتشوش: اردوغان لم يغير مواقفه، وخطواته ستكون مصلحة وبالتالي يجب أخذها بضمانة محدودة.
إسرائيل اليوم