من الجولان إلى جنيف معسكر العدوان في استعراض وتخبّط… يتبعه الفشل العميد د. أمين محمد حطيط
لم يكن مفاجئاً أن ينسحب وفد الرياض المنتحل صفة «المعارضة السورية»، ويغادر مباحثات جنيف التي تديرها وترعاها الأمم المتحدة تحت إشراف أميركي روسي مشترك. انسحاب سبقه تفجير ميداني واسع شكّل انتهاكاً فاضحاً لقرار وقف العمليات القتالية وتزامن مع قيام رئيس حكومة العدو الإسرائيلي نتنياهو بخطوة استعراضية تمثلت في عقد ما يسمّى الحكومة «الإسرائيلية» جلسة على أرض الجولان السوري المحتلّ، وقد يتساءل المتابع عن مبرّر الربط بين هذه الأمور بخاصة عن السبب الذي يجعلنا نذكر السلوك «الإسرائيلي» إلى جانب تصرفات الجماعات المسلحة سياسياً وميدانياً، رغم الفارق في الطبيعة والهدف ظاهراً، ولكن التدقيق في الشأن يقود إلى اتجاه آخر.
للوقوف على السبب لا بدّ من التذكير بأهداف العدوان على سورية أصلاً، واستطراداً الوقوف على الوعود والتمنيات التي حلمت مكونات العدوان بتحقيقها، والتي من أجلها احتشد القاصي والداني فجاء كلٌّ شاحذاً سيفه من الأقربين والأبعدين، بمن فيهم عرب ومسلمون، اصطفوا خلف أميركا و«إسرائيل» ومعهما الغرب الأطلسي، ليجهز على الجسد السوري ليكون له منه نصيب مما تصوّره «التركة السورية» المستقبلية التي ستنشأ بعد الإجهاز على الدولة الوطنية السورية وليُصار بعدها إلى توزيعها بين أصحاب المصالح من إقليميين ودوليين خططوا لإقامة منظومة حراس المصالح الأجنبية في سورية على أنقاض الحكم الوطني القائم فيها.
وفي هذا الإطار كانت «إسرائيل» تمنّي النفس بتحقيق أمرين أساسيين، أولهما طيّ صفحة الجولان العربي السوري بشطب صفة «محتلّ» عنه والحصول على اعتراف دولي بضمّها له منذ العام 1981، وإغلاق ملف النزاع مع سورية حول الأرض نهائياً، وثانيهما جعل سورية جزءاً من الفضاء الاستراتيجي «الإسرائيلي» خلافاً لما هو الحال الآن وما تشكله سورية من تهديد للأطماع «الإسرائيلية» بوجودها في محور المقاومة الذي يؤرق «إسرائيل» بشكل مؤثر.
أما القوى التي انتحلت صفة المعارضة السورية والمقيمة كلها في خارج سورية، والتي هي في الحقيقة لا تمتّ للشعب السوري ومصالحه بصلة إنما تمثل مصالح دول إقليمية وأجنبية كالسعودية وتركيا وقطر، وترتبط جميعها بالقرار الأميركي.
وقد كان الحلم الوحيد لهذه الجماعات ولا زال منحصراً في تسلّم السلطة التي يعلمون أنها لن تؤول إليهم إلا إذا تمّ تجاوز إرادة الشعب السوري، ولذا ابتدعوا ما أسموه «المرحلة الانتقالية» و«الحكم الانتقالي» الذي يرونه بتعيين القوى الأجنبية للمسؤولين في سورية، وتنصيبهم في مواقع السلطة ليتولوا الحكم بصرف النظر عن الإرادة الشعبية لمرحلة مؤقتة أولاً، كما يزعمون ثم تنقلب إلى دائمة بأشكال متعدّدة عبر استيلاد الصيغ الموقتة بعضها من البعض الآخر وصولاً إلى إنتاج بيئة تتمكن فيها تلك الجماعات من إجراء انتخابات شكلية تزوّر فيها الإرادة الشعبية وتفرض الإرادة الأجنبية التي تمسح السيادة والقرار السوري المستقلّ. وبالتالي فإنّ «معارضة الخارج» هي مشروع تسلّط يمثل تلك القوى الأجنبية يراد له أن يتحكم بسورية لمصلحة الخارج وبشكل خاص السعودية وتركيا وأميركا بعد أن انكفأ الآخرون.
ولأنّ إسقاط سورية وتغيير سلطتها هو مصلحة مشتركة بين كلّ هؤلاء، رأينا مدى التعاون والتنسيق بين «إسرائيل» والسعودية فضلاً عن محاولات تفعيل العلاقة الاستراتيجية بين تركيا و«إسرائيل» التي جاهرت أيضاً باحتضان الجماعات الإرهابية التي يصف الغرب بعضها بأنها «معارضة معتدلة» واضطر للإقرار بالصفة الإرهابية للبعض الآخر وامتنع ظاهراً عن احتضانها لا بل ادّعى زوراً بأنه يحاربها، أما «إسرائيل» فلم تجد حرجاً أو غضاضة بأن تحتضن الطرفين وتمدّهما بالمساعدات على أنواعها العملاني واللوجستي، بما يمكنها من أداء مهامها الإجرامية.
ولكن ورغم كلّ ما بذلته القوى المعتدية على سورية فإنّ العدوان فشل في تحقيق أهدافه وصمدت سورية، صموداً تنامى وتراكمت إنجازاته إلى الحدّ الذي جعل الأساسيين في قيادة معسكر العدوان يقرّون في سرّهم بالفشل ويدعون إلى وقف العمليات القتالية، بخاصة بعد أن لمسوا أنّ استمرار القتال في الوقت الحاضر لن يكون لمصلحتهم في ظلّ موازين القوى التي تبلورت في الثلث الأخير من السنة المنصرمة. ومع هذا الإقرار اضطروا للتظاهر بقبول ما كانت تنادي به سورية وحلفاؤها منذ البدء ودعوتها إلى حلّ سياسي مترافق مع حرب على الإرهاب يشارك فيها الجميع.
أما الموقف الحقيقي لمعسكر العدوان فقد توزع تحت عنوانين: الأول تمثل بالسلوك الأميركي الذي تظاهر بالرغبة في التحوّل إلى العمل السياسي لإخراج سورية من الأزمة وإجراء مراجعة للنظام السياسي القائم فيها، بحيث يمكّنها من زرع عملائها في الدولة ليتقاسموا السلطة مع الحكومة الحالية مع أرجحية لهم، فإنْ لم توافق الحكومة السورية على الأمر كانت مماطلة لتمييع الحلّ وكسب الوقت علّها تستطيع القيام بعمل ميداني مؤثر يؤول إلى تغيير موازين القوى ويفرض على الحكومة السورية ما تريده أميركا. ولأجل ذلك تحدّثت المخابرات الأميركية عن الخطة «ب» والخطة البديلة في حال لم يتقدّم العمل على المسار السياسي.
والثاني تمثل بما كنا فصّلناه في مواقف سابقة، وهو المشروع الصهيوسعودي، الذي ينطلق أصحابه من رفض أيّ حلّ سياسي لا يفضي إلى تسليم عملاء السعودية و«إسرائيل» كامل السلطة السورية، وبشكل حصري بصرف النظر عن قبول الشعب أو رفضه، مشروع يتضمّن عرقلة العملية السياسية القائمة في جنيف الآن، ثم التحشيد العسكري في الميدان والاستعانة بـ»إسرائيل» لـ«الانقضاض» على حزب الله بعد تفجير الوضع الأمني اللبناني، بما يسهّل على «إسرائيل» المهمة. وبالتالي فإنّ الخطتين الأميركية الصهيوسعودية تلتقيان عند عرقلة العمل السياسي والاستعداد للعودة للميدان، لكن كلّاً منهما بطريقة.
ورغم أنّ السعودية قامت بكلّ ما تقدر عليه في إطار هذا المشروع من شيطنة حزب الله ومحاصرته، وحملت أكثر من هيئة ومنظمة إقليمية على إدانة أعماله بوصفها وفق العين السعودية «إرهابية»، إلا أنها فشلت في أمرين أولهما الأمن اللبناني فلم تستطع تفجيره، بسبب عدم توفر الأرضية والبيئة المناسبة، وثانيهما تعذّر تنفيذ الهجوم «الإسرائيلي» الذي كان مشروطاً بسبق التفجير الأمني في لبنان، وعدم تحقق الشروط التي تمكن «إسرائيل» من العدوان القدرة على الانتصار، القدرة على احتمال الردّ، القدرة على صرف الإنجاز إن تحقق ولم يبق بيد السعودية إلا متابعة العدوان على حزب الله، وتعطيل العملية السياسية وإسقاط الهدنة في الميدان السوري. ولتنفيذ ذلك أوعزت السعودية للجماعات الإرهابية التي تديرها بالتحلّل من الالتزام بقرار وقف العمليات العدائية وإشعال الجبهات كلها، من أجل استدراج الجيش السوري إلى الردّ، ومن ثم تحميله مسؤولية انهيار الهدنة ووقف العملية السياسية.
أما «إسرائيل» التي باتت على قناعة بفشل العدوان وبقاء سورية في موقعها الاستراتيجي، مهما كان الحلّ الآتي، وعجزها عن الإجهاز على المقاومة التي باتت باعتراف كلّ المعنيين في «إسرائيل» تمتلك القدرات التي تمكّنها من إرساء توازن الردع الاستراتيجي معها، ما يحول دون اتخاذ «إسرائيل» أيّ قرار بالحرب على لبنان، ثم جاءت صفعة أخرى لـ«إسرائيل» من الورقة الخلفية التي قدّمها دي مستورا للمباحثات، حيث ورد النص على «الالتزام باستعادة الجولان بالطرق السلمية»، ورغم أنّ هذه العبارة فيها من السلبيات ما يجعل القبول السوري بها مستحيلاً، لأنه يُسقط حق سورية بتحرير أرضها بكلّ الوسائل إلا أنّ فيها إيجابية لا تُنكر عبر التأكيد على سورية الجولان المحتلّ، خلافاً لقرار «إسرائيل» بضمّه في العام 1981.
في مواجهة هذا الإخفاق أقدمت السعودية على تفجير الوضع الميداني في سورية، واتبعته بوقف المباحثات في جنيف للضغط على المعنيين علّها تنال شيئاً مما حلمت به ولجأت «إسرائيل» إلى عملية استعراضية بعقد جلسة حكومتها في الجولان المحتلّ وأعلنت أنها باقية فيه إلى الأبد. وفي هذين الأمرين تعبير عن إحباط لدى الطرفين فضلاً عن كونه يشكل تحدياً للأمم المتحدة والمجتمع الدولي الذي اعتمد القرار 2254 الذي على أساسه جرى العمل على المسار السياسي، كما قرارات الأمم المتحدة الأخرى التي تؤكد سورية الجولان ووجوب الانسحاب منه.
أما سورية ومعها حلفاؤها فقد عرفت كيف تواجه التحدّي، ولم تنتظر فكان منها الرفض القاطع للاستعراضات «الإسرائيلية» والتمسك بالجولان وبالحق بتحريره وبكلّ الوسائل، والإصرار على متابعة العمل على المسار السياسي، بقطع النظر عما يجري في الميدان الذي تستمرّ فيه مواجهة الإرهاب بالقدر الذي يقتضيه الموقف لمنع الجماعات الإرهابية من تحقيق أيّ مكسب فيه. وبالفعل نجحت سورية أيما نجاح وعلى الاتجاهات الثلاثة ما أدّى إلى:
1 ـ إحراج الأمم المتحدة والقوى الدولية التي واصلت المباحثات في جنيف، رغم انسحاب ممثلي السعودية منها.
2 ـ عودة القوى الدولية إلى رفض الموقف «الإسرائيلي» والتمسك بالهوية السورية للجولان والتأكيد على الانسحاب منه.
3 ـ منع الجماعات المسلحة من تحقيق إنجازات ميدانية مؤثرة.
4 ـ استمرار العمل بالخطط الموضوعة لاستعادة السيطرة على ما تبقّى من أرض سورية أفسد الإرهابيون أمنَها.
5 ـ التمسك بالفهم السوري لعبارة الانتقال السياسي، لكونه انتقالاً من وضع أراده الشعب إلى وضع جديد قرّره الشعب وارتضاه، وإسقاط كل ما عدا ذلك من مشاريع.
(البناء)