جنيف: رهان على السلاح وكلمة السر السعودية خليل حرب
«ارفعوا سقف مطالبكم». كانت هذه هي كلمة السر التي منحتها السعودية لشخصيات وفصائل سورية سياسية وعسكرية معارضة جمعها السخاء السعودي في كانون الاول 2015 في الرياض، عندما انهمك بعضهم بالبحث عن منازل دائمة عرضها المضيف السعودي كرماً، من اجل اقامتهم الطويلة في عاصمة القلق السعودي.
كلمة السر كانت من ولي العهد السعودي الامير محمد بن نايف قبيل تشكيل ما سمي «الهيئة العليا للمفاوضات» وتوجهها الى «جنيف 3». الخروج الغاضب كما وصفته بعض وكالات الانباء بالامس للمنشق رياض حجاب من جنيف، لا يبتعد عن تلك النصيحة السعودية الثمينة، وتماثلها بيانات التصعيد الحربي التي اطلقها «جيش الاسلام» و «حركة احرار الشام» من غرف فندق «رويال» المجاورة لنشاط الاممي ستيفان دي ميستورا.
ليس مفاجئا خروج «وفد الرياض» من المفاوضات. كلمة السر السعودية كانت واضحة: «السعودية لن تتخلى عن الشعب السوري تحت أي ظرف، وستستمر في دعمها لثورته، سواء نجح المؤتمر أم لم ينجح. نحن معكم وإلى جانبكم حتى تحقيق طموحات الشعب السوري البطل، مهما كلفنا ذلك من ثمن. ارفعوا سقف مطالبكم.. وارفضوا وجود بشار (الأسد) في أي صيغة حلّ مؤقتة أو دائمة».
إرادة الانقلاب على المسار التفاوضي بهذا المعنى، كانت موجودة في الاساس، تتحين الفرصة فقط، لتعبر عن نفسها. لا المنشق رياض حجاب ولا المتنكر ببزة رسمية محمد علوش ولا العميد الهارب اسعد الزعبي، يحملون مشروعاً حقيقياً للتسوية السورية. سقف التفاوض محدد سلفاً من قبل الراعي السعودي. هذا ما خلصت اليه مصادر متابعة لمفاوضات جنيف وتوترات الجبهات السورية.
وتقول المصادر ان رضوخ السعودية لضغوط المجيء الى المفاوضات كان في الاساس من اجل ثلاثة اهداف لم تعد سراً:
1 ـ عدم الظهور بموقف الرافض للزخم الدولي، الذي اكتسبته وقتها فكرة «جنيف 3» والهدنة التي سرت في 27 شباط.
2 – وقف انهيار جبهات الفصائل المسلحة على اكثر من جبهة سورية في ريف حلب الشمالي والريف الشرقي لحلب والريف اللاذقاني.
3 – الاستفادة من الهدنة ووقف القتال لاعادة تحصين وتذخير وسيطرة الفصائل المسلحة الدائرة في الفلكين السعودي والتركي، واستطراداً الاميركي.
وبهذا المعنى يمكن فهم اعلان معركة «رد المظالم» التي قررت فصائل منضوية في جنيف وخارجها، خوضها ضد الجيش، ثم رد القوات المسلحة السورية بالتعاون مع الحليف الروسي، بالامس على هذه الهجمات بعمليات واسعة في الريف الشمالي للاذقية، وخصوصاً في جبل كباني، لانهاء البؤر «الجهادية» هناك، والاطلالة على الجبهة الادلبية وجسر الشغور للمرة الاولى منذ اكثر من عام. (تفاصيل صفحة ٩)
وليس دقيقا اتهام الجيش السوري بانتهاك الهدنة في الايام الماضية، وهي الذريعة التي رفعتها بعض وجوه «معارضة الرياض» للهروب من تحديات التسوية الصعبة. ذلك ان معركة تدمر مثلاً كانت في مواجهة «داعش» وهو ليس مشمولاً بالتفاهمات الاميركية – الروسية لوقف اطلاق النار. والعكس هو الصحيح كما تقول المصادر، ذلك ان «جبهة النصرة» (المفترض نظرياً انها غير مشمولة بالهدنة) بادرت بالتعاون مع فصائل يفترض انها محمية بمظلة الهدنة، وبينها «احرار الشام»، الى خروقات فاضحة لوقف اطلاق النار، لعل اكثرها خطورة في العيس في ريف حلب الجنوبي.
ما جرى بالامس في محور كباني هو ان الجيش السوري، وبدعم جوي من الروس، انتقل الان من مرحلة التموضع الدفاعي «احتراما» للهدنة، الى حالة الهجوم الشامل، وهي معركة اذا كتب لها النجاح، ستكون الدخول الاول الى الجغرافية الادلبية، وما يمكن الاصطلاح على تسميته «الامارة غير المعلنة» لابو محمد الجولاني.
ولا تظهر سلسلة المواقف والتصريحات السعودية منذ لقاء محمد بن نايف الشهير في الرياض مع شخصيات سورية معارضة، اية اجندات للتسوية، ما لم يكن بند «الرحيل الفوري للاسد» في رأس قائمة المفاوضات. والرياض من اجل ذلك، شكلت وفدا من «صقور» في تهديداتهم الكلامية، واقصت عن تمثيل المعارضة السورية، كل من لا يتفق مع اجندتها السورية، وارفقت ذلك، وبدور اميركي – تركي كامل، بشحنات تسليح بالاف الاطنان، بما في ذلك اسلحة كاسرة للتوازن، بينها صواريخ مضادة للطيران، وكأنها تقول ان الكلمة الفصل مع دمشق، هي في ميدان الجبهات، لا في قاعات التفاوض.
وكان من اللافت ان الادارة الاميركية لم تعمد الى ادانة اعلان الحرب الذي اصدره محمد علوش من جنيف بالتضامن مع الفصائل المقاتلة على الجبهات. كما تجنبت ادانة انسحاب «وفد الرياض» من المفاوضات على الرغم من ان الرئيس الاميركي باراك اوباما كان يقول في مقابلة تلفزيونية بالامس ان «التناغم» مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضرورة لاية تسوية في سوريا.
وتطرح هذه التناقضات، والان مع اشتعال الجبهات، تساؤلات عن مدى عمق التفاهم الروسي – الاميركي المتحكم بالمسيرة السورية، وتعزز الشكوك بان واشنطن تتحرك وفق اجندتين بشأن سوريا، وانها كما الرياض التي يحط فيها اوباما اليوم ضيفا استثنائيا، ما زالت تراهن على مكاسب عسكرية من الان وصولا الى خريف الانتخابات الرئاسية الاميركية في تشرين الثاني المقبل، وهي معادلات تبدو جلية اكثر بالنسبة الى الروس الذين لا بد لاحظوا في اسابيع التفاوض السويسري، استغلال الوقت والمماطلات العابرة للحدود، سواء من السعودية او تركيا او الولايات المتحدة، ما قد يجعل «عاصفة السوخوي» تسترد بعضاً من زخمها السابق، كما جرى بالامس في جبال كباني.
وفي هذا السياق، جاءت انتقادات وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف، أمس، للأطراف التي تحاول إخراج مفاوضات جنيف عن مسارها.
وأعلن لافروف، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الفرنسي جان مارك ايرولت في موسكو، أن «هناك بعض الأطراف، في الخارج، يحلمون بالإطاحة بالنظام (السوري) بالقوة. يحاولون بشتى الطرق، بما في ذلك إخراج محادثات جنيف عن مسارها». وأضاف «أعتقد أن فرنسا والولايات المتحدة لا تتفقان مع تلك المحاولات بتاتا».
واعتبر لافروف أن سلوك المعارضة السورية، المنبثقة عن مؤتمر الرياض، مرتبط بتركيا، مشيراً إلى أنه يعكس دلالاً مفرطاً. وقال «نعول على دي ميستورا أن يمارس ضغطا على معارضة الرياض». وتابع إن «المجتمع الدولي يدرك حالياً عدم إمكانية حل الأزمة السورية إلا عن طريق المسار السياسي»، مشيراً إلى ضرورة تهيئة حوار مباشر بين مجموعات المعارضة والحكومة السورية.
وقال لافروف إن «المفاوضات ليست مجمدة. بمعزل عن مجموعة الرياض، يشارك في المفاوضات وفد الحكومة ووفود مجموعات اجتمعت في موسكو والقاهرة واستانا ومجموعة حميميم»، منتقدا السلوك «المتقلب» للمعارضين الذين غادروا المفاوضات.
وذكر الكرملين أنه «تم التأكيد أمس (الأول) على الحاجة إلى استمرار الحوار والمحافظة على نظام وقف إطلاق النار خلال اتصال هاتفي بين بوتين وأوباما».
وأشار المتحدث باسم البيت الأبيض جوش ارنست ان «الأمم المتحدة لم تصف الموقف بأنه انهيار. لقد أقروا بتأجيل المباحثات لكن إطار العمل لا يزال قائما». وأضاف «أعتقد أن المناقشات الفنية لا تزال تجري في جنيف، لذلك لا تزال هناك إمكانية للتقدم».
وبحث بوتين وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في اتصال هاتفي بطلب من الجانب القطري، «مختلف جوانب الأزمة السورية، في إطار التنسيق المحتمل للجهود المشتركة لتسويتها».
وقال رئيس الوفد الحكومي إلى جنيف بشار الجعفري إن فريقه سعى لتشكيل حكومة موسعة كحل لإنهاء الحرب، لكن المعارضة ترفض مثل هذه الفكرة. وأضاف إن التفويض الممنوح لفريقه في جنيف يقف عند حد تشكيل حكومة وحدة وطنية، و «لا يوجد تفويض بأي شكل من الأشكال لمناقشة قضية الدستور، التي تعني تشكيل دستور جديد، أو مناقشة الانتخابات البرلمانية أو وضع الرئاسة».
وقال الجعفري «هم لا يفقهون شيئاً في علم الديبلوماسية إلا كلمة الانسحاب». وأضاف «هذا ليس (عملاً) ديبلوماسياً أو سياسياً ناضجاً، بل أسلوب طفولي مراهق في عالم الدبلوماسية والسياسة».
وقبل مغادرة جنيف، قال منسق «الهيئة العليا للمفاوضات» رياض حجاب إنه لا توجد أي فرصة للعودة للمفاوضات في ظل «انتهاكات» النظام للهدنة، ومنع وصول المساعدات الإنسانية وتجاهل قضية المعتقلين.
ورفض حجاب، أي احتمال لبقاء الأسد في السلطة، معتبراً أنه «واهم». وقال إن «القوى الدولية عاجزة». وسجل «عتبا كبيرا على الأصدقاء الأميركيين»، معتبرا أن «الحفاظ على الهدنة لا يكون من خلال منع السلاح عن الثوار ومنعهم من الدفاع عن أنفسهم».
(السفير)