بقلم ناصر قنديل

السعودية في ربع الساعة الأخير: بعد الأرض المحروقة… حرق الأوراق

ناصر قنديل

– بدا أنّ العام 2015 كان عام الإقدام السعودي على الإمساك بزمام المبادرة في اللعبة الإقليمية، سعياً إلى توازن افتراضي في وجه صعود تقترب ساعته لمكانة إيران التي كان ملفها النووي يمثل بارومتر أزمات المنطقة الذي يختزن الملفات كلّها ضمناً أكثر مما يختزن تفاصيله التقنية، يعلو في شأنه الخيار التفاوضي كلما بدت قدرة الغرب على الذهاب إلى الخيار العسكري لفرض رؤيته لشرق أوسط جديد بالقوة موضع شكوك ويتأزم الملف النووي كلما لاحت في الأفق سانحة لتغيير التوازنات فتمنح فرصة لتقدّم هذا المشروع الذي تقوده واشنطن، على خلفية استثمار خمس سنوات متاحة لرسم الخرائط الجديدة بين العامين 2010 و2015 الفاصلة بين موعدين فاصلين هما موعد سقوط مشروع التسوية الفلسطينية «الإسرائيلية» الذي قادته صديقة «إسرائيل» الدائمة وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك هيلاري كلينتون والمرشحة الرئاسية اليوم والمدعومة من «إسرائيل» في وجه منافسيها من داخل حزبها بوبي ساندرز وخارجه دونالد ترامب، وما كان يفترض أن يستتبع هذه التسوية من فرص تحالف عربي «إسرائيلي» بوجه إيران وحلف المقاومة. والموعد الثاني هو الانسحاب النهائي من أفغانستان، كما رسمته القيادات العليا للجيوش الأميركية مع منح الرئيس باراك أوباما التجديد لولاية ثانية.

– وصلت واشنطن عام 2015 إلى اليأس من الفوز بمشروعها وضاقت فسحة الزمن المتاح، فوقعت اتفاق الإطار للتفاهم على الملف النووي مع إيران، لتكون بداية انخراط سياسي في تسويات ستكشف الأيام الآتية كما بدأت تظهر الأيام التي مرّت أنه انخراط يحاول استيحاء روح توصيات تقرير بيكر هاملتون الصادر خريف العام 2006 والداعي للتسليم بمحدودية ما تصنعه القوة العسكرية، والحاجة للاعتراف بالحقائق الجديدة والتأقلم معها، وخصوصاً نهاية زمن القوة «الإسرائيلية» في الشرق الأوسط، ونهاية الحقبة السعودية، والتسليم بشراكات جديدة تبدأ من الشراكة مع روسيا على المسرح الدولي، ومع إيران وحلفائها على مسرح الشرق الأوسط، وفي هذه اللحظة كان الملك سلمان يتولى العرش ومعه نجله ومستشاره عادل الجبير، وفقاً لسرقة قام بها الجبير لشعار أوباما في حملته الانتخابية، نعم نستطيع، يريد أن يقول بالوقائع للقيادة الأميركية أنتم مخطئون، لا تتسرّعوا بالتنازلات، نحن نستطيع خلق وقائع جديدة، ونشأ من هذه اللحظة انتقال معاكس لما تستعدّ واشنطن للانتقال إليه فبدلاً من الاستعداد للتسويات مع إيران والتراجع عن خط التصعيد في سورية، اختار سلمان الانتقال بالعلاقة مع «إسرائيل» وتنظيم «القاعدة» إلى التحالف العلني والمصيري، وتسوية خلافات مملكته مع «الإخوان المسلمين» ومشغّلها التركي ومموّلها القطري، وكانت حرب اليمن أولى ثمرات هذا التحالف الجديد، ولم تكن رمزية موعد انطلاق حرب اليمن في يوم توقيع اتفاق الإطار حول التفاهم النووي مع إيران مجرد مصادفة زمنية.

– فشلت الحرب في تحقيق أهدافها المحدّدة بسحق الحوثيين، ووقع الغرب وثيقة التسليم بالملف النووي الإيراني، ورفضت السعودية بعد دخولها إلى عدن الذهاب لتفاوض يصنع تسوية، هي التسوية ذاتها التي تسعى إليها اليوم بعد ستة أشهر من السعي المضني اليائس لبلوغ الهدف المفترض دون جدوى، وكما كانت في سورية في التوقيت ذاته تتبع سياسة الأرض المحروقة بالتعاون مع «القاعدة» وبرعاية تركية مباشرة، فعلت في اليمن، حيث صارت «القاعدة» و«الإخوان المسلمون» الحزبين اليمنيّين الرئيسيّين المتعاونيْن مع السعودية. لكن لا نتيجة هنا ولا نتيجة هناك، فقد حدثت تحوّلات أكبر من طاقة السعودية على هضمها، فصمد اليمنيون حتى تهديدهم العمق السعودي، وتموضعت روسيا في سورية ورسمت سقفاً لمعادلة الحلّ السياسي والحرب على الإرهاب تمرّ بالتسليم بالمكانة الحاسمة للرئيس السوري بشار الأسد، وصارت الأرض المحروقة تحرق أصابع اللاعبين في البلاط السعودي، وكانت الأوراق السعودية الكثيرة رصيداً احتياطياً يسمح بحجز مقعد للرياض في التسويات، المكانة المالية، والمكانة النفطية أولاً، والعلاقة المميّزة بمصر ثانياً، وعدم التورّط علناً بعلاقة مع «إسرائيل» ثالثاً والتمسك بموقف رسمي يضع القضية الفلسطينية في الأولويات، والإصرار على رفض كلّ اتهام بالتورّط في دعم التنظيمات الإرهابية رابعاً، وكلها ما يسمح للسعودية بالتموضع في خط التسويات مستفيدة من رغبة أميركية بحفظ المكانة والدور للحليف الذي تراهن واشنطن على قدرته على تحقيق توازن إيجابي بوجه المكانة الجديدة لإيران.

– ها هي السعودية بعد الأرض المحروقة تحرق أوراقها، فالاحتياطات المالية تنفد، والحجز الأميركي على ما تبقى منها يمنع استخدامها، وسوق النفط الذي حوّلته السعودية إلى سوق سياسية خاضت فيه حرباً للتسبّب بإفلاس روسيا وإيران حتى تدهورت الأسعار ونضبت الموارد، وفيما صمدت موسكو وطهران وقعت الرياض في الحفرة التي حفرتها لهما. وفي المقابل وظفت الرياض علاقتها الخاصة بالقيادة المصرية وابتزت حاجاتها المالية بصورة مهينة في قضية وضع اليد على جزيرتي تيران وصنافير، تنفيذاً لوعود قطعتها الرياض لـ«إسرائيل»، ما أطاح بفرصة الرياض في تحقيق ورعاية مصالحة مصرية تركية كانت تراهن عليها لتحقيق توازن منشود بوجه إيران، أما في ضفة العلاقة مع «إسرائيل» فقد فضحت صفقة الجزر وما تخفيه وقوفاً سعودياً رسمياً في خندق التطبيع الأول بمعزل عن مستقبل القضية الفلسطينية، حتى كتبت صحف «إسرائيلية» أنّ السعودية لم تعد حاجة قانونية للسلام فوثيقة استرداد الجزر، كما سمّيت، تجعل السعودية شريكاً قانونياً رسمياً في اتفاق سلام مع «إسرائيل» هو اتفاق «كامب ديفيد»، وفي العلاقة بتنظيم «القاعدة» لا تعرف السعودية ما إذا كانت تخرق الهدنة وتعود للقصف المدمّر في اليمن لحماية «جبهة النصرة» في سورية، أم تأمر بسحب وفد معارضة الرياض من جنيف رداً على رفض الحوثيين المجيء إلى محادثات اليمن قبل وقف كامل للقصف السعودي؟

– تفكيك كلّ ما يمتّ بصلة لمملكة عبدالله بن عبد العزيز هو هدف سلمان ونجله، ولذلك تبدو هستيريا ربع الساعة الأخير كفيلة بحرق الأوراق.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى