الطريق الشائك لنجاة العربي من «الغيتو» الأوروبي وسيم ابراهيم
يشيح بنظره عن جانبي الشارع الذي عبس على نحو مفاجئ. يطلع أمامهم بعض مواطني البلد، يلوحون أمامهم بالاصبع الأوسط. يطرق منار برأسه، ملتحماً برفاق مركز اللجوء، ليكملوا «نزهةً» تعبر طرقات البلدة الألمانية التي يقضون فيها فترة انتظار اكتمال الاجراءات القانونية. سيكون أمامهم طريق طويل لكي لا ينتهي بهم المطاف، أو يبدأ، بمصير المعزل «الغيتو».
ستكون درباً شائكة. كل ما هو حولهم جاهز للاستثمار في بناء المعازل: انعدام الأمان لدى هاربين من الحرب والمآسي، الثقة بالنفس حينما ترقد في القعر، التطرف الاسلامي بأمواله العابرة للدول، التطرف الأوروبي اليميني تحت كل عنوان يخوّف من الغرباء. خلال كل ذلك، لن يكون هناك مفر من مواجهة الأسئلة القاسية: من أي بيئات أتينا، هل بالفعل يحمل المجتمع العربي مشروع «الغيتو» أينما يذهب، وليس جاهزاً بالمجمل لغيره؟ ألم تكن دولنا محكومةً بالانغلاق؟
كل هذه الهواجس تصير كائنات من لحم ودم في اللجوء الأوروبي، تتنفس وتتحرك وتقيم رغم كل محاولات الفرار منها. البلدة الألمانية قرب حدود النمسا، مجرد محطة مؤقتة، هذا ما يعرفه منار عن تصميم. الوجوه العابسة لا تحتاج معرفة شيء عنه لتمارس موقفها. لا تعرف أنه مهندس لديه طموح وأحلام، هرب بحثاً عن غير قدر الحرب السورية. يحكي عن إمكانيات الحياة الجديدة، يحاول شحن مزاجه بطاقةٍ لازمة للانطلاقة المنتظرة بعد أن يحصل على بطاقة لاجئ.
لكنه يبقى فرداً منفتحاً على التجربة. هناك مئات آلاف اللاجئين، كثيرون منهم يختارون الطريق الأيسر: البحث عن مجموعة مستقرة، تشبههم وتساعدهم على انطلاقة أقل إرهاقاً.
خلال بحث «السفير» في القضية، كان الحديث مع موظف في إدارة لجوء في دولة أوروبية. حساسية عمله تجعله يطلب عدم كشف هويته. ما يراه ويعيشه يجعله حذراً من إشاعة تفاؤل يمكن التعويل عليه. يقول إنه قبل كل شيء هناك نسبة ليست قليلة من غير المتعلمين، وبعضهم في مستوى مزرٍ: «لقد قابلت ناساً لا يتقنون حتى استخدام لغتهم العامية، ليس اللغة الفصحى بل العامية. أنا أشك تماماً إن كانت هكذا نماذج قادرة على تعلم لغة أجنبية».
بين موظفي إدارة اللجوء، تنشأ شبكة علاقات، مبادرات شخصية، لمساعدة القادمين الجدد. حينما غادر الموظف لمساعدة عائلة سورية، خرج بانطباع القادم من صدمةٍ حضارية. يحكي أنها عائلة محافظة، من شمال سوريا، تسكن منذ أشهر عدة في بلدة بادر كثيرون فيها للمساعدة. لكن ذلك لم يغير الطباع، كما يروي: «دخلتُ وخرجتُ، وكان الرجل حريصاً على ألا أرى زوجته. بعض الجيران ترجموا رسائل إلى العربية كانوا يتوسلون فيها تقريباً كي ترسل العائلة أولادها للعب مع أولادهم». يصمت مستاءً قبل أن يضيف أن «هذا الرجل آخر ما يريده كان العيش بانفتاح، لا مشروع لديه سوى الحصول على رخصة قيادة، والانطلاق مباشرة للاستقرار في مكان ومجتمع يشبهه».
حينما يحصّل رب العائلة رخصته، على ما هو عليه، ستكون وجهته محكومة بشاخصة واضحة: الغيتو من هنا. هذا بالضبط ما تحاول بلديات مدن أوروبية تجنبه، بعدما ذاقت عواقب انتشار «الغيتوات». رؤساء ومسؤولون من مدن أوروبية عديدة، جمعتهم المفوضية الأوروبية لاجتراح حلول «خلاقة» لسياسة الاندماج. الخطوة تشكّل سابقة لجهة وضع هذا النقاش في الواجهة، نظرياً وعملياً، لاسيما بعد الصدمة التي صنعتها الهجمات الارهابية في باريس وبروكسل.
مع ذلك، تتجنب كورينا كريتو، المفوضة الاوروبية المسؤولة عن شؤون الأقاليم، تأكيد هذا الارتباط. تقول خلال حديث مع «السفير» إن اللحظة فرضت نفسها: «إنها لحظة تاريخية، تحدٍ كبير جداً، فهي المرة الأولى في التاريخ التي يجد فيها الاتحاد الأوروبي نفسه بمواجهة هذه الموجة الجماعية من المهاجرين واللاجئين»، قبل أن تضيف «لدينا آلية طارئة، وعلى المدى الطويل نحن نتحدث عن الاندماج الاجتماعي».
حينما تستعرض كريتو الأولويات، تضع في المقدمة: «تجنب تشكّل غيتوات». نسألها عن طروحات مسؤولين أوروبيين، زعماء دول، يحذرون علناً من أن «المسلمين» غير قابلين للاندماج في انفتاح المجتمع الغربي. ترفض ذلك، مشددةً على أن أساس المشكلة وجود مناطق «محرومة وفقيرة». لنتحدث بلا مواربة: أنت لا تعتقدين إذا أن مشكلة الاندماج متعلقة بطبيعة ثقافة أو دين؟ ترد كريتو بحذر: «أعتقد أن هكذا قضية متروكة للمؤرخين وليس لي كمفوضة أوروبية لسياسة الاقاليم، فمن جهتي نقوم بكل ما يلزم لمساعدة جميع السكان».
حينما يبني المؤرخون سردياتهم، يمكنهم أن يجدوا في حي «مولنبيك» المثال الفاقع والصلب عن «الغيتو» الكامل الأركان، متحدياً الظرف المكاني والزماني والسكاني. يقع في قلب بروكسل، على بعد مئات الأمتار من وسطها السياحي، لكنه يبدو مقتطعاً من أحياء مدينة مغربية. قلةٌ مجرمة ومشاغبة وصيت ذائع. مشاكل التطرف لاحقته طوال العقد الأخير، لكنه تصدر العناوين بلا منازع بعدما خرج منه منفذو هجمات باريس وبروكسل.
الجنود بعتادهم الكامل يحرسون مدخل محطة «ميترو» وسط الحي، قرب مركز الشرطة مع دزينة عربات تصطف أمامه. يعبر محمد الطريق متأففاً من تعطل وسائل النقل وإنقطاعاتها. يشير بيده إلى قلب الكتلة العمرانية: «هنا اثنان في المئة بلجيكيون، الباقي كلهم مهاجرون مغاربة، هذه المشكلة مسؤولية الدولة». يمرّ رجل أربعيني، يرمي بتعليق صادم: «هذا ما يحصل لمن يترك بلاد المسلمين ليعيش في بلاد الكفار». كان واضحاً أن الدعاية المتطرفة تحصد نتائج ممتازة في بلجيكا، رغم الشكوى الأوروبية المتواصلة من «الوهابية والسلفية».
يمكن الجدل إلى ما لا نهاية حول تقسيم حصص المسؤولية عن «الغيتو»، لكن البعض وجد من الضروري إدانة خطاب الانعزال الداخلي. منهم الشاعر المغربي البلجيكي طه عدنان، الذي كتب بعد صدمة هجمات بروكسل: «لنعترف بأننا عموماً لسنا متسامحين. لذلك لم نربِّ أبناءنا على فضيلة التسامح»، قبل أن يعقب «ولطالما كنت أستغرب كيف يواصل بعض الشباب من الجيلين الثالث والرابع من أبناء الهجرة المغربية الحديث عن الكَور والنصارى في خطاب متداول داخل الأسر وفي الأحياء».
داخل صالات نقاش المفوضية الأوروبية كان هناك من يشدد على أن الدولة هي المسؤولة أولاً وأخيراً. حينما سألت «السفير» آدا كولاو، رئيسة بلدية برشلونة، قالت إن التعلم من دروس الماضي يعني «يجب أن نتجنب تشكل غيتوات». منتقدةً من يعزوها لأسباب الدين أو الثقافة، اعتبرت أن «مفتاح الاندماج هو تأمين التمويل اللازم لتوفير الإقامة اللائقة للاجئين، وبخاصة يجب العمل على الاندماج اللغوي».
النقاشات الصريحة بين كوادر إدارات اللجوء مبتلة تماماً بالواقع وأبعد ما تكون عن الخطاب السياسي. كل شيء يطرح على محمل البحث والحل. العيون في مراكز اللجوء مفتوحة. تصل بلاغات من بعضها عن عائلات «متشددة»، تقضي وقتها في العزلة وممارسة طقوس الدين، فيرصدونها لمعرفة خلفية ذلك؛ إن كان مؤشر خطورة أم مجرد عادات «محافظة».
أسباب القلق من طرق تقود لـ «الغيتو» كثيرة. يمر حديث بعض الكوادر على الهشاشة النفسية التي يعيشها اللاجئ، خصوصاً لجهة الاندفاع بحثاً عن شبكة أمان اجتماعي سريعة. يضاعف تأثير ذلك التطرف المتعاظم، ليبدو كما لو أن أطرافاً عديدة تدعم، عن قصد أو بدونه، الاستثمار في «الغيتوات».
أحد الموظفين العارفين بالواقع العربي يفكر بصوت عال إن كان النجاح ممكناً، عارضاً لما يقول إنها «حقائق»: «لا أريد أن أحكم بأن اللاجئين العرب يحملون مشروع انعزال، لكن الخوف من الانفتاح له مبررات مفهومة، لقد عاشوا طوال حياتهم تحت حكم ديكتاتوري بلا حريات، كثيرون منهم عاشوا في بيئة دينية واجتماعية محافظة»، قبل أن يتساءل «لا أعرف كيف يمكن تحقيق إشراك المرأة داخل بيئة ترفض عملياً مبدأ أنها متساوية مع الرجل ومستقلة».
هناك ظاهرة لافتة يرصدها بعض العاملين في مجال اللاجئين والمهاجرين. يدور الحديث عن المشاريع الفردية بوصفها أكثر نجاحاً من مشروع اندماج العائلات. يقول أحدهم بعدما عاين تلك التجارب: «لقد رأيت شباناً جربوا هنا أشياء يفعلونها للمرة الأولى في حياتهم، حينما يكونون منفردين يتصرفون بحرية وتأقلم مع المجتمع الجديد»، قبل أن يضيف «لكن حينما يجتمع عدد منهم يتصرفون بارتباك كأن الرقابة الاجتماعية تحضر بينهم تلقائياً حينما يجتمعون».
المشكلة التي يعرفها من يعملون على اندماج اللاجئين أنه يطرح الآن في لحظة ملتهبة، لا تساعد أصلاً في مسألة تحتاج علاجاً متروياً ومديداً في مستويات مختلفة. على المنوال ذاته، يبدو السؤال حول إن كان المجتمع العربي، على اختلافاته، يحمل مشروع انعزاله الحضاري مع لاجئيه؟ هل هذا منتج في لحظة غارقة بالاقتتال والدمار والتطرف، أم أن الطرح وجيه نظراً لهذه المآلات تحديداً؟
(السفير)