مركزية سورية في العلاقات العربية – الإيرانية د. عصام نعمان
بعد انبرام الاتفاق النووي بين الدول الست الكبرى وإيران، واحتدام الصراع في سورية وعليها، واتضاح دور كلّ من تركيا وإيران في صراعات دول غرب آسيا، نظّم مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت مؤخراً حلقتيْ مناقشة، الأولى حول العلاقات العربية – التركية، والثانية حول العلاقات العربية الإيرانية.
لم تتسنَّ لي المشاركة في الحلقة الأولى لأسباب خاصة، لكنني شاركتُ في الحلقة الثانية التي قدّم خلالها الدكتور طلال عتريسي ورقة البحث وشارك في مناقشتها المستفيضة باحثون وخبراء استراتيجيون من لبنان وسورية والعراق وفلسطين ومصر والخليج وإيران، وأدارها الدكتور زياد حافظ.
شدّدتُ في مداخلتي، عشيةَ استئناف محادثات جنيف -3، على مركزية سورية في العلاقات العربية – الإيرانية. قلتُ إنّ سورية تشكّل، سياسياً وجيوسياسياً وأمنياً، قاسماً مشتركاً بين قضايا مركزية ساخنة تعصفُ حركيتها بدول الإقليم من شواطئ المتوسط غرباً إلى جبال أفغانستان شرقاً، وتتأثر بتداعياتها وبما تنطوي عليه من تحديات دولُ العرب وإيران وتركيا و«إسرائيل»، فضلاً عن دول أوروبا وأميركا.
يمكن إجمال القضايا المركزية الساخنة بخمس: قضية فلسطين والصراع العربي – الإسرائيلي، وقضية الإرهاب الإسلاموي التكفيري، وقضية الكرد في تركيا والعراق وإيران وسورية، وقضية الموارد الطبيعية ولا سيما النفط والغاز، وقضية الولايات المتحدة ودورها الناظم والمهيمن في العلاقات بين دول الإقليم.
أولاً: سورية وفلسطين
لسورية موقع استراتيجي في قلب الصراع العربي – الإسرائيلي. فقد مثّلت فلسطين وما زالت قضية قومية مركزية في ثقافة سورية، شعباً وحكماً، على مرّ تاريخها المعاصر، كما مثّلت قضيةً قُطرية لها أولوية بارزة في مختلف عهودها. ذلك أنّ نخبتها السياسية والثقافية، كما جمهورها الوطني المستنير، فسّر دائماً اتفاق سايكس – بيكو بين بريطانيا وفرنسا خلال الحرب العالمية الأولى بأنه مؤامرة متمادية لتقسيم بلاد الشام وبلاد الرافدين بما هي سوراقيا سورية والعراق مجتمعين وانّ الهدف القومي الأول للقوى الحية في هذه الديار هو مقاومة الاستعمار وربيبته «إسرائيل» للخروج من حال التقسيم إلى رحاب التوحيد. كما مثّلت فلسطين وسورية لإيران حاجة استراتيجية، كما سيتضح لاحقاً.
ثانياً: سورية وقضية الكرد
في سعيها إلى إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، أعطت بريطانيا وفرنسا في معاهدة سيفر العام 1920 الكرد حقاً في دولة تداخلت رقعتها بالضرورة مع ما كانت عليه تركيا المهزومة في الحرب العالمية الأولى، ومع ما يصبو غليه الأرمن من دولة مستقلة. إلى ذلك، تقع سورية في نقطة جغرافية وسطى تقريباً بين مناطق تواجد الكرد في تركيا والعراق وإيران. فكان لا بدّ من أن يكون للكرد السوريين وغيرهم دور في الصراعات التي اندلعت مع الحكومات القائمة في مختلف مناطق وجودهم.
ثالثاً: سورية والإرهاب
باشر الإرهاب بصيغته الأولى، أيّ «القاعدة»، ضرباته في أنحاء مختلفة من العالم، لكن ضربته الأولى المدوّية كانت في الولايات المتحدة ضربة 11 أيلول/ سبتمبر 2001 . أما الإرهاب في صيغته الثانية، أيّ «الدولة الإسلامية داعش»، فقد افتتح هجومه القوي الشامل في سورية، ومن ثم في العراق، وهو يحتلّ فيهما حالياً مساحات شاسعة، ويتخذ من مدينة الرقة السورية عاصمة لدولة الخلافة الإسلامية.
رابعاً: سورية وقضية
الموارد الطبيعية النفط والغاز
في باطن سورية وبحرها ثروة نفطية وغازية هائلة. لكن، في موازاة مواردها الطبيعية الثرّة، ثمة حقيقة استراتيجية لا تقلّ عنها ثراء وأهمية هي كون سورية ممراً إجبارياً لخطوط النفط والغاز الممتدّة من السعودية والخليج، كما من العراق وربما لاحقاً من إيران أيضاً إلى شواطئ المتوسط والى تركيا ومنها إلى أوروبا. هذه الحقيقة الاستراتيجية تبدو مغيّبة في الوقت الحاضر بسبب احتدام الصراع داخل سورية وعليها.
خامساً: سورية ودور أميركا
كناظم لصراع اللاعبين الإقليميين
في كلّ الصراعات الناجمة عن القضايا والتحديات سالفة الذكر، ثمة دور محوري تلعبه الولايات المتحدة كقوة ناظمة من جهة، وكقوة مهيمنة من جهة أخرى. نتيجةَ ذلك تبقى سورية، بموقعها الجغرافي الوسطي والاستراتيجي، ساحة دائمة لصراعات اللاعبين الإقليميين ولتدخلات الولايات المتحدة كناظم لعلاقات القوة بينها وكلاعب رئيسي مهيمن يسعى إلى حماية مصالحه وحماية أمن «إسرائيل» أيضاً.
ازدادت مركزية سورية ودورها في الصراعات الإقليمية المحتدمة بعد توقيع الاتفاق النووي وعودة إيران، المتحرّرة من الحصار والعقوبات الاقتصادية والمستردّة لأموالها المجمّدة، إلى لعب دور أكبر والتطلع إلى ممارسة نفوذ أوسع في دول الإقليم. وتتبدّى أهمية سورية في هذا المجال نتيجةَ علاقة إيران الحميمة، كما روسيا، بالقضايا الخمس سابقة الذكر ومركزية موقع سورية ودورها في الصراعات الناجمة عنها، ولا سيما ما يتعلّق منها بقضيتي الصراع العربي – الإسرائيلي والإرهاب.
إيران معنية بقضية فلسطين لاعتبارات ايديولوجية، دينية بالدرجة الأولى، كما لاعتبارات سياسية. ازدادت حاجة إيران إلى سورية ودورها كحليفة بعد نشوء وتعاظم ثلاثة تحديات بالغة الخطورة: ردّ فعل «إسرائيل» السلبي على الاتفاق النووي، وتعاظم تهديد الإرهاب الإسلاموي التكفيري للدول الإسلامية قاطبة، ولا سيما إيران، ومستقبل اصطفاف القوى داخل عالم الإسلام السنّي.
التحدي الأول، المشترك، هو تحسّبُ إيران لآثار ردّ فعل «إسرائيل» على الاتفاق النووي. فـ»إسرائيل» تخشى الاتفاق لأنه ترك إيران في وضع يسمح لها، في ظنها، بأن تصنع سلاحاً نووياً يهدّد أمنها ويلغي تفوّقها الاستراتيجي على دول الإقليم كلّها. ولأنّ قلق «إسرائيل» – المبرّر أو المفتعل – قد يدفعها إلى تسديد ضربة صاروخية شديدة مدمّرة لإيران، فقد قرّرت طهران بناء رادع صاروخي باليستي ليشكّل بقوته النارية الهائلة، معادلاً استراتيجياً فاعلاً لذراع «إسرائيل» النووية. الأهمّ من ذلك، ترى إيران أنّ فعالية سلاحها الصاروخي الباليستي تكون مضمونة بتوفير قواعد انطلاق لها من مكان قريب من «إسرائيل». من هنا تنبع أهمية سورية في استراتيجية إيران الردعية. ذلك أنّ وحدة موقف البلدين في عدائهما لـ«إسرائيل» تتيح لإيران في رحاب سورية تشغيل قواعد صاروخية ردعية قريبة وفاعلة ضدّ العدو المشترك.
التحدّي الثاني، المشترك، هو الإرهاب التكفيري الذي يهدّد البلدين في عمق نسيجهما الاجتماعي الداخلي. فهما مجتمعان تعدّديان ينطويان على جملة أديان ومذاهب ومشارب وإثنيات. فالإرهاب بلجوئه إلى العنف الأعمى في نهجه القتالي يهدّد بلدان المنطقة كلّها ذات التركيبة التعددية. وإذا ما تمكّن تنظيم «الدولة الإسلامية – داعش» من التجذّر في سورية والعراق فإنه يصبح قريباً من إيران، وبالتالي من روسيا، ويهدّد وحدتهما السياسية وعلاقاتهما مع الدول المجاورة. كما أنّ سعي قوى الإسلام السلفي الممالئة لـِ»داعش» إلى التماهي والتعاون معه في مسارٍ متمادٍ للسيطرة على عالم الإسلام يؤدّي إلى تغليب الفكر الداعشي بين أهل السنّة والجماعة الذين يشكّلون الغالبية في سورية، كما جسماً محسوساً في إيران، ولا سيما بين الأقليات العربية والكردية والبالوتشية. ذلك كله يستثير روسيا ويستجرّها إلى ممارسة دور ردعي مساند لسورية وإيران في الإقليم.
التحدي الثالث، المشترك، هو تحسّب إيران، كما سورية، لاحتمال أن يؤدّي تطوّر الأحداث في بلاد الشام وبلاد الرافدين واليمن وتركيا وفلسطين المحتلة إلى توليف اصطفاف سياسي وأمني جديد في عالم العرب يضمّ مصر والسعودية وبعض دول الخليج ما يحدّ من نفوذ إيران، كما يحدّ من فعالية محور الممانعة والمقاومة المؤلف من إيران سورية قوى المقاومة العربية حزب الله وتنظيميْ «الجهاد الإسلامي» و«حماس» في سياق مواجهتها للولايات المتحدة وإسرائيل في الإقليم.
(البناء)