مقالات مختارة

وقفة مع الذات بعد صدمة بروكسل: نحتاج إسلاماً أوروبياً يكسر العزلة وسيم ابراهيم

 

يمكن الاستدراك إلى ما لا نهاية عند الحديث عن الهجمات الارهابية ومدى علاقتها بالأزمة التي تعيشها مجتمعات مسلمة في أوروبا. الانعطافات تجعل القضية معقدة على طريقة المتاهة، ما يحمل كثيرين على لزوم الصمت. لكن آخرين يختارون عدم السكوت. يقولون إن الهجمات أحدثت صدمة، وهي لا تعني حكماً تحميل مسؤولية لمجتمعات رغم الاعتراف بأنها منغلقة ومنعزلة عن بيئتها الأوروبية. لكنها صدمة توفر فرصة للنظر في المرآة، السؤال الصريح: هل نحن حقاً على ما يرام؟ الجواب يمكن أن يضيع أيضاً في متاهات «ولكن»، مع ذلك تجتمع اجابات على الحاجة الماسة لمؤسسات تبني إسلاماً أوروبياً.

هجمات بروكسل جعلت هذا الهاجس يرافق كل المعنيين به أينما حلّوا، سواء أرادوا ذلك أم صادفوه مرغمين. عابراً أحياء العاصمة بروكسل، التي تنتشر فيها مجموعات الجيش والشرطة بكثافة الآن، يردد الحاج محمد أن ما يحدث يذكره بخطاب تطرف شائع لطالما أغضبه: «هناك رجال دين لم يتوقفوا عن القول للناس إننا نعيش في دار الكفر». يلتفت مبدياً امتعاضه الشديد: «بالنسبة لي إنها دار الايمان والرحمة، أنا أعيش حياتي مطمئناً إلى تقاعدي وتأميناتي الاجتماعية وضماني الصحي، البلاد التي تكتم أنفاس الناس وتمنع عنهم هذه الحاجات الأساسية هي الكفر بعينه».

الصدمة التي أوقعتها الهجمات المنسقة، بما هي الأولى من نوعها بهذا المستوى، لمست مواضع التهاب مزمن. المسألة مسّت خصوصاً أحياء معروفة بغالبيتها من المهاجرين المسلمين، جعلتها تراكم إهمالا رسميا واجتماعيا يتحول إلى ما يشبه المعازل. هرعت وسائل الإعلام الدولية مباشرة إلى تلك الأحياء في العاصمة البلجيكية، إن بغاية اضفاء الاثارة أم التقصي المهني، ما جعل حي مولنبيك أشهرها، حيث عاش معظم منفذي هجمات بروكسل وباريس.

الحاج محمد لا يحتاج من يحكي له عما يحدث داخل تلك الأحياء. يمكنه أن يحدث عنها لأيام. الرجل في الخميسنيات، يعيش من عمله سائق سيارة أجرة، المهنة التي استقر فيها بعدما جاء بلجيكا من المغرب للدراسة بداية سبعينيات القرن الماضي. عاش في تلك الأحياء مراقباً كيف كبرت المشكلة يوماً بعد آخر، تعقدت وتشابكت، للتحول إلى نوع من المعضلات أمام أي حلول سياسية واجتماعية عاجلة.

يقول الرجل الحليق، بلا أي مظهر يدل على محافظة، إنه يشعر للمرة الأولى أن كثيرين في مجتمعه المحلي باتوا يتململون: «صار هناك من يرفع صوته بأن الأمر لا يمكن أن يستمر هكذا، الدولة عليها مسؤولية، لكن نحن أيضاً يجب ألا نسمح لدعاة التطرف بالدخول بيننا وتضليل أبنائنا».

يعيش حي مولنبيك ما يشبه عزلة اجتماعية، تكونت بحكم الأمر الواقع، رغم كونه في قلب العاصمة، بعيداً مئات الأمتار عن وسطها السياحي. نحو مئة ألف ساكن، غالبيتهم العظمى بلجيكيون من أبناء المهاجرين المغاربة. هذا التمركز لعب دور عامل المغناطيس، ليصير قبلة المهاجرين الجدد ممن بحثوا عن بيئة توفر عليهم مصاعب التواصل اللغوي والمجتمعي، عدا عن كونها بيئة منتجة لسوق عمل يمكنهم الانخراط به مباشرة.

فجأة سقطت الجدران غير المرئية التي كانت تسوّر الحي. كان شبه محظور دخول كاميرات التلفزة، الوطنية وحتى العربية. كان يكفي لفرض هذا الحظر بضع شبان، لا عمل لهم سوى أنهم يسندون الحائط، لكنهم مستعدون لمشاجرات متمادية تنتهي بطرد الزوار غير المرغوبين.

ليس بلا معنى سقوط تلك العوائق. الهجمات أحدثت صدمة كبيرة، ودوارا حقيقيا، جعل هؤلاء الشبان لا يجرؤون على ممارسة عادات قطاع الطرق التي زاولوها متباهين سابقا. القضية باتت، كما هو واضح، كبيرةً لدرجة لم يعودوا معها يجرؤون على إثارة مشاكل تكرّس صورة حيّ سماه بعض الإعلام الغربي من مدة «عاصمة الجهاد الأوروبي».

بعض المثقفين من أبناء المهجر البلجيكي قالوا إن زمن الصمت ولّى، معلنين أن وقفة مع الذات تقتضي القول إنه داخل أسوار العزلة كان ينمو تطرف متعدد الوجوه.

في مقال حمل مناشدة لحملة نقد ذاتي، لعمل وتحرك، كتب الشاعر المغربي ـ البلجيكي طه عدنان: «الارهاب يبدأ بالكلمات والمواقف التي نتغاضى عنها يوميا (لفرط ضحالتها)، في المسجد والمقهى، في المجالس الخاصة والعامة، قبل أن يضيف: «يمكن أن نردد بكسل واسترخاء عبارات من عيار أن الارهاب لا دين له، لكن هل هذا ينفي ان معظم الارهابيين هم فعلاً من أصول عربية مسلمة؟». يدين كيف أن «بعض الأئمة» كانوا يدعون داخل تلك الأحياء إلى «الجهاد في سوريا»، لكنهم الآن يرددون «الارهاب لا يمت بصلة للدين».

كان يمكن لهذا الكاتب أن يكون ضحية الهجمات مع زميله الذي فقد حياته فيها. يحس بفجيعة ذلك، ولطالما ترافقا في عربة القطار ذاتها، لكنه يومها وصل أبكر لحسن حظه. حينما سألته «السفير» عما دفعه للمطالبة بتلك الوقفة مع الذات، قال إن «اللحظات العصيبة والصعبة تأخذ ما يشبه وقع الصدمة، وسيكون هناك خلل إن عشناها من دون أن نعيد مساءلة كل الأشياء والقناعات».

حين سؤاله عن المسارات العريضة التي يراها لازمة لتلك الوقفة، كما اقترح، يقول: «نحتاج اسلاماً بلجيكياً وأوروبياً يحمل خصوصية المجتمع والحياة في الغرب، نحتاج إلى انتاج شيء على صعيد الخطاب يصالحنا مع واقعنا المجتمعي». إحدى النقاط الرئيسية التي تسبب الخلل برأيه، على سبيل المثال، هي استقدام مدرسين للغة العربية والثقافة المغربية من المغرب، فهؤلاء يعطون حصصا في مدارس ومعاهد خاصة داخل بلدان أوروبية، لكنهم «يأتون من واقع آخر ولا يعرفون واقع هذه البلدان». خطة لحل هذه الاشكالية المكرسة يراها عبر تعهد الدولة هذه الهمة. أن تعترف بوجود خصوصية مجتمعية لقسم من مواطنيها، وبالتالي «تحويل اللغة العربية مثلاً إلى لغة ثانية في المدارس الحكومية لمناطق معروفة بغالبيتها من أجيال المهاجرين، وأن يحصل ذلك عبر مناهج تقرها الوزارة ومدرسين تعينهم بنفسها».

الدعوات لاجتراح «اسلام أوروبي» تكررت كثيرا في السنوات الماضية، ليرددها أيضا مسؤولون أوروبيون على خلفية تنامي ظاهرة «الجهاديين» الأوروبيين في سوريا والعراق. بعض المتواجدين في قلب هذه الاشكالية رددوا أيضا أن على المجتمعات المسلمة تحمل مسؤوليتها في رفض التمويل القادم من السعودية تحديدا، مشيرين أمام البرلمان الأوروبي إلى المشاكل التي يسببها دعاة وأئمة «يروجون لنموذج الاسلام المتشدد».

هناك من يقول إن الأمر يجب أن يتجاوز التصريحات إلى تحرك عملي يتبناه الاتحاد الأوروبي. أحدهم هو البرلماني الأوروبي أفضل خان، نائب رئيس لجنة الأمن والدفاع، والمعيّن أخيراً موفداً من مجموعة الاشتراكيين الخاص للحوار مع المجتمعات المسلمة. خلال حديث مع «السفير»، يقول معلقاً على هذا النقاش: «الاسلام لا يخص منطقة بعينها، وفي كل منطقة يجب أن يوضع في الممارسة ليناسب ظروفها. علينا في الاتحاد الأوروبي أن نؤقلم الاسلام وفق الظروف التي نحن فيها، فلا يمكن أن يكون هناك اسلام عربي مثلا في بلجيكا أو اسلام باكستاني في بريطانيا»، قبل أن يخلص إلى أن «علينا العمل للمساعدة في تطوير مؤسسات أوروبية يمكنها النهوض والتقدم بهذه الفكرة، وهناك حاجة لتحرك المسلمين، فكلنا لدينا مسؤولية في هذا الشأن».

كل هذا لا يدور حول قياس مسؤولية بالنسبة لارهابيين نفذوا هجمات انتحارية. تلك مسألة أخرى تماماً. النقاش هنا يخص وقوف مسلمين أوروبيــين أمام الأماكن الملتهبة في العلاقة مع مجتمــعهم الأوروبي، قبولهم كاملي المواطنة فيه، بالتساوي والمثل، مبحث آخر أيضا، مع ان كل شــيء يمكــن أن يتصــل في لحظة.

انتفاء المسؤولية، عن حق، تجاه أعمال ارهابية لا يعني عدم المسؤولية تجاه قضايا تتصل بذلك. الجميع بات يعرف أن هناك أئمة ودعاة متشددين، لا زالوا يرددون على مسمع شبان مهمشين إنهم يعيشون في «بلاد الكفار» ومعهم. إهمال كل ذلك يجعل مواطناً مهاجراً، مثل طه عدنان، يشعر بصدمة حينما يقابل فتية يعبرون عن «ابتهاجهم» بهجمات بروكسل، من دون أن يجدوا تبريراً غير كلام أخرق: لا يعرفون حجم الخطر الحقيقي على الجميع، عليهم أولاً، ثم على مجتمعهم ودولتهم.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى