الإرهاب يرتدّ على صانعيه والمستثمرين به… فكيف يواجه؟ العميد د. أمين محمد حطيط
في مطلع الثمانينيات وبعد احتلال الاتحاد السوفياتي أفغانستان عملت المخابرات الأميركية والنظام السعودي على إنشاء جماعات مسلحة لمحاربة الاحتلال هناك، جماعات تطوّرت لتشكل لاحقاً ما أُسمي بعد ذلك تنظيم «القاعدة» الذي وفرت له السعودية كامل احتياجاته المالية وغير المالية، والأهمّ في ذلك ارتكازه على الفقه والفكر الوهابي اللذين يستندان على مقولة إنّ الوهابيين فقط هم المسلمون وكلّ من عداهم كفار في مراتب متفاوتة، ويجب التعامل معهم بالقتل والسيف الذي هو الأداة الأفضل لنشر الوهابية في العالم، و«إقامة شرع الله وفقاً لفهمها للإسلام» على مساحة الكرة الأرضية.
لقد احتضنت أميركا والسعودية تنظيم «القاعدة» بخلاف موقفها من حزب الله الذي نشأ من أجل مقاومة الاحتلال «الإسرائيلي» لجنوب لبنان، حيث ناصبته أميركا العداء، كما فعلت السعودية أيضاً، وكلّ من منطلق متصل به، لكن كان هناك تطابق في الموقف بين الطرفين على رفض وجود الحزب ورفض قيام المقاومة الإسلامية في مواجهة «إسرائيل»، مهما كانت المبرّرات والأسباب.
لقد اتخذت أميركا والسعودية من «الحركات الإسلامية المسلحة» تلك موقفاً متناقضاً، ففي حين احتضنت ورعت واستثمرت الحركات الوهابية المسلحة التي تعمل تحت اسم «قاعدة الجهاد» بزعامة أسامة بن لادن ومعه عبد الله عزام في أفغانستان، شنّت حرباً بلا هوادة ضدّ المقاومة الإسلامية التي أنشأها حزب الله الذي أعلن بوضوح أنّ الهدف من مقاومته ينحصر في مواجهة «إسرائيل» التي تحتلّ أرضاً لبنانية وتغتصب فلسطين ومساعدة الفلسطينيين للعودة إلى بلادهم المحتلة.
تفاوت اتسعت شقته مع مرور الزمن وظهور النتائج، حيث انّ حزب الله أثبت بالحجة القاطعة انه حركة مقاومة، خاصة أنه تمكن من تحرير أرض لبنانية في الجنوب وطرد المحتلّ منه في العام 2000 ملتزماً في قتاله قواعد الشرع والقانون دون مسّ بحق أو كرامة أحد خارج الميدان العسكري في مواجهة المحتلّ، بينما وجدت أميركا انّ تنظيم «القاعدة» المموّل سعودياً وخليجياً والمُدار منها والقائم على فكر تكفيري بات بمثابة الجيش السري الذي يمكن أن تستعمله متفلتاً من القواعد والضوابط كلّها وفي أيّ مكان وميدان لا تريد زجّ جيشها فيه أو يكون إلى جانب جيشها لتنفيذ سياساتها الخفية كما فعلت في العراق بعد احتلالها له، واستعانت بـ»القاعدة» من أجل زرع بذور التفرقة وإرساء الأسس لقيام المجتمع المشرذم المفتقر للقوة التي تجسّدها الوحدة الوطنية، استعملت أميركا الجماعات الوهابية في عمليات إرهابية موصوفة لا يشبهها الا الإرهاب الصهيوني في فلسطين.
ومع هذا السلوك امتنعت أميركا ولا زالت تمتنع عن وضع تعريف للإرهاب، وتمسّكت بمنطق التوصيف الظرفي غير المستند في إطلاقه الا لمصالحها وأهدافها، وفي الوقت الذي استقرّ فيه الفقه القانوني الدولي على اعتبار الإرهاب نقيضاً للمقاومة، معرّفاً الإرهاب بأنه لجوء غير مشروع إلى العنف الذي يمارس بوجه سلطة ما للضغط عليها للتنازل والحصول منها على أهداف غير مشروعة عبر العمل ضدّ أهداف بريئة لا علاقة لها بالنزاع، بخلاف المقاومة التي هي رفض لوجود محتلّ ومواجهة لخطر يتهدّد الذات في وجودها وحقوقها ومصالحها واستعمال القوة لاستنقاذ تلك الحقوق من يد منتهكها، رغم ذلك فقد قلبت أميركا الأمور وصنّفت المقاومة إرهاباً، واعتبرت من يطبّق عليهم تعريف أو توصيف الإرهاب مجاهدين أو ثواراً أو معارضة معتدلة مسلحة، كما فعلت في سورية الآن.
لكن أميركا اضطرت في نهاية المطاف للاعتراف علانية بأنّ المنظومات التي رعت إنشاءها واحتضنت نموّها أمثال «القاعدة» وما تفرّع عنها هي منظومات إرهابية، اعتراف جاء للاستهلاك الإعلامي لأنه لم يترافق حقيقة مع سلوك جدّي رافض لهذه التنظيمات لأنّ أميركا استمرّت في سياسة الاستثمار بالإرهاب.
لقد ظنّت أميركا انّ الاستمرار برعاية الإرهاب الحقيقي والاستثمار به ومحاربة المقاومة الحقيقية بعد نعتها بالإرهاب أمر سيمكّنها من تحقيق أهدافها دون أن تتكبّد أيّ خسارة طالما انّ هناك من هو جاهز للإنفاق والدعاية والاحتضان والتحشيد لإرهابها، وهنا برز دور المملكة السعودية التي وفرت لأميركا كلّ ما تريد، فالفكر الوهابي فكر تكفيري ملائم والمال السعودي وفير وقادر، اما الإعلام فالسعودية تملك امبراطورية إعلامية لا يجاريها بها أحد، وأخيراً انّ التحشيد سهل طالما انّ السعودية ومن اجل نشر العقيدة الوهابية التكفيرية سخرت الدعاة والأموال ونشرتهم في أربعة أرجاء الأرض وجهّزت لهم المنابر في المساجد ووفرت لهم الأموال لجذب الشباب، ولهذا تمكّنت ان تجد في أكثر من مكان من يتطوّع لمشروعها باختيار وحماس ظاهر.
في ظلّ هذا الواقع نشأت الجماعات الإرهابية وتمكنت ان تنشر في معظم البلدان العربية والإسلامية حيث للسعودية موطأ قدم أو نفوذ، وتمكنت تلك الجماعات ان تنظم نفسها وتنمو بسرعة وتفرخ تنظيمات وجماعات تحت تسميات متعدّدة، ولكنها في معظمها تقوم على الفكر الوهابي التكفيري كما أنّ بعضها انشق أصلاً عن تنظيم «القاعدة» فنشأ في العراق ما اسمي الدولة الإسلامية التي توسعت لتشمل بلاد الشام داعش بعد ان سبقها اليها فرع آخر من تنظيم «القاعدة» هو «جبهة النصرة» إلى آخرين مثل «أحرار الشام» و»جيش الإسلام» وإلخ…
عوّلت أميركا التي قادت المشروع الصهيو أميركي ومعها السعودية التي لها مشروعها الوهابي التكفيري، ومعهما قوى إقليمية ودولية خاصة دول في الاتحاد الأوروبي،عوّلوا جميعاً على تلك المجموعات الإرهابية المسلحة لإسقاط الدولة في كلّ من سورية والعراق وتمكين السعودية وتركيا من وضع اليد عليها لتمكين أميركا و»إسرائيل» من تنفيذ المشروع الصهيو أميركي القاضي باحتلال المنطقة واجتثاث كلّ صوت مقاوم فيها.
لكن الميدان عاكس العدوان ووصلت الأمور أمام الجماعات الإرهابية إلى الحائط المسدود، وبات على تلك المجموعات التي لمست صعوبة تقترب من الاستحالة في الاستمرار في المواجهة في سورية والعراق ان تغيّر ميدانها، كما لمس رعاتها انّ الحرب هناك انتهت بالمفهوم الاستراتيجي والعسكري، وانّ ما تبقى من مواجهات يندرج تحت عنوان التصفية وضبط المواقع تمهيداً لعودة الدولة اليها، وهنا وعملاً بنظرية كرة النار المرتدّة تشكل ما نسمّيه الإرهاب المرتدّ، أيّ ارتداد الإرهاب على صانعيه والمستثمرين فيه. وهذا ما يفسّر وقوع العمليات الإرهابية في تركيا وبلجيكا وقبلهما باريس.
ويجب التوقف بشكل خاص عند ما جرى في بروكسل، حيث إنّ العملية الإرهابية الفظيعة هناك جاءت مباشرة بعد اتخاذ البرلمان الاروبي قرار- توصية بوقف تزويد السعودية بالسلاح لأنها ترتكب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في حربها الإجرامية على اليمن، ثم كان إلقاء القبض في بروكسل على أحد المشتبه بهم في عملية باريس الإرهابية صلاح عبد السلام، فكانت الجريمة الإرهابية تلك بمثابة الانتقام والإنذار الذي يوجه لأوروبا لمنعها من اتخاذ أيّ اجراء يمسّ بالسعودية المتعهّد الأساسي للجماعات الإرهابية والمستثمرة بها أو يلاحق الإرهابيين.
إنّ ما حصل في باريس سابقاً وما يحصل في تركيا وبلجيكا اليوم يوجه رسالة واضحة للغرب بانّ عليه أن يختار بين الصدق في السلوك والتصنيف والتوجه لمحاربة الإرهاب الحقيقي القائم على الفكر التكفيري ذي الجذور الوهابية، أو أن يستمرّ في النفاق والازدواجية ويطأطئ الرأس أمام المال السعودي ويفتح أبوابه لنشر فكرها التكفيري التدميري وتزويدها بالسلاح لقمع الشعوب وإنشاء المنظومات الإرهابية، ثم يرتدّ الإرهاب عليه إراقة دماء وتدمير منشآت وتعطيل حياة فضلاً عن الرعب العام.
إنّ الغرب بما يملك من قدرات وطاقات فكرية يعرف تماماً انّ محاربة الإرهاب لا تبدأ الا عندما يتوقف الاستثمار بالإرهاب والتمييز الحقيقي بينه وبين المقاومة على الأسس الاكاديمية الصحيحة لا وفقاً لمزاجية أميركية سعودية تخالف العلم والمنطق السليم. وانّ هذه المحاربة ينبغي ان تتمّ وفقاً لمنظومة من الإجراءات المتكاملة مادياً وفكرياً ومعنوياً لأنّ الارهاب يقوم أيضاً على منظومة متكاملة تبدأ بالفكرة والفقه المبرِّر والمروِّج له وتنتهي بالعمل الميداني المادي الذي يترجم بانفجار وقتل وتدمير. وانّ التصدّي له ينبغي أن يبدأ باستئصال الفكر الإرهابي أولاً واجتثاثه من الصدور ومنع انتشاره وترويجه والاستثمار به. وهنا يتوجب أيضاً القيام بالعمليات الاستباقية والوقائية التي تتصدّى لداعية إرهابية هنا وخلية إرهابية تقوم بالتحضيرات هناك، في سياق حلقة مقفلة من الإجراءات لا تترك ثغرة إلا وتعالجها.
وعلى هذا الأساس نرى انّ الحرب الفعلية على الإرهاب تنتهي بالعمل الأمني ولا تبدأ به، بل تبدأ بالتعريف الصحيح للإرهاب، ومنع نشر الفكر المحفز عليه والحؤول دون أيّ عمل يحشد الإرهابيين أو يحضنهم أو يستثمر بهم ثم يأتي دور الأمن في وظيفته الوقائية والقمعية عملية يجب ان تترافق مع وقف العدوان والظلم الذي تنزله القوى الغنية والقوية بالشعوب الضعيفة والطبقات الفقيرة.
(البناء)