صباح الموت في بروكسل .. وعتمة الخوف في كل أوروبا وسيم ابراهيم
بروكسل تلتحق بقائمة المدن الغربية المدماة بالإرهاب من العيار الثقيل، مستهدفاً تهديد هيبة الدولة وسلم مواطنيها، بعد نحو أربعة أشهر فقط من هجمات باريس.
أمس شهد دخولها هذا السجل الأسود، بعد نيويورك، لندن، ومدريد. هجمات منسقة أوقعت عشرات الضحايا والجرحى، بعدما هزت أروقة المطار الدولي الكبير من داخله، ومحطة ميترو رئيسية لا تبعد أكثر من 50 متراً عن مقرّ الاتحاد الأوروبي. المدينة الصغيرة، الوديعة بخليطها المتسامح، ضربها الدم والرعب في اليوم الثاني لحلول الربيع، ليلقى حتفه بعض من كانوا في طريقهم لتمضية عطلة عيد الفصح مبكرين يومين.
المدينة استفاقت على هذا الكابوس، في توقيت سيئ للغاية. لم تمض سوى أيام معدودة على ظهور رئيس وزرائها إلى جانب الرئيس الفرنسي، ليتنفسا الصعداء، معلنين القبض على المطلوب الأول في أوروبا والمتورط في هجمات باريس. كان في السجن المحصّن، السلطات أعلنت معرفتها بشبكة مرتبطة به كانت تخطط لهجمات في بروكسل، مع ذلك صارت الهجمات واقعاً مفجعاً للدول الملامة سلفاً لجهة الإحكام الأمني. رسالة الرعب لتنظيم «داعش» وخلافة ابو بكر البغدادي، وصلت، أخافت وتركت قوات الأمن عاجزة تقريباً. مدينة مشلولة الحركة، بلا نقل عام، تنظر لغدها بقلق وتوجّس: التأهب الأمني رفع إلى الحد الأقصى، لكن ما الذي في الإمكان أكثر مما كان.
القادة الأوروبيون تضامنوا فوراً، رددوا أنهم عازمون على هزيمة التهديد «بكافة الوسائل اللازمة». لكن المعضلة أن هذا «الإرهاب» لا يبدو أقل عزماً. ثلاثة رجال يدخلون مع متفجراتهم صالة المطار، المحمي أصلاً برجال الأمن والجيش المدججين، ليمضوا بكل دم بارد لصنع الحدث الذي دوى في العالم بأسره. مهاجمون آخرون، سلكوا أيضاً تحت كاميرات المراقبة، من بين رجال الأمن والجيش، ليضعوا متفجراتهم في محطة ميترو حساسة. لو مضوا أمتاراً، لكان الانفجار هزّ المفوضية الأوروبية، والمجلس الأوروبي، حيث يجتمع قادة الاتحاد الأوروبي ومسؤولوهم دائماً.
من دون تعطيل هكذا مخطط، بإمساك عناصره قبل أن يمضوا إليه، كيف يمكن تطبيق الوقاية؟ الخطورة المضاعفة تأتي أيضاً من عدم وضوح إن كانت تلك شبكة إرهابية واحدة، إن كانت خلايا، أم أنها أوكار وجحور وأنفاق قد تتقاطع أو تتصرف بشكل منعزل، ليس معروفاً أين مداخلها ومخارجها. ما هو واضح أن الخطر داهم. يقال الآن إن ما قبل هجمات 22 آذار، ليس كما بعده، لكن قيل هذا سابقاً، في كل العواصم الغربية التي أدميت بأيلولها الأسود.
بدأ كل شيء مع أخبار متضاربة، قبل أن تؤكدها صور تناقلتها المواقع الاجتماعية، مرفقة بتعليقات خاطفة عن تفجيرين داخل المطار الدولي. بعد لغط تواصل لساعات عرفت التفاصيل الأولى. التفجيرات حصلت في صالة المغادرين، المرجح أن هناك انتحارياً على الأقل فجر نفسه، مع إمكانية وجود انتحاري آخر أو فرضية عبوة ناسفة داخل حقيبة. هجوم المطار، بتفجيره المضاعف، أودى بحياة 14 إنساناً، وجرح ما يزيد عن 90، وفق ما نقلته وسائل الإعلام المحلية عن مصادر الشرطة والمستشفيات.
كان يمكن للخسائر أن تكون أكبر، فالسلطات تحدثت عن عبوة كانت معدة لتنفيذ انفجار ثالث، لكن قوات الأمن عثرت عليها وفككتها. الدليل الوحيد على المنفذين صورة التقطتها كاميرات المطار، قالت السلطات إنها لثلاثة رجال يشتبه في أنهم المنفذون. كانوا يجرون عربات حمل حقائب، كأي مسافرين. نقلت وسائل إعلام محلية عن الشرطة تأكيدها أن أحدهم معروف لها، وصدرت بحقه مذكرة ملاحقة. غير ذلك لا تفاصيل كثيرة، بانتظار تحليل صور كاميرات المراقبة داخل المطار وعلى مداخله. خرجت أنباء متضاربة، بعضها يقول إن أحد الرجال الثلاثة كان مسلحا بكلاشينكوف، أخرى أوردت العثور على أسلحة في سيارة ركنوها في مرآب المطار. لا أكيد سوى القتل الإرهابي الأعمى الذي خطف أرواح مدنيين أبرياء.
رغم قلة التفاصيل عن الهجوم الأول، لكنها تبقى معتبرة قياساً بالهجوم الثاني. قياساً بعدد الضحايا، كان الهجوم الأعنف هو الذي داخل محطة ميترو «مالبيك»، في القلب السياسي والديبلوماسي للعاصمة الأوروبية. التفجير لم يعرف بالضبط سببه، هل هي عبوة أم انتحاري، لكنه أودى بحياة ما لا يقل عن 20 إنساناً وترك ما يقارب 130 مع جراحهم.
الهجمات وقعت ساعة ذروة التنقل. هجوم محطة الميترو وقع قرابة التاسعة صباحا بالتوقيت المحلي، وسبقه هجوم المطار بحوالي الساعة. لم يمض وقت يذكر حتى باتت المدينة مشلولة تماماً. أغلقت كل محطات الميترو، شبكات الترام، الباصات توقفت. المدينة صارت معزولة عن العالم تقريباً، بعدما ألغيت جميع رحلات المطار الدولي، فيما تعطلت معظم حركة القطارات القادمة إلى بروكسل والمسافرة منها.
ليس معروفاً حتى الآن علاقة الهجمات بتلك التي أدمت باريس. إذا كانت الأحزمة الناسفة هي المستخدمة، فحالة بروكسل تثبت أنه تم تطويرها، نظراً لعدد الضحايا الأكبر. ليس هناك تفاصيل حول تشبيكات بين المنفذين، أو عقدة قيادة تربطهم. ليس معروفاً علاقة ما حدث بالقبض على صلاح عبد السلام، قبل عدة أيام، بعدما كان المطلوب الأول أوروبياً لعلاقته بهجمات باريس، تلك التي فجر أخوه إبراهيم فيها نفسه في حين يشتبه أنه فرّ قبل أن يقوم بالفعل ذاته.
بعدما ألقي القبض على عبد السلام، قالت الحكومة إنها باتت تملك معلومات حول شبكة مرتبطة به كانت تستعد لتنفيذ هجمات في بروكسل. ليس واضحاً إن كانت هي الشبكة التي نفذت هجمات آذار الأسود البلجيكي. لأنه لا يمكن الانتظار، وليس هناك معطيات دقيقة وسط حالة أمنية حرجة، أطلقت أجهزة الشرطة والأمن حملة اعتقالات ومداهمات واسعة. داهمت بيوت مشتبهين، وبحثت عن كل شخص له صلات محتملة، وسط مخاوف كبيرة من هجمات أخرى متزامنة.
لكن بكل الأحوال، صورة الأمن البلجيكي في موقف حرج للغاية. بدأ الأمر مع تجمع منفذي هجمات باريس في حي «مولنبيك» الشهير، ليعيّر مسؤولون فرنسيون نظراءهم بأن التخطيط كان عندهم من دون معرفتهم. بعد الهجمات بقي المطلوب الأول عبد السلام فاراً لأشهر، مع روايات تتحدث عن فراره إلى سوريا وغيرها، قبل أن يتضح أنه في الحي نفسه! لولا الحظ لكان فاراً إلى الآن، بعدما تم إيجاد أثره في مداهمة عادية، ثم العثور عليه بعد تقصي طلبية «بيتزا» كبيرة خرجت من البيت الذي خبأه مع آخرين. الآن زادت الهجمات الصورة الأمنية شحوباً: المطلوب الأول في السجن، شبكة مرتبطة به معروفة، ثم الهجمات تقع على رأس هذه الأخبار.
مع ذلك، يبدو واضحا أن الخطورة لا يلخصها عنوان الثغرات الأمنية. بعد الهجمات أمس خرج من يطالب، أوروبياً، بنقاط تفتيش تعمل كمصدات خارج المطارات ومحطات الميترو. أي فرق سيحدث، بما أنها ستخلق اختناقات وجمهوراً أسهل وأيسر لمن يريد تنفيذ تفجير إرهابي. الجميع يقر الآن أن هناك حالة عجز: المسألة لم تعد تحتاج إلا مجرماً مصمماً، لينسل في جمع هنا أو هناك، ثم تخرج أخبار الكارثة التي يتمناها مع مرشديه الشيطانيين.
لم يكن خوفاً فقط، كان الذي يظهر في عيون الناس أكثر. إنها صدمة، دواراً، عدم تصديق. إدواردو كان يقف بالبيجامة وحذاء الرياضة، متأملاً حاجزاً للشرطة أغلق الطريق لمحطة الميترو المغلقة. قال إنه خائف، لا يعرف، ببساطة: «هذا طريقي، أنا وزوجتي نذهب لنهاية الشارع، نركب الميترو من تلك المحطة»، ثم تخرج عبارة «كان يمكن بسهولة أن أكون بين الضحايا».
سائق سيارة التاكسي أوليفييه لا يصدق أيضاً. ينقاد لأوامر الشرطة. لا تغادره نظرة حزن تمسح مقاعد المقاهي الفارغة، يشرد راويا سبب صدمته: «لقد أنزلت زبونا في المطار الساعة 7:45 دقيقة، الانفجار حدث بعدها بدقائق. كنا نمزح طوال الطريق، لا أعرف، ربما يكون بين الضحايا».
الخوف من الظل الأسود للهجمات لم يصدر بطبعة واحدة. بعد ساعات قليلة من شيوع خبر الهجمات، مع طلب التزام البيوت والمكاتب، كان العشرات ينحنون فوق إسفلت الشارع المحيط بساحة «البورصة»، القلب السياحي والتجاري لبروكسل. تحول الشارع للوح تعبير هائل عن رفض الكراهية بعبارات الطبشور الملون. إنه رد استباقي على الكراهية التي تعتمل في صفوف اليمين المتنامي في أوروبا.. الجاهز لتسويق عداء المهاجرين، اللاجئين، كل من يمكن عداءه لزرع الخوف وحصد الأصوات الانتخابية.
(السفير)