النزاعات التاريخية تقتحم صفقة اللاجئين: شروط قبرصية تعرقل الابتزاز التركي! بروكسل – وسيم ابراهيم
الواقع يكتب سيناريوهات سوداء لا تضاهى أحياناً. تحولت قضية اللاجئين الآن إلى دوامة سحبت إليها نزاعات تاريخية. بات مصير تدفقات الهاربين من الحروب والمآسي مرهوناً أيضاً بالنزاع المزمن حول تقسيم قبرص. الجزيرة المتوسطية تهدد برفع الفيتو على أي صفقة أوروبية مع تركيا لا تراعي مصالحها، بعدما وصلت مفاوضات إعادة توحيدها «مرحلة حرجة». توفيق المصالح بات أكثر تعقيداً، لكن باعتراف الأوروبيين ليس هناك بديل عن أنقرة.
صار الأمر لعبةَ ابتزاز علنية، أظهر الأوروبيون فيها مستوى من الانحطاط ينافس مبتزيهم. ماذا ينقص أكثر من تنديد الأمم المتحدة باتجاه الأوروبيين لانتهاك القانون الدولي، ومن باب ما يفترض أنه الامتحان الأساسي للقيم الانسانية: تأمين الحماية للاجئي الحروب، بدلاً من عقد اتفاقات الترحيل الجماعي لهم.
الغرق في تتبع هذه النقاشات يجعل المراقبين، الصحافيين، يجدون أنفسهم لا يرون غير الأشجار. بعض القادمين من خارج تشابكات المساومة وتفاصيلها يمكنهم رؤية تلك الغابة تواً. أحد الصحافيين الغربيين المخضرمين، الموفدين من بلادهم البعيدة لتغطية القمة الأوروبية، المنعقدة أمس واليوم، خرج ليجد نفسه في دوار تفاصيل لا معنى لها. الجوهر الذي رآه خلف كل ذلك جعله يقول بانفعال «لا أعرف لماذا يغرق الإعلام هنا بهذه التفاصيل، القضية كلها هي أن المعالجة لقضية اللاجئين بأسرها تنطلق من مبدأ غير أخلاقي».
تقارير الإعلام الأوروبي باتت تركض خلف الأرقام التي لن تعني شيئاً بالفعل للمعنيين بها. إنها جاذبية دراما سياسية نادرة وغنيّة، مفضوحة وبلا أغلفة، مع سلسلة مساومات ومقايضات ومزادات علنية. ماذا سيعني لو كان سقف اللاجئين الذين ستستقبلهم الدول الأوروبية من تركيا هو 72 ألف لاجئ، وفي حال تجاوز عدد ركاب القوارب المطاطية ذلك السقف، سيجري إعادة النظر في أي صفقة مبرمة. ماذا سيعني ذلك إذا كان هذا العدد وصل الجزر اليونانية، الصيف الماضي، خلال أسبوع فقط؟ ماذا تعني مبادلة كل لاجئ سوري، تقبل تركيا باستعادته من اليونان، بآخر ستستقبله أوروبا من تركيا؟ لا شيء سوى ردع اللاجئين بسدود التيئيس بعدما لم تنفع معهم سدود الحدود!
على كل حال، الدول الأوروبية عليها القبول بحزمة تنازلات كبيرة طلبتها أنقرة. دول عديدة ترفض عنصراً أو آخر من الحزمة. لكنهم سيمضون اليوم لمقابلة رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو بموقف موحد، قبل الفصل الأخير من المفاوضات الحاسمة للصفقة بين الطرفين.
بين قلّة عملوا لصياغة الصفقة، منذ انبعاثها قبل عشرة أيام، كان رئيس الوزراء الهولندي مارك روتا، الذي تتولى بلاده الآن الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي. لكن ماذا لو لم يمكن تحقيق الصفقة، ما البديل؟ توجهت «السفير» بالسؤال لروتا، فلم يحتج للتفكير مليّاً. قال فوراً «ليس هناك بديل»، قبل أن يستطرد «علينا الوصول لاتفاق مع تركيا، وإلا فإن الوضع في اليونان سيبقى صعباً للغاية والأزمة الانسانية ستتزايد، خصوصاً أن طريق البلقان مغلق الآن، الناس لا يمكنهم مغادرة اليونان، لذلك من الملح الوصول لاتفاق الآن».
الآن قضايا نزاع دولي دخلت على الخط. أحد المسؤولين الأوروبيين، بروح سخرية معبرة، قال لصحيفة أوروبية: لم يعد ينقص إلا أن ندعو بنيامين نتنياهو ومحمود عباس.
بات العائق الأساسي الآن أمام الصفقة الموقف القبرصي. الجزيرة المتوسطية عاشت منذ العام 1974 على وقع نزاع تاريخي مع تركيا، بعدما احتلت الأخيرة قسمها الشمالي فارضة تقسيمها إلى تركية ويونانية. يقول المعنيون بالقضية إن مفاوضات توحيد الجزيرة، المتجددة الآن، وصلت «مرحلة حرجة».
إحدى أوراق الضغط الأساسية لقبرص كانت وضع «فيتو» على فتح خمسة فصول جديدة، في مفاوضات عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. منذ العام 2009، لم تخرج تلك الفصول من ثلاجة التجميد. الآن يريد الأتراك، كجزء من صفقة قبولهم بإيقاف تدفقات اللاجئين، أن يتم فتح تلك الفصول، لتسريع مفاوضات الانضمام.
الرئيس القبرصي نيكوس أنستاسياديس وجد نفسه في الزاوية، مع زعماء أوروبيين، على رأسهم المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل، يضغطون عليه لتسهيل الصفقة. ردد محتجاً، طوال الأيام الماضية، أنه «ليس عدلاً» إلقاء عبء حل قضية اللاجئين على كاهل جزيرتهم الصغيرة.
في طريقه إلى الاجتماع بنظرائه، قال إن القضية محسومة لديه: «الأمر بسيط جداً، إذا أوفت تركيا بالتزاماتها وفق بروتوكول أنقرة، في إطار المفاوضات (لتوحيد قبرص)، فحينها لا مشكلة، لكن من دون ذلك لا يمكننا فعل شيء» لتمرير الاتفاق حول اللاجئين.
تركيا في الأساس لا تعترف بقبرص كدولة. لا تسمح لها بالاستفادة من اتفاقية للتبادل الجمركي تجمعها مع الاتحاد الأوروبي. البروتوكول المذكور يقضي بالسماح لسفن وطائرات قبرص اليونانية بان تحط في مطارات تركيا وموانئها، رافعة العلم القبرصي، ما سيعني خطوة هامة نحو الاعتراف والتطبيع.
حينما سألت «السفير» مسؤولاً قبرصياً، يرافق هذه المداولات، أكد أن ما أعلنه رئيسه خط أحمر. قال موضحاً موقفهم «طبعاً نشعر بضغوط كبيرة، لكن لن نقبل بإعلان نوايا طيبة من تركيا، الأمور لا يمكن تسويتها بهذه الطريقة»، قبل أن يوضح «نقبل فقط حينما يتم الاعلان رسمياً عن الترحيب بسفننا وطائراتنا في تركيا، غير ذلك لن يمر قرار أوروبي من دون موافقتنا، أو فليبحثوا عن قضية أخرى (للمساومة) غير فتح فصول الانضمام».
رغم الحاجة الأوروبية الشديدة، وفق حساباتهم السياسية، للصفقة مع تركيا، فإن الأوروبيين يتفهمون الموقف القبرصي ليس فقط للاعتبارات السابقة. يقول مسؤول أوروبي رفيع المستوى لـ «السفير» موضحاً السياق: «نحن نتفهم موقف الرئيس أنستاسياديس، لقد قال لنا إنها فرصتهم الأخيرة لإنجاح مفاوضات إعادة التوحيد»، قبل أن يضيف «لديهم الآن ربما الجيل الأخير من القيادة السياسية المهتمة بتوحيد الجزيرة، القيادة الحالية عاشت تجربة التقسيم، أما الجيل الجديد فربما لن يعنيه كثيراً إن تمت استعادة القسم التركي أم بقي منفصلاً».
هناك قضايا عدة عالقة في الاتفاق المنتظر مع تركيا. دول أوروبية عديدة تتحفظ على منح تركيا اتفاقية لسفر مواطنيها إلى الاتحاد من دون «فيزا». أنقرة تريد حصول ذلك بحلول نهاية حزيران. عادة إتمام ذلك يحتاج الايفاء بـ72 شرطاً، لم تنجز تركيا منها سوى 35. فرنسا والنمسا ودول عديدة تقول إنها لن تقبل بالقفز عن تلك الشروط: المساعدة بتحقيقها نعم، لكن تجاوزها مرفوض كما شددوا.
رغم أنها قضية أساسية، وكانت عنوان تنديد الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية، لكن عدم انتهاك القانون الدولي هو نهاية سلم الأولويات. صحيح أن بعض الدول تردد ذلك، لكن يبدو أن هناك استعداداً كبيراً لإيجاد أي تصريف للمسألة. الاعتراض يشمل قضية الترحيل القسري الجماعي، لكونه انتهاكاً لاتفاقية جنيف حول اللاجئين. الاعتراض أيضاً يشمل الآلية التي يجري سلقها لجعل المسألة قانونية، عبر إعلان تركيا، بين ليلة وضحاها ومن دون مقدمات، بلدا «آمنا» يمكن إعادة اللاجئين إليه.
آلية «واحد مقابل واحد»، المتعلقة بالسوريين، بات واضحاً أنها مجرد أداة لوقف تدفقات اللاجئين. اعترف مسؤول أوروبي بأن أنقرة، على عدم اكتراثها، لم تطرح تلك الآلية من تلقاء نفسها، بل «طلبت منها دول أوروبية (المانيا تحديدا) اقتراح آلية مناسبة لوقف التدفقات».
الاوروبيون يعدون بانه حالما تتوقف التدفقات «غير الشرعية»، سينشئون حينها آلية بديلة لقنوات شرعية، لكن بسقف إعادة توطين ليس معروفاً مستوى تدنيّه بالضبط. الصفقة أمامها لحظات مساومة حاسمة مع رئيس الوزراء التركي، الذي سينضم لجوقة المقايضة اليوم في بروكسل.
كل هذا لن ينهي القضية، كما يعرف الأوروبيون تماماً. لذلك وضعوا أنفسهم في معركة مفتوحة مع أي منفذ سيحاول اللاجئون العبور منه. اختارت أوروبا المواجهة معهم لحل أزمتها السياسية، لم تفتح أمامهم أية قنوات شرعية يمكن الاعتداد بها، ثم يتعجب قادتها لماذا يزدهر عمل المهربين وتزداد أرباحهم.
(السفير)