“القصر الأبيض”: خواء الروح محمد نورالدين
أتيحت الفرصة للصحفيين للمرة الأولى لكي يدخلوا إلى جانب صغير من “القصر الأبيض” في أنقرة، وهو القصر الذي بناه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليكون مقراً للرئاسة .
دخل الصحفيون إلى القصر الأبيض بمعية البابا فرنسيس الثاني بابا الفاتيكان الذي قام بزيارة دينية إلى تركيا لمدة ثلاثة أيام نهاية الأسبوع الماضي، ولولا ذلك لما أمكن للصحفيين أن يروا القصر ولو جزئياً من الداخل .
أحد الصحفيين كتب قائلاً: إنه ظن للوهلة الأولى أنه ليس في تركيا، لأن هذه الفخامة والضخامة لا تليق بتركيا البلد غير الغني وغير النفطي، وحيث لا حاجة أصلاً إلى مثل هذا القصر في أنظمة يفترض أن تكون ديمقراطية، كما أن نسبة العاطلين عن العمل تتعدى وفق الأرقام الرسمية العشرة في المئة .
القصر سمّي من قبل الرأي العام والصحافة ب”الأبيض” نسبة إلى الحرف الأول من الكلمتين اللتين يتألف منهما اسم حزب العدالة والتنمية وهو (آ .ق .) . ولفظ هذين الحرفين مع بعضهما بعضاً، أي (آق) باللغة التركية يعني كلمة “أبيض” . لذا سُمّي القصر الجديد بالقصر الأبيض .
لم يكن يمانع أردوغان بهذه التسمية خصوصاً أنه يريد التشبه بالقوة العظمى الأولى في العالم، أي الولايات المتحدة ومقر رؤسائها اسمه “البيت الأبيض” .
غير أن الانتقادات التي وجهت إلى الاسم وباتت موضع تندر وتهكم، دفعت بأردوغان إلى الإعلان عشية الانتقال إلى القصر الجديد أنه تقرر رسمياً إطلاق اسم “قصر الرئاسة” عليه . ومع ذلك لا يزال الإعلام يستخدم مصطلح القصر الأبيض الذي يبدو أنه سيبقى هو المستخدم، وحيث لا يمانع أردوغان، في سره، هذا الأمر . فهو يجمع البياض واسم حزب العدالة والتنمية والتشبه بالبيت الأبيض في واشنطن .
الكلفة التي أنفقت على تشييد القصر وفق الأرقام الرسمية تقارب ال 700 مليون دولار، وربما تكون أكبر من ذلك بكثير .
إنه “جنون العظمة” . هذا ما كتبه حرفياً أحد الصحفيين الأتراك المعروفين . أردوغان الذي دعا خلال “الربيع العربي” إلى تعزيز الديمقراطية في الدول العربية هو نفسه مضى على تزعمه تركيا 12 عاماً، وسيبقى خمسة أعوام رئيساً للجمهورية، وفي حال تجديد انتخابه في العام 2019 سيبقى حتى العام ،2024 أي يكون أمضى 22 عاماً في السلطة، ليمكث فترة أطول من أتاتورك بسبع سنوات، وليكرس نفسه دكتاتوراً أول بامتياز في تاريخ تركيا الحديث .
والدكتاتورية لا تقاس فقط بطول مدة الحاكم في السلطة، بل أيضاً بطريقة إدارته لشؤون البلاد . فبعدما كانت تركيا بلداً يمتاز باستقلالية ولو نسبية للقضاء والفصل بين السلطات، إذا بأردوغان يغير القوانين ويطيح قاعدة الفصل بين السلطات، من خلال إقالة قادة الأجهزة الأمنية والقضائية والتعليمية، في إطار ما زعمه حملة على الذين حاولوا الانقلاب عليه، أي جماعة فتح الله غولين . وباتت الدولة في تركيا دولة الحزب وامّحت الفواصل بين الحزب والدولة، وهو ما يخالف أبسط القواعد في النظم الديمقراطية .
“الأبيض” الذي هو عنوان النقاء والفضيلة والطهارة لم يعد كذلك . فقبل أيام منعت الحكومة وسائل الإعلام الإشارة إلى أي خبر يطال فضيحة الفساد التي هزت الحكومة في هذه الأيام من العام الماضي .
أكثر من ذلك فقد تمت تبرئة الوزراء الأربعة الذين تورطوا في الفضيحة، وهاهم اليوم يخطبون في المناسبات الحزبية والاجتماعية كأن شيئاً لم يكن . ولن يكون مستغرباً أن يعودوا إلى ممارسة العمل الحزبي والوزاري والنيابي لاحقاً .
وفي المعنى السياسي لا شك أن أردوغان بات يريد تعويضاً نفسياً عن خسائره منذ اندلاع ما يسمى ب”الربيع العربي” وانهيار علاقاته مع كل الدول العربية والمحيطة بتركيا، فكان إنشاء القصر أحد أوجه هذا التعويض .
يقع أردوغان في ازدواج الشخصية عندما يختصر العظمة، كما في العهد الشيوعي، ببناء العمارات الضخمة، فيما هي في ظل تراجع الأرقام الاقتصادية وتراجع منسوب الحريات والديمقراطية وفي ظل دعم التنظيمات الإرهابية مثل “داعش”، دليل على العجز وانعكاس لخواء روحي سحيق لدى من شاده .
(الخليج)