حين تفوّق أردوغان على نابوليون!: محمد نور الدين
اعترف وزير العدل التركي بكر بوزداغ بأن عدد الدعاوى التي تقدم بها رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان إلى القضاء، ضد من اعتبر أنهم قاموا بتحقيره، بلغ 1845 دعوى. وبين هؤلاء نواب وزعماء سياسيون، لكن الغالبية العظمى من هؤلاء من الصحافيين ومن المواطنين العاديين.
يمكن أن يكون بين هؤلاء من قام بتوجيه الشتائم والسباب لأردوغان، ويمكن الشكوى ضده، ولكن عدداً كبيراً من هذا التحقير لم يكن كذلك، بل كان انتقاداً لسياسات وسلوكيات وكشفاً لممارسات يرى أصحابها أن من حقهم أن يواجهوها بالنقد.
الرئيس التركي بهذه الدعاوى ضرب أرقاماً قياسية لم يعرفها أي رئيس تركي أو رئيس، أو ملك، أي دولة أخرى في العالم.
المسألة لا تقتصر على اتهام أردوغان الآخرين بالتحقير، بل أيضاً بتهم أخرى، ليس أقلها، وهي الغالب الأعم، التجسس وخيانة الوطن.
نقطة الانفجار في العلاقة بين أردوغان ومنتقديه من السياسيين والصحافيين والمواطنين كانت قرار المحكمة الدستورية، اعتبار أن اعتقال رئيس تحرير صحيفة «جمهورييت» الكاتب والمخرج السينمائي المعروف جان دوندار ومدير مكتب الصحيفة في أنقرة أرديم غول، لا أساس له، وان المذكورَين كانا يقومان بما تتطلبه مهنتهما الصحافية، واعتقالهما هو انتهاك لحقوقهما المهنية.
للتذكير، فإن دوندار كان قد كشف في نهاية أيار الماضي، بشريط فيديو حقيقي، كيف أن شاحنات النقل الخارجي كانت تحمل قذائف وصواريخ وأسلحة أخرى متوجهة إلى سوريا، وهو ما كانت تنفيه الحكومة التركية. واعتبر أردوغان أن دوندار وغول قاما بفعل تجسس وخيانة بكشفهما أسرار الدولة. وقد أطلق أردوغان حينها تهديده الشهير الذي قال فيه: «سيدفعان الثمن غاليا. لن أدعهما يفلتان من العقاب»، موجها تعليمات إلى القضاء بالتحرك.
خسارة «حزب العدالة والتنمية» بعد أيام من هذا الكشف، في انتخابات 7 حزيران 2015، حالت دون ذهاب الحزب إلى مقاضاة دوندار وغول. لكن قادة «العدالة والتنمية» توعدوا الصحافيين عشية انتخابات الأول من تشرين الثاني، بان الدور سيأتي على صحيفة «جمهورييت» بعد الانتخابات، وهو ما حصل، حين فاز الحزب بالانتخابات؛ وبعد أيام قليلة كان القضاء يوقف دوندار وغول ويرمي بهما في السجن بتهمة التجسس والخيانة.
تسعون يوما أمضاها الرجلان في سجن سيليفري في اسطنبول إلى أن صدر قرار المحكمة الدستورية الذي أحدث قنبلة سياسية كبيرة. قبل أسبوع كانت المحكمة تطلب إطلاق سراح دوندار وغول، معتبرة أن سجنهما ينتهك حقوق مهنتهما الصحافية. لا يعني القرار براءتهما، ولكن محاكمتهما من دون اعتقال.
إلى هنا قد لا يبدو في الأمر تطورات خطيرة تستدعي هذا الهلع الذي أصاب مسؤولي ووسائل إعلام «حزب العدالة والتنمية»، التي اتهمت رئيس المحكمة زهدي أرسلان بتنفيذ تعليمات فتح الله غولين وتصنيفه على أنه من فلول الكيان الموازي. بات كل شيء في تركيا ينسب إلى الكيان الموازي. ولكن إذا كان رئيس المحكمة الدستورية، فرضاً، من جماعة غولين، فماذا عن القضاة الآخرين في المحكمة، لا سيما أن القرار اتخذ بغالبية 12 مقابل ثلاثة أصوات؟.
الأهم في هذا القرار أنه وجد ردة فعل من أردوغان قبيل ذهابه إلى جولته الأفريقية، أثارت انتقادا واستغرابا حتى من داخل «حزب العدالة والتنمية».
قال أردوغان حرفيا: «أنا لا أعترف بهذا القرار، ولا أقبل به ولن أطبقه». من هذه الجملة انفتح عش الدبابير على أردوغان من السياسيين والقانونيين وبالطبع من الصحافيين.
جاء أول ردود الفعل من رئيس المحكمة نفسه أرسلان الذي أكد استقلالية المحكمة عن أي تأثير، وشدد على أن قرارات المحكمة ملزمة للجميع. لكن المفاجأة جاءت من نائب رئيس الحكومة السابق ورفيق درب أردوغان، بولنت أرينتش، المعتزل العمل السياسي، عندما قال إنه إذا كان أردوغان لا يريد الاعتراف بقرار المحكمة، وهي المحكمة الأعلى والملزمة قراراتها للجميع، لكان عليه ألا يقسم اليمين الدستورية عندما انتخب رئيسا للجمهورية.
كلام أرينتش كان يعكس الخلاف بين أردوغان وبين من قام باستبعادهم من «حزب العدالة والتنمية»، ومنهم عبدالله غول، والذين باتوا يشكلون كتلة ضاغطة على أردوغان، مع ظهور شائعات من وقت لآخر إلى إمكانية تشكيلهم حزباً جديداً، وإلى أن محاولة أردوغان تهدئة غول في اجتماعهم الشهير قبل أسبوعين، والذي استمر ثلاث ساعات، انتهت بالفشل. وهو ما دفع إعلام أردوغان إلى اتهام المحكمة الدستورية بأنها من بقايا حكم عبدالله غول، الذي يعين كرئيس للجمهورية جانباً من أعضاء المحكمة. وهكذا تحولت المحكمة إلى مجرد خليط من فلول غولين وبقايا غول!.
بل إن إعلام أردوغان ذهب إلى التلميح بإمكانية العمل على إلغاء المحكمة الدستورية، إذ لا يجوز أن تكون هناك سلطة أعلى من سلطة رئيس الجمهورية؛ علماً أن في هذه الدعوة ازدواجية وخلطاً، فرئاسة الجمهورية سلطة سياسية بينما المحكمة الدستورية قضائية. والفصل بين السلطات بديهي وأساسي في الأنظمة الديموقراطية.
جان دوندار «شكر» على طريقته أردوغان، لأنه لولا اعتراض الأخير على قرار المحكمة لما علم احد بما تشهده تركيا من تضييق على الحريات. ووصف قرار المحكمة بأنه «هزيمة» لأردوغان.
أردوغان لم يقبل الهزيمة، وصمم على الذهاب حتى النهاية في حرب الإبادة ضد الحريات. وفي ما يشبه الانتقام من قرار المحكمة، واتهام بعض قضاتها بانهم تابعون لغولين، قامت محكمة العقوبات السادسة في اسطنبول أمس باتخاذ قرار بوضع اليد على مجموعة صحيفة «زمان»، بوضع وصي عليها، تمهيداً لتصفيتها وحجبها عن الصدور ومصادرة ممتلكاتها نهائياً. وهي خطوة كانت حكومة «العدالة والتنمية» قد دفعت الى مثيلتها قبل أسابيع ضد تلفزيون «صمانيولو» ومن بعدها صحيفة «بوكون» ومحطة تلفزيونية أخرى انتهت الى اقفالها وتأميمها لصالح الدولة.
الخطوة تجاه «زمان» مختلفة كلية لجهة انها أكبر الصحف التركية، وإحدى أهم الصحف التركية، وهي الى صحيفة «جمهورييت» وصحيفتي «سوزجي» و»يورت»، الأبرز في المعارضة لأردوغان. كما أن القرار يشمل كل الصحف والمجلات والوكالات التابعة لمجموعة «FEZA» الإعلامية، ومنها وكالة أنباء «جيهان» المهمة و»توداي زمان» ومجلة «أكسيون» الأسبوعية الشهيرة وعشرات النسخ المختلفة التي تصدرها «زمان» في عدد كبير من عواصم العالم، في القوقاز والبلقان وآسيا الوسطى.
ويمثل وضع اليد على «زمان» وشقيقاتها إحدى ذروات كمّ حريات التعبير في تركيا. وقد رأى رئيس تحرير الصحيفة عبد الحميد بيليجي إنهم حتى لو أضطروا للكتابة على الحيطان فسوف يواصلون معركة الحريات. وقد لاقى قرار وضع اليد على الصحيفة ردود فعل كثيرة مستنكرة للخطوة، حيث قال زعيم «حزب الشعب الجمهوري» المعارض كمال كيليتشدار أوغلو إن تركيا امام دكتاتورية مكشوفة.
وفي إطار التضييق على الحريات الصحافية، نشرت جمعية حقوق الإنسان في اسطنبول محصلة نتائج البيان الذي وقعه أكثر من 1128 أكاديمياً تركياً قبل أكثر من شهر، وطالبوا فيه اردوغان بوقف الحرب ضد الأكراد. ذكرت الجمعية أن تحقيقا إدارياً فتح بحق 147 أستاذاً جامعياً، وان 17 أستاذاً قد فصلوا من وظيفتهم، وان 26 منهم قد اعتقلوا في السجن، وان ثلاثة قد تعرضت بيوتهم للمداهمة والتفتيش وأن خمسة قد تلقوا تهديدات.
وتأكيداً على نهج قمع الحريات الصحافية، فإن النائب عن «حزب الشعب الجمهوري» المعارض باريش يارقداش تلا أمام البرلمان التركي أسماء 32 صحافياً معتقلين، ومنهم رئيس مجموعة «زمان» الإعلامية هدايت قراجه والصحافي المعروف محمد بارانسو. وحذر يارقداش من تسريبات بعض مستشاري أردوغان من إعادة اعتقال جان دوندار وأرديم غول بتهم أخرى، منها التحرك بتعليمات من الكيان الموازي.
ويوم الاثنين الماضي أصدرت «مبادرة الحريات الفكرية» في أنقرة بياناً، وقعه عدد كبير من المثقفين منهم باسكين أوران وحسن جمال وأويا بايدار وبولنت كينيش، اتهموا فيه رئيس الجمهورية بأنه يأخذ تركيا إلى كارثة.
وأشار البيان إلى منع محطات تلفزيونية من البث على القمر الصناعي «توركسات» وإلى مصادرة محطات تلفزيونية أخرى. كما انتقدوا استباحة الدبابات المدن الكردية، كذلك رفض أردوغان الاعتراف بقرار المحكمة الدستورية حول جان دوندار وأرديم غول.
واعتبر النائب الإسلامي عن «حزب الشعب الجمهوري» محمد بكار أوغلو أن ممارسات «حزب العدالة والتنمية» ضد الحريات، تجعل ممارسات العسكر في 28 شباط 1997 ضد الإسلاميين والحريات، شيئاً لا يذكر. وقال إن تركيا تتحول إلى بلد أحكام عرفية يسعى حاكمه إلى إسكات كل صوت معارض. وقال بكار أوغلو إن ما يجري لا ينطبق على القوانين الدولية، ولا وجود له في أي دين. وأضاف إن «المجتمع قد يبدو عليه الصمت، لكن هذا ليس صحيحاً، فهذا القدر من القتلى يوميا من الجيش والمدنيين، وهذا التنامي في التوتر العسكري، يحملنا شيئا فشيئا إلى نقطة الانفجار».
وانتقد الكاتب البارز حسن جمال ردة فعل أردوغان على قرار المحكمة الدستورية، فقال إن أردوغان الذي أعلن رئيس المحكمة السابق هاشم كيليتش خائناً ليس غريباً عليه أن يتهم المحكمة الحالية أيضا بالخيانة. وهو لم يُبقِ أحداً في البلاد، من حاكم المصرف المركزي إلى رئيس جمعية الصناعيين ورجال الأعمال، كما جان دوندار وأرديم غول، إلا واتهمهم بأنهم خونة. وقال جمال: «إن أردوغان لا يريد قضاء مستقلا ولا قانونا. العالم في مكان وأردوغان في مكان آخر. هدفه الأوحد: حكم الرجل الواحد. إن المشكلة الأولى للبلاد اسمها أردوغان. مع أردوغان ليس من إمكانية للاستقرار ولا للسلام».
ليس من تعبير أكثر دلالة على التضييق على الحريات مما أوردته إحدى الصحف التركية من أن نابوليون بونابرت زار أردوغان في قصره في اسطنبول، ودهش من إمساك أردوغان بوسائل الإعلام. وقال له: «لو أنني كنت املك في أيامي هذا القدر من وسائل الإعلام المؤيدة، لما كان سمع أحد بهزيمتي في واترلو».
(السفير)