الهدنة السورية محصّنة ضد الانتقادات: دمشق – عبد الله سليمان علي
تجديد الثقة الدولية بالهدنة، وتحصينها ضد «التقارير الاستفزازية»، لم يكونا كافيين للحيلولة دون استمرار تصاعد موجة الاتهامات الساعية إلى إفشالها.
ولم يقتصر الأمر على تبنّي بعض الدول، مثل السعودية وفرنسا، لبعض «الخروقات المزعومة» استناداً إلى تقارير إعلامية بثها نشطاء لإثبات عدم جدوى الهدنة، تمهيداً لإسقاطها، بل تعداه إلى سعي أنقرة بشكل مباشر إلى إفشال الهدنة من خلال تكرارها قصف الأراضي السورية، والإصرار على عدم شمول «وحدات حماية الشعب» الكردية بها.
يأتي ذلك، في الوقت الذي يواصل تنظيم «داعش» هجومه على مدينة تل أبيض والقرى المحيطة بها، الأمر الذي ترك الكثير من علامات الاستفهام حول التصرف التركي.
وفي تأكيد جديد على صمود اتفاق الهدنة وتمسك المجتمع الدولي به، قال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، أمس، إن «وقف الأعمال القتالية في سوريا متماسك إلى حد كبير».
وبخصوص الخروقات التي يجري الحديث عنها، أشار بان كي مون إلى أن القوى الكبرى والإقليمية تتابع بعض الحوادث، معرباً عن أمله بأن يتم احتواؤها.
لكنّ جرعة الحصانة الأقوى التي اكتسبها اتفاق الهدنة جاءت خلال اتصال هاتفي أجراه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع نظيره الأميركي جون كيري، ناقش خلاله الوزيران «تعزيز التعاون بين القوات المسلحة في البلدين في ما يتعلق بخطة وقف إطلاق النار في سوريا». وشددا «على عدم قبول ضخ تقارير إعلامية استفزازية حول الخروقات المزعومة لوقف إطلاق النار»، وذلك في محاولة منهما على ما يبدو لبناء سد أمام سيل الاتهامات الذي فجرته بعض العواصم، بهدف النيل من مصداقية الهدنة منذ الساعات الأولى لسريانها.
وفي هذا السياق، انضم وزير الخارجية الفرنسي جون مارك ايرولت إلى فريق المشككين بالهدنة، واصفاً إياها «بالهدنة الهشة، والتي لم يكن مفر منها». ودعا، في كلمة له أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، إلى «اجتماع فوري لوحدة الاتصال حول سوريا لبحث انتهاكات وقف الأعمال القتالية، على خلفية ورود معلومات عن وقوع هجمات في مناطق تابعة للمعارضة المعتدلة»، وذلك بعد ساعات من إعلان «هيئة التفاوض العليا» أنها ستقدم شكوى للأمم المتحدة والدول التي تدعم عملية السلام في سوريا، بشأن الخروقات الروسية وجماعة «حزب الله» للهدنة في ريف حلب والزبداني بريف دمشق.
ورداً على حديث وزير الخارجية السعودي حول «خطة ب»، قال مصدر في وزارة الخارجية السورية، في بيان، إن «ما يردده عادل الجبير، وحديثه عن وجود خطة باء إزاء التطورات الراهنة في سوريا هو مجرد وهم في ذهن نظام بني سعود». وأضاف أن «تصريحات الجبير تمثل انتهاكاً لقرار مجلس الأمن رقم 2268 ومحاولة لإفشال وقف الأعمال القتالية».
لكن تركيا ذهبت أبعد من ذلك، حيث استغلت الهجوم الذي يقوم به «داعش» على مدينة حدودية معها للتشويش على الهدنة، ومحاولة تحريف مضمونها وأهدافها. فقد كرر الجيش التركي، لليوم الثاني على التوالي، قصف محيط مدينة تل أبيض الذي يشهد اشتباكات واسعة بين «وحدات حماية الشعب» و«انغماسيي» تنظيم «داعش». وهو ما أكده «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، قائلاً «فتحت القوات التركية نيران رشاشاتها الثقيلة على مناطق في مدينة تل ابيض بريف الرقة الشمالي فجر اليوم (أمس)، ومناطق أخرى في قرية المنبطح بالريف الغربي للمدينة، من دون أنباء عن وقوع إصابات».
ويشير ذلك إلى إصرار أنقرة على تكريس مفهوم خاص بها حول الهدنة، إذ بعد أن أعلنت في السابق أن «الهدنة تشمل سوريا وهي غير معنية بها»، أكدت على لسان نائب رئيس الوزراء التركي يالتشين أق دوغان أن وقف الأعمال العدائية «لا يشمل منظمات إرهابية، كمنظمتي الاتحاد الديموقراطي ووحدات حماية الشعب الكردية، فهما منظمتان إرهابيتان بالنسبة لنا، ونمتلك الحق في الدفاع عن أمننا القومي في إطار قواعد الاشتباك».
وقال الرئيس التركي طيب إردوغان، في أبيدجان، إن وقف إطلاق النار يشمل ثلث البلاد فقط، وإنه يأمل في توسعته ليشمل سوريا بالكامل.
هجوم «داعش» على تل أبيض
واستمر هجوم «داعش» على مدينة تل أبيض ومحيطها شمال الرقة، لليوم الثاني عشر على التوالي، من دون توقف، ومن دون أن تتمكن «وحدات حماية الشعب»، المدعومة بطائرات التحالف الدولي، من صدّه واحتوائه. وهو ما يطرح التساؤل: هل نحن أمام «عين عرب» (كوباني) جديدة، لا ينتهي فيها القتال قبل أن تتحول المدينة إلى كومة من خراب غير صالحة للسكن؟.
ويلعب الدور التركي الملتبس دوراً في تعزيز التشابه بين ما يجري في تل أبيض ومعركة عين العرب، حيث يؤكد الأكراد أن أنقرة سهلت هجوم «داعش» وما زالت تقدم له الدعم. وفي بيان صادر عن منتدى تل ابيض للمجتمع المدني وردت اتهامات صريحة لتركيا، بأن «مدفعية قواتها، المتمركزة على الحدود، قامت بقصف بلدة حمام التركمان لإشغال المقاتلين الأكراد في تلك المنطقة من أجل إدخال مجموعات إرهابية من داعش من الحدود في الريف الشرقي لكري سبي (تل أبيض)»، وهو ما أعلنت وزارة الدفاع الروسية أنها تلقت معلومات بشأنه، وطالبت واشنطن، عبر مكتب التنسيق الأميركي في العاصمة الأردنية عمان، بالاستفسار عنه. ومن شأن هذه الاتهامات، التي نفتها أنقرة، أن تذكّر بالدور الذي قامت به إبان معركة عين العرب أواخر العام 2014، حيث خرج رجب طيب أردوغان، وكان آنذاك يشغل منصب رئيس الوزراء، في وقت مبكر من المعركة للتبشير بسقوط المدينة بيد «داعش».
ويدل ذلك على أن تضارب المصالح بين واشنطن وأنقرة قد انتقل من شمال حلب الذي شهد، الشهر الماضي، «استعصاء إعزاز»، وأعقبه تصعيد تركي ضد واشنطن لدرجة تخييرها مع من تريد أن تكون، إلى شمال الرقة، حيث كان وفد عسكري أميركي يزور بلدة عين عيسى للتباحث مع «قوات سوريا الديموقراطية» حول معركة الرقة.
وبالرغم من تضارب الأنباء الواردة من أرض المعركة، والذي يعود في جزء منه إلى شراسة معارك الكر والفر التي تجري بين الطرفين، ما يجعل خريطة السيطرة على بعض النقاط تتغير بين ساعة وأخرى، إلا أن المؤكد أن الهجوم ما زال مستمراً منذ يوم الخميس في 18 شباط الماضي، عندما فجر «داعش» أول سيارة مفخخة في بلدة سلوك، وحتى تاريخه. فلم يعد مهماً أين تقدم التنظيم، وأي طريق قطع، وكم مفخخة فجر؟ لأن الأهم من كل ذلك أنه برغم التغطية الجوية، التي تؤمنها طائرات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، ما زال التنظيم، المهزوم في أكثر من منطقة، قادراً على مواصلة هجومه والانتقال فيه من محور إلى آخر. وبقدر ما يشير ذلك إلى فشل طائرات التحالف في وقف الهجوم، بقدر ما يؤكد أن واشنطن، في ظل سياسة التوازن التي تتبعها بين تركيا وبين الأكراد، قد تتساهل مع بعض هجمات التنظيم لئلا تغضب أنقرة.
وتشير المعلومات إلى أن «داعش» بعد خروجه من أحياء تل ابيض مساء السبت، عمل على قطع طريق الامداد بين تل أبيض ورأس العين بريف الحسكة، كما هاجم بعض القرى شرق سلوك، واستهدف حاجز «وحدات الحماية» في قرية أبو تفاحة، كما دارت اشتباكات بين الطرفين غرب سد تشرين. وفي غضون ذلك حاولت بعض الفصائل استغلال انشغال التنظيم بالهجوم على تل أبيض، وهاجمت مواقعه في قريتي تل بطال والعزاتية، شرق إعزاز بريف حلب شمالي، إلا أن «داعش» صد الهجوم.
وتأمل تركيا، على ما يبدو، بإلحاق هزيمة بالقوات الكردية لتحجيمها، بعد أن انتفخت بفعل الانجازات التي حققتها. كما ستكون تركيا سعيدة، وهي ترى «داعش» يسيطر على تل ابيض، ليفصل من جديد بين «كانتونات الإدارة الذاتية»، وبالتالي إجهاض المشروع الذي يؤرقها. أما «داعش» فإنه يستهدف من وراء هذا الهجوم نفس الأهداف التي توخاها من هجومه على طريق خناصر بريف حلب، وأهم هذه الأهداف هو مشاغلة خصومه، وتشتيت جهودهم لإجبارهم على تأخير الهجوم المتوقع على معقله في الرقة، وهو ما فعل مثله في العراق، عبر هجومه على أبو غريب حيث كان هدفه تأخير معركة الموصل.
(السفير)