عامان في «البناء»… إلى الأمام في النهضة: ناصر قنديل
– اليوم تتمّ تجربتنا معاً في الحلة الجديدة لـ«البناء» عامَيْن، والتجربة ليست عملاً مهنياً تقليدياً، فـ»البناء» خط أمامي في جبهة حرب، ومصنع أفكار ورؤى في قلب الأمة التي تتعرّض لاختبارات الفك والتركيب لتؤكد وحدتها التاريخية وتحمي وحدتها الجغرافية ، في قلب لهيب مشتعل يعيد صهر كياناتها وفكّها وجمعها محاولاً تفتيت المفتت وتقسيم المقسّم، منذ سايكس بيكو قبل مئة عام، بعدما ثبت أنّ الخيار القومي لم يُهزَم، رغم تفتيت وحدة الأمة إلى الكيانات التي نعرفها، وبعدما ثبت بالتالي أنّ هذا التقسيم لم يكن كافياً لقتل الروح القومية والمشروع القومي. ولا يمكن لـ«البناء» أن تلعب لعبة الفن للفن، والصحافة للصحافة في قلب هذا البركان، كما لا يمكن لها وهي تخوض معركة إثبات الأمة وجودَها أن تتجاهل إثبات أهليتها في الوجود، وهي أهلية ثقافية معرفية يجب أن تثبت أنّ أهل النهضة يتقنون الثقافة والفنون وقيم الحياة، وأنهم أهل لصناعة صحيفة عصرية بالتالي.
– حاولنا خلال عامين أن نكون على الخط الأمامي دائماً، فنستشرف متاريس الاشتباك الفكرية والثقافية والاستراتيجية ونستبق الأعداء بتركيز الدفاعات ونصب الكمائن، وإقامة نقاط الإنذار المبكر، التي ربما فات الكثيرين في وقتها التعرّف إلى هويتها، وحاولنا أن نكون الصوت العالي للشهداء الذي يكتبون بالدم مسيرة أمتنا وشعوبنا ومصيرهما، مهما كانت الصياغات المختلفة لمفهوم الأمة بين مكوّنات محور مقاوم أخذت «البناء» عهد النطق بلسانه، وجمع أقلامه وقواه على صفحاتها، فكتب الكثير من الأعلام الكبار والأقلام المرموقة المتنوّعة على صفحاتها واستضافت الكثير في حواراتها، وتفوّقت واستبقت في مقالاتها وافتتاحياتها وعناوينها وقراءاتها، وترجماتها، ومعلوماتها، وقارعت ثقافة الفتنة والشتيمة، وفتحت باب الحوار مع الخصومة، وفتحت النار على الخيانة والعمالة والطائفية والمذهبية والعصبية العمياء، وقدّمت أبواباً جديدة في الصحافة المكتوبة، وصاغت ابتكارات وصقلت مهارات، وفعلت ذلك على مدى أكثر من ستمئة يوم بلا كلل، وبحماس وشغف، بإمكانات لا تكفي لإصدار مجلة شهرية، وستبقى تفعل ذلك وأكثر، لأنها تؤمن بصحة وأحقية وضرورة ما تفعل.
– تزامن إسهام «البناء» المثابر والاستثنائي بشهادة من يحبّونها ومَن لا يفعلون، لكنهم للحق يشهدون، مع حضور مبهر للحزب السوري القومي الاجتماعي في مواجهة مخاطر وتحدّيات الحرب التي تخاض ضدّ سورية وعليها، وهي الحرب الفاصلة في مسيرة الأمة وكياناتها، فكيف يربط القوميون وتربط «البناء» احتلال الموقع المتقدّم في خطوطها الأمامية باحتلال المقعد المميّز بين من يتصدّرون واجهتها، فكانت كلمة «البناء» تستسقي روح حياتها من دماء الشهداء القوميين وأخوتهم في المقاومة الإسلامية ورفاقهم الجنود والضباط في الجيش العربي السوري، وكما تواضع دم الشهداء تواضع حبر «البناء»، وبخجل المناضلين قدم كلّ منهما إسهامه بلا ضجيج وتبرّج في زمن الاستعراض والمبالغات، فما أحرج القوميون حليفاً بالحديث عن تضحياتهم وحضورهم، ولا أحرجت «البناء» حليفاً أو صديقاً بطلب تمييزها على شاشات ومنابر يؤثرون على قرارها، أو عتبت لعدم نقل مقالاتها وعناوينها بلفتة تقول إنها محظية عندهم، أو توجّهت بطلب دعم مادي قد يناله غيرها ولا تناله فلا تقيس علاقتها بالحليف والصديق بهذا المعيار، ولا ألحّت وأحرجت بطلب التخصيص بمعلومة أو وثيقة، أو تدعيم مكانتها بحوار لمرجع قيادي خارج نطاق الأصول والقواعد التي يطبّقها على علاقته بالإعلام، فصنعت مكانتها كما الشهداء بصمت وهدوء وظلّ خفيف على من يهمّها أمرهم، أملا بأن تشعر لاحقاً وبتوقيت يختاره الحلفاء والأصدقاء بتلقاء ذواتهم، يقولون فيه وعبره كم يهمّهم أمرها.
– العام الأول كان تحدّياً أن تكون «البناء» صحيفة مهنية ناجحة يغتني بها قراؤها، وأن تضيف في الآن نفسه، إلى ساحة الحرب بندقية تصير مدفعاً فسلاحاً نوعياً، في حرب يشكل الإعلام ساحتها الأولى، وليس الرديفة. وفي العام الثاني صار التحدّي أن تثبت «البناء» أهلية الثقة بها فتستكتب على صفحاتها عشرات الأقلام والأعلام، وأن تكون منبر حوار بين مكونات محور المقاومة، وبينه وبين خصومه من جهة ثانية، لكن أن تميّز الخصومة عن العداء فتكون آلة حرب بين الأمة وأعدائها من جهة أخرى، وأن تنافس نفسها وتتفوّق عليها بعناوينها ومقالتها الرئيسية وتفسيرها لأحداث معقدة، واستباقها لما هو أشدّ تعقيداً، فكانت الأولى وأحياناً بدت الوحيدة في رسم خيارات جاءت الأحداث تطابقها، ولم تتعمّد التباهي بذلك يوماً، كما لم تقع بانفعال الحماس برسم مسارات مفتعَلة للتفاؤل، ولا بضيق صدر بالخلاف فما وقعت في إسفاف اللغة ولا انحدرت إلى الشتيمة. أما العام الثالث فتريده «البناء» للقوميين، أبعد من أن يفتخروا بـ«البناء» صحيفتهم التي يقرأونها وتروي عطشهم لما ينتظرونه من الصحيفة كلّ صباح، بأن يكتبوا فيها وعبرها لمناطقهم وناسهم، وأن تتحقق الشراكة بينهم وبين «البناء» بما يتخطى حبّ وتقدير وعناية القوميين الحزبيين، لتصير «البناء» رفيقة يومية في مجتمع القوميين، بما يليق بشراكة الدم والحبر، بما هو أعمق وأبعد من مجرد أنها جريدتهم، لتكون سلاحهم الذي لا يلقونه ويتمسكون به في ساحات المواجهة كلّها، كما ينتظرها نسور الزوبعة كلّ صباح على متاريسهم المتقدّمة في جبهات القتال، تشاركهم قهوتهم وفطورهم وتمنحهم الرؤية لفهم وتفسير ما جرى ويجري، وتمنحهم روح «البناء» وإرادتها وعزمها ليكونوا القوة الفاعلة في صياغة ما سيجري.
– عهدنا في «البناء» أننا مستمرّون مهما ضاقت الإمكانات، وأننا سنبقى نحلم بتطوير ما بين أيدينا قبل أن يصل إليكم ليصير بين أيديكم، لأننا نؤمن دائماً، أنه بالعجينة ذاتها كان يمكن، ولا يزال ممكناً، صناعة خبز أفضل وأشهى وأجمل، هذا هو فهمنا للاحتفال الذي يقيمه «أبناء الحياة» كلّ أول من آذار في ميلاد الزعيم أنطون سعاده، يطلقون له العهد أنهم ماضون في النهضة التي أطلقها واستحق زعامتها، حتى تستحق أمة الصبر العظيم النصر العظيم الذي يليق بها، فنكون بعضاً من تلك القوة التي لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ.
(البناء)