مقالات مختارة

سوريا امام الاختبار و اوهام التقسيم الى الانحدار: د.منذر سليمان

     توافقات القوتين العالميتين على “تغليب” الحل السياسي في سوريا تجسد بسلسلة اتصالات هاتفية توجت بمكالمة بين الرئيسين بوتين واوباما مطالبين “كافة الاطراف الالتزام بالموعد المحدد لسريان مفعول وقف اطلاق النار .”

اصاب الاتفاق بعض القوى الاقليمية والدولية المتضررة بالخيبة، على اقل تعديل، وتبخرت مراهناتها على تفتيت اركان الدولة السورية.

     ابرز المتضررين الاقليميين كانت الحكومة التركية وتحالفاتها الخليجية وعلى رأسها السعودية. اما القوى الدولية المتضررة فتضم مروحة واسعة ليس اقلها معسكر الحرب في الداخل الاميركي وحلفائه الاوروبيين، وفي مقدمتهم بريطانيا التي “وعد” رئيس وزرائها سابقا بتأييد بلاده لتشكيل “جيش من المعتدلين قوامه 70,000 جندي ومقاتل” لمواجهة الجيش العربي السوري.

     فيما يخص تركيا، تحديدا، ينبغي النظر الى جملة تطورات تخص السياسة الاميركية تجاه حكومة حزب العدالة والتنمية، بدءا بتصريحات رسمية اميركية متتالية تستبعد انشاء منطقة او مناطق آمنة وحظر على الطيران السوري، مرورا برفض الادارة للطلب التركي ادراج حزب الاتحاد الديموقراطي (الكردي) على لائحة الارهاب، وانتهاءً بمشروع قرار صادقت عليه اللجنة القانونية في مجلس النواب الاميركي، 24 شباط الجاري، باعتبار تنظيم الاخوان المسلمين منظمة ارهابية – كرسالة واضحة للرئيس التركي راعي “الاخوان” في الاقليم.

     بيد ان معسكر الحرب الاميركي، ممثلا بصقور وزارة الدفاع، سعى لترضية الحكومة التركية باعلان البنتاغون صفقة بيع تركيا قنابل خارقة للتحصينات، BLU-109، قيمتها 683 مليون دولار، 26 شباط الجاري.

     ايضا، حافظ معسكر الحرب على وتيرة خياراته العسكرية “والتهديد” بقدرة البنتاغون “تسخير قواتها في سلاحي البحرية والجوية المتواجدة في المنطقة لانشاء منطقة حظر للطيران تمتد من مدينة حلب باتجاه الحدود التركية شمالا .. تستخدم كممر امداد آمن مع تركيا.” (صحيفة واشنطن بوست، 9 شباط الجاري)

     يشار ايضا الى ما تم تسريبه اعلاميا عن جهوزية خطط اجتياح الاراضي السورية برا انطلاقا من الاراضي التركية، اذ نشرت صحيفة “لا ريبوبليكا” الايطالية في مطلع الشهر الجاري خريطة تبين خطوط العدوان التركي (والسعودي) على الشمال السوري “دون تفسير مرافق.” الخريطة المنشورة توضح الابقاء على خطوط امداد مفتوحة بين تركيا وتنظيم الدولة الاسلامية، وهي المنطقة عينها التي تعتبرها تركيا مهددة من قبل الطيران الروسي والمعارك الميدانية التي تشنها قوات الحماية الكردية لطرد داعش.

     في احدث ردود فعل البنتاغون على الاتفاق نقلت شبكة (سي ان ان) للتلفزة، 26 شباط، عن مصادرها العسكرية ان ادارة الرئيس اوباما “تجري سلسلة مشاورات داخلية للنظر في الخيارات العسكرية المتاحة .. تتضمن زيادة في عديد وحدات القوات الخاصة، وانشاء منطقة حظر للطيران او منطقة آمنة بمساعدة دول اخرى.” بعضهم اطلق عليها الخطة البديلة، الخطة-ب، كما جاء على لسان وزير الخارجية في احدث مثول له امام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، 23 شباط.

     واستدركت الشبكة التلفزيونية في تعليقها على الخطة-ب قائلة انها “مجرد فكرة وليست خطة عمل محددة ولم يتم التوصل لقرار بشأنها.” اما “مصادرها العسكرية” فقد اكدت ان انشاء منطقة حظر للطيران “ينطوي على كلفة عالية وبحاجة الى تخصيص موارد كبيرة، تتراوح بين 15.000 – 30,000 عسكري .. وزادها تعقيدا دخول سلاح الطيران الروسي وراداراته وصواريخه على الخط.”

     جدير بالذكر ان الادارة الاميركية بكافة اركانها السياسية والعسكرية لا تبدي حماسة لنشر قوات عسكرية اميركية خارج اراضيها في اي وقت منظور، تعززها التصريحات المتتالية لمعظم قياداتها السياسية.

     رئيس الديبلوماسية الاميركية، جون كيري، يتعرض ولا يزال لحملة انتقادات شديدة من خصوم “الحل السياسي” لتناغم خطابه مع مفردات نظيره الروسي، سيرغي لافروف. شككت نشرة “ديلي بيست” الالكترونية بجدوى “استماتة (كيري) التوصل لحل من شأنه الحاق مزيد من الضرر بالسوريين،” (12 شباط) مستدركة بالقول ان “فكرة” الاتفاق تعود لشهر تشرين1/اكتوبر الماضي خلال مفاوضات فيينا حول الازمة السورية.

     شدد كيري امام لجان الكونغرس المتعددة، لحثها الموافقة على مشروع ميزانية وزارته البالغة 50 مليار دولار للسنة المالية المقبلة، على تأييد ودعم الحكومة الروسية للاتفاق والذي بدونه لن يكتب له النجاح او ايصال المعونات الانسانية العاجلة للبلدات المحاصرة والمتضررة.

       استدرك كيري مرارا بالاشارة لهشاشة التوقعات بنجاح الاتفاق منذ اللحظات الاولى، وانه يتوقع عددا من العقبات تعترض طريق التطبيق “ولا ينبغي تفسير نجاحه تلقائيا بأنه سيترك بصمات ايجابية على المسار التفاوضي برمته؛” بل انه افضل خيار متاح كبديل لخيار الحرب اللامتناهية.

     بعض قوى المعارضة السورية المسلحة انتظرت حتى اللحظة الاخيرة لتسليم موافقتها خطيا للجنة الروسية-الاميركية المشتركة المعنية بالاشراف على تطبيق نفاذ الاتفاق. وزارة الخارجية الاميركية اوضحت انها تسلمت “موافقة خطية من 97 فصيل مسلح، لن يعلن عن هويتها لدواعي أمنية.”

     كما اعلنت “مجموعة الرياض” لقوى المعارضة، ممثلة بهيئة المفاوضات العليا، عن موافقتها في وقت متأخر قبل انتهاء الموعد المحدد، مما يدل على كثافة الضغوط الاميركية على “حلفائها ومموليهم.”

الخطة البديلة – باء

     في معرض استعراض كيري امام لجان الكونغرس اوضح ان “الخطة-ب” تنطوي على امكانية تقسيم سوريا “في حال فشل اتفاق وقف الاعمال العسكرية، او تعثر مسار الحل السياسي الانتقالي” في الاشهر القليلة المقبلة.

     بيد انه احجم عن الادلاء بمزيد من الايضاح والتفصيل، مذكرا الكونغرس ومن يعنيهم الأمر بأن ادارة الرئيس اوباما “تتوفر لديها خطوات بديلة” بطابع عسكري، عندما تقتضي الضرورة. البعض اعتبر التلويح بـ “خطة تقسيم سوريا” طرحا استرضائيا للمشككين في الداخل الاميركي ونظرا لضبابية بعض النصوص “المقصودة.”

     سرعة رد الجانب الروسي ممثلا بتصريحات وزير الخارجية ونائبه بالنفي اصاب تصريحات كيري في مقتل، اذ شددت الخارجية الروسية على ان الطرفين لم يتناولا بحث اي خيار بديل عن اتفاق وقف اطلاق النار. واستطرادا، ان مضي اي طرف بخطوات احادية الجانب ينبغي عليه ان يتوقع عواقب خياراته.

     في البعد القانوني الصرف، استخدم بيان الاتفاق مصطلح “وقف الاعمال العدائية،” عوضا عن “وقف اطلاق النار.” التعبير الثاني ينطوي عليه تحديد آفاق وضع ثابت ونهائي يتضمن خطوات محددة ينص عليها القانون الدولي. علاوة على ذلك، فان الخلافات الكبيرة القائمة بين راعيي الاتفاق، روسيا واميركا، لم يتم حصرها والاتفاق بشأنها؛ ابرزها تحديد وتعريف ماهية الجماعات “الارهابية” التي تحصرها بداعش والنصرة، اميركيا، وبقية الفصائل التي لا توافق على الاتفاق، روسيا.

     سوريا بدورها اعلنت التزامها بنصوص الاتفاق والاحتفاظ بحقها في الرد على اي اعتداء يتعرض لها سكانها واراضيها من اي طرف كان – في اشارة ضمنية لتركيا والسعودية ومجموعاتهما الارهابية ومشتقات تنظيم القاعدة؛ وطالبت ايضا الدول الراعية بوقف دعمها للفصائل المسلحة “خشية تعريض الاتفاق للانهيار.”

     وسائل الاعلام الغربية، وعلى رأسها وكالة “رويترز” للانباء زعمت ان “تحديد مواقع جبهة النصرة ضربا من المستحيل،” امعانا في سريان ضبابية الاتفاق.

     تركيا، من جانبها، اقرنت موافقتها الحذرة على الاتفاق باستخدام حقها في تعقب “وحدات الحماية الكردية،” معتبرة نفسها “غير ملزمة بالتقيد بنصوصه ان تعرض أمنها للخطر” لا سيما في منطقة اعزاز الحدودية.

     تشكل جبهة مدينة حلب مركز ثقل الاهتمام الاميركي نظرا لأهميتها البالغة في ظل تقدم الجيش السوري ومحاصرته الحثيثة للمسلحين، الأمر الذي شكل حافزا وركنا اساسيا في انتقال التحرك السياسي الاميركي من خانة المراهنة والتردد الى الدخول في اتفاق يمهد لحماية ما تبقى لها من وكلاء.

     اشد ما تخشاه الاوساط السياسية في واشنطن “استعادة قوات الحكومة السورية لمدينة حلب بشكل تام، مما سيقصم ظهر فصائل التمرد. حينئذ، من شأن اتفاق وقف اطلاق النار ان يؤدي لتجميد مكاسب الحكومة في محلها، واتاحة الفرصة (للرئيسين) الاسد وبوتين املاء شروط التفاوض.”

     اوضح احد المسؤولين الاميركيين السابقين، رافضا الكشف عن هويته، مدى المخاوف الاميركية في حال “سقوط حلب وما سيسفر عنه من كسر شوكة المتمردين، فان الحكومة السورية وبدعم روسي قد يفضلان تجاهل الاتفاق برمته والمضي لاستعادة كافة اراضي البلاد. (الرئيس) الاسد يفكر حقا ضمن هذا الاطار كما ابلغ وكالة الانباء الفرنسية بعد ساعات معدودة من اعلان الاتفاق قائلا ان قواته ستستعيد السيطرة على كافة انحاء البلاد.”

ماذا بعد

     لا يخفي المسؤولون الاميركيون، السابقون والحاليون، بالغ قلقهم من الانجازات المضطردة للجيش السوري وحلفائه، مضى احدهم موضحا لوسائل الاعلام حديثا، مع تحفظه عن الكشف عن هويته، انه “بفضل المساعدة الروسية، فان الجيش العربي السوري يقف على اعتاب تحقيق نصر كبير في حلب – نصر قد يسهم في بقاء الرئيس الاسد في السلطة.” واضاف ان “روسيا والاسد لن يسمحا للاتفاق اعتراض انجاز نصر كامل. في افضل الاحوال، قد يقدما على انهاء الاعمال العدائية من اجل تعزيز انجازاتهم الاخيرة ليس الا.”

     الاطراف الاقليمية المتضررة، تركيا والسعودية بشكل اساسي، لن تستسلما بسهولة للالتزام بالاتفاق، خاصة في ظل تصريحات تصعيدية متتالية للرئيس التركي اردوغان يؤكد فيها عزمه “القضاء على التهديد الكردي على وحدة تركيا،” واكبها ايضا تصريح نائب وزير خارجيته، نعمان كورتولموس، في 23 شباط الجاري، مؤكدا ان بلاده “ستستمر في شن الهجمات في الايام المقبلة – ان اقتضت الضرورة.” بيد ان خيارات الثنائي (التركي والسعودي) مجتمعة تقيده بعدم القفز على “رغبات” الراعي الاميركي، في المرحلة الراهنة.

     التدقيق الاولي في بنود الاتفاق يشير بما لا يدع مجالا للشك “موافقة” واشنطن على استمرار ملاحقة داعش والنصرة “وآخرين،” لاعتبارات جيوسياسية وضرورات الاستراتيجية الاميركية الشاملة التي تبذل قصارى جهدها للحد من بروز الصين وروسيا شرقا، وربما ما حفزها للموافقة على وضع ترتيبات في الشأن السوري بعد نفاذ مراهنتها على الوكلاء المحليين. اما الوكلاء الاقليميين، تركيا والسعودية وآخرين، فليس امامهم من خيار سوى التأقلم مع المتغيرات الدولية. الثنائي الاقليمي المذكور يعزي نفسه بأنه ينتظر قدوم الرئيس الاميركي الجديد ليستعيد نشاطه واحياء خيار التدخل العسكري.

الخيار البديل،” سالف الذكر يتأرجح اميركيا في مرحلة سياسية متأخرة، امام رفض روسي مقرون باصرار سوري على استعادة السيطرة على كافة مناطق البلاد. لو افترضنا جدلا حقيقة خيار التقسيم فأن اول الرابحين سيكون الطرف الكردي بكافة تشعباته وامتداداته. وربما هذا ما يفسر “حماس” التنظيمات الكردية للتعاون مع روسيا لاعتقادها بأنها أهل للمراهنة، وكافأتها موسكو بفتح مكتب تمثيل لها في موسكو يتمتع بمرتبة ديبلوماسية.

     من يتابع التصريحات الروسية منذ بدء الحرب الكونية على سوريا يلحظ بوضوح اصرارها على التمسك “بوحدة وسيادة الاراضي السورية،” وهو ما ضمنته للقرارات الدولية المتعاقبة ذات الصلة، وتردد صداها على لسان وزير الخارجية الاميركي، جون كيري، الذي دأب على استغلال اي فرصة متاحة للتشديد على “ضرورة المحافظة على وحدة وسيادة ومؤسسات الدولة السورية.”

     على ضوء ما تقدم، باستطاعتنا القول ان “مشروع التقسيم” ذهب ادراج الرياح بعد التحولات السياسية والمتغيرات الميدانية، ومع تفاقم مأزق الدول الاقليمية الداعية لذلك، خاصة تركيا التي كانت تطمح لتواصل منطقة مدينة حلب بالموصل في العراق تحت سيطرتها.

    واستطرادا على ما سبق فان ما ينطبق على “وحدة” الشمال السوري ينطبق ايضا على هضبة الجولان السورية المحتلة، وتبخر مراهنة “اسرائيل” على انشاء “منطقة عازلة” هناك على غرار تجربة سعد حداد الفاشلة آنذاك في الجنوب اللبناني المحتل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى