التقسيم سقط في سورية
ناصر قنديل
– كان الرئيس السوري بشار الأسد أول من حذر مطلع القرن، وفقاً لرؤية استراتيجية واضحة من مخطط لتقسيم المنطقة وإثارة الحروب والفتن فيها على أساس الأعراق والقوميات والأديان والمذاهب، عندما تحدث في قمة شرم الشيخ العربية عام 2002 عشية الاجتياح الأميركي للعراق، واصفاً تلك الحرب التي محضها العرب تأييدهم وأجواء بلادهم وأراضيها، أنها «ليست حرباً على دولة أو نظام حكم أو حاكم بعينه، إنها حرب لتفتيت أمتنا إلى كيانات تتقاتل على أساس طائفي ومذهبي وعرقي لضمان أمن «إسرائيل» وتركها تعيش بلا قلق من أي مواجهة، ولمنحها المشروعية التاريخية والاجتماعية باستيلاد كيانات تشبهها في المنطقة».
– وقع احتلال العراق وقتل الرئيس رفيق الحريري وأعدم الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ضمن خطة واحدة لتحقيق المشروع الهادف للتفتيت والفتن، على رغم التباس كلّ هذه الأحداث الجسام وتسلسلها وترابطها على كثيرين من أصحاب العقول الكبيرة، فنفخت النار في كلّ عروق الطائفية والعرقية والمذهبية، والمستهدف روح المقاومة التي شكّلت سورية قلعتها وشكّل لبنان رأس حربتها، وغفلت النخب العربية وقبلها الحكام العرب عن مهمتهم، فالكلّ منشغل بالمحاباة، الحاكم يحابي سيّد البيت البيض طلباً لحماية، والكاتب والمفكر يحابيان الحاكم طلباً لمنصب أو مال، والكلّ يبحث عن تموضع أو اصطفاف لا يزعج سيّده، فدعم المقاومة وسورية مباح ضمن نعم و«لكن»، ولكن «لكن» يجب أن تكون جزءاً من شيطنة تصبّ الماء في طاحونة الفتن والطوائف والمذاهب ولو باسم علمانية مزيّفة، بالتأفف من وضع عربي مريض بالطائفية، و«لكن» هنا هي أن يجري ضمّ سورية والمقاومة إلى مصادر التأفف.
– تقع حرب تموز عام 2006 على لبنان، وتقف المقاومة وتستبسل حدّ الشهادة، وتقف سورية وقفة نادرة الشجاعة، ويتحقق النصر، وتوضع خطط تنفيذية لاغتيال هذا النصر، ويكون زمن «الإخوان المسلمين» بمُسمّى الربيع العربي هو العنوان، وتتداعى بلاد العرب تحت وطأة العاصفة، ويتقدم السلطان العثماني والوالي القطري، ويتقدم طلاب المال لنيل نصيبهم، وكما جرت محاولات النيل من سورية في قضية الحريري من باب «الحقيقة»، تأتي «لكن» من باب «الديمقراطية»، والتساؤل «البريء» عن أمة وقضية تختصران بشخص، وكلمة السرّ كانت يوم الحريري فلنقبل التحقيق ونسترضي السعودية، وتصير في زمن الربيع والخماسين، «فليتنحى» ونسقط «المؤامرة».
– طبعاً في لحظات تاريخية تختصر الأمم في أشخاص، وإلا لماذا خرجت الملايين يوم استقالة جمال عبد الناصر تشعر أنّ استقالته هي النصف الثاني من هزيمة تمّ نصفها الأول في ساحات الحرب عام 1967؟ ولماذا تشن حرب عالمية تشترك فيها مئة وثلاثون دولة رسمياً، عنوانها سورية، وشعارها، فليبق النظام ويرحل الأسد؟ ولماذا يقول تقرير «الشاباك» عام 2011 أنّ الوضع في سورية وصل مع استعدادات الرئيس بشار الأسد إلى شنّ حرب قريبة أين منها حرب عام 1973، إلى درجة أنّ أيّ بديل للرئيس الأسد مهما كان سيئاً فهو أقلّ سوءاً من بقائه، ويصير الهدف رحيل الأسد مهما كان الثمن.
– تقدمت الحرب على سورية والمقاومة، والهدف واضح، تغيير موقع سورية في الجغرافيا السياسية للمنطقة، والهدف الأعمق تفتيت الكيان السوري من ضمن خريطة جديدة للمنطقة إذا استعصى الاستيلاء على سورية موحدة كما هي، لضمان استدارتها من ضفة المقاومة إلى الضفة المقابلة في خنادق المواجهة الكبرى في المنطقة، وصمدت الدولة الوطنية في سورية، وأصل صمودها كان العجز عن تفتيت الدولة وحزبها، بكلّ ما يعتريهما من أمراض الترهّل والتكلس والفساد والبيروقراطية، فبقي الفساد عابراً للطوائف والبيروقراطية عابرة للطوائف، والمهم هنا أنّ الوطنية بقيت عابرة للطوائف، وتشكلت غالبية عابرة للطوائف، في زمن سقوط الخوف والتكسّب كعاملي ترجيح وقوف لشرائح من المجتمع مع الحكم القائم بغض النظر عن هويته ومضمونه السياسي والاجتماعي، وتحوّل الإغراء والرعب إلى سلاح ظاهر بقوة مال النفط وإرهاب التكفير بيد أعداء الدولة والحكم، الغالبية السورية الوطنية الراجحة رجحت كفة الحرب لمصلحة جيش صار أسطورة القرن الواحد والعشرين، وتمسّكت برمز لحربها تجتمع حوله هذه الغالبية السورية الجديدة، هو الرئيس بشار الأسد، واستنهض صمودها ووجودها الحلفاء، فلا أحد يراهن على حصان خاسر في عين العاصفة، حيث لا قيمة للعواطف في لحظات تقرير مصائر الدول، وإلا لتمسّكت أميركا بشاهها ومباركها وزينها.
– العلة في إسقاط حرب الإسقاط هي ذاتها أسقطت حرب التقسيم، وهي وجود هذه الغالبية الراجحة العابرة للطوائف، واحتلال جزء من سورية جنوباً هو الجولان أو شمالاً هو الإسكندرون أو شرقاً هو الرقة ودير الزور لم يعن ولن يعني نجاح تقسيم سورية، بوجود هذه الغالبية العابرة للطوائف الممسكة بمدن سورية الكبرى بقوة إسناد أهلها العابرين للطوائف لمشروع دولتهم الوطنية، وحيث شرط نجاح التقسيم بات وقفاً على غزو أجنبي شامل يشبه الاحتلالين الفرنسي والبريطاني مطلع القرن العشرين، لتعقبه تقسيمات سايكس ـ بيكو التي ما سلكت طريق التطبيق لولا الاحتلال يومها، وكلفة الغزو هذه المرة قد تصل إلى إشعال حرب شاملة في المنطقة يتهدّد فيها أولاً أمن «إسرائيل»، صار البديل الوحيد لبلوغ جرح التقسيم إلى سورية، تحريك السكين في الجرح العراقي، طائفياً وعرقياً، فتتقسّم السعودية وتركيا أملاً ببلوغ التقسيم سورية، وتلك مغامرة كبرى غير مضمونة العواقب وربما تكون خسائرها على صاحب المشروع أكبر من أرباحها. فتقسيم السعودية انطلاقاً من إقليم الجنوب العراقي سيضع النفط والخليج بيد دويلات صغيرة لكنها بحماية إيران، وتقسيم تركيا من بوابة إقليم الشمال العراقي، سيضع ساحل تركيا مع ساحل سورية ولبنان، تحت راية مشابهة قريبة لإيران، فكان الخيار هو النزول عن الشجرة، وبدلاً من إهداء إيران إمبراطورية المتوسط والخليج دفعة واحدة، الانخراط مع إيران في تفاوض حول شروط الإمبراطورية.
– سورية حفظت المنطقة، وحفظت المقاومة، وحفظت واستنهضت مكانة روسيا وإيران، ومثلها كانت المقاومة وفية وإيران سخية وروسيا أبية، اللهم اشهد إني قد بلغت، وذكر إنْ تنفع الذكرى.
(البناء)