الحريري بين تجريم المقاطعة وتحريم الانتخابات النيابية
ناصر قنديل
– يظنّ الرئيس سعد الحريري وفقاً لما خطط له مستشاروه بأنه نجح في صناعة شعار جديد يحتمل تحت سقف كلّ خلاف بصفته اجتهاداً تفصيلياً يجمع مكونات فريق الرابع عشر من آذار، ويحتوي خلافاتها، والشعار هو بدلاً من حرية سيادة استقلال، ولاحقاً نعم للمحكمة الدولية ولا لسلاح حزب الله، صار لا للمقاطعة نعم للانتخاب، ولم يعد مهمّاً أن يقف كلّ طرف في هذا الفريق وراء مرشح مختلف عن مرشح الآخر، طالما الاجتماع يتمّ تحت شعار لا للمقاطعة نعم للانتخاب.
– يبدو الشعار جذّاباً وشعبوياً، ومن صناعة فريق إعلاني لكن لا علاقة له بالسياسة ولا بالدستور، فالبلد يعيش الفراغ الرئاسي منذ عشرين شهراً، وربما سيظهر غداً من يقترح على الحريري تمويل، وضروري للفكرة الاقتران بتمويل، وضع عدادات في الساحات العامة، للأيام التي مضت على الشغور الرئاسي تزيد كلّ يوم رقماً، وتحتها كفى مقاطعة، ويصير شعار كفى بكفّ أحمر من خمسة أصابع، للتميّز عن شعار الأربع أصابع الذي يعتمده «الإخوان المسلمون» في مصر، تُرفع بوجه المقاطعين.
– مَن يتولون مناصب دستورية بمستوى رئاسة الحكومة، يفترض أن يضعوا ضوابط لحركتهم الإعلامية والسياسية، تبقيها على انسجام مع المعايير الرفيعة للدستور والممارسة الدستورية والسياسية التي ترسمها السوابق، وإذا كانت السابقة التي رسمها الحريري شخصياً في كيفية التعامل مع منصب رئاسة الحكومة الذي يسهل تداوله قياساً بمنصب رئاسة الجمهورية، تقول بأنّ الأغلبية السياسية والشعبية والنيابية في الطائفة التي ينتمي إليها رئيس الحكومة، وبصورة أشدّ رئيس الجمهورية، تملك حق تعطيل الرئيس الذي يصل بحساب للأصوات لا يأخذ هذه الأغلبية بالاعتبار ولو استوفى كلّ الشروط الدستورية والقانونية، وشكل الحساب الميثاقي بشراكة مكونات وازنة لكن أقلوية في طائفة الرئيس، وأنّ هذه الغالبية لها الحق بأن تقطع الطرق وتحرق الإطارات أمام منزل الرئيس الآتي دستورياً خلافاً لمشيئتها وتهتف بموته، وتبقى تصول وتجول حتى إسقاطه، ويمكن للرئيس نجيب ميقاتي أن يضيف الكثير من الوقائع هنا حول ما بات لهذه الغالبية من حقوق وفقاً للسابقة الحريرية، والأهمّ أنّ السابقة تنفي الشرعية عن هذه الرئاسة، وأهمّ من الأهمّ، أنّ الحريري تحديداً لا يملك شرعية الدعوة إلى العمل بعكسها، خصوصاً عندما يتصل الأمر برئيس ينتمي إلى غير طائفته، ويتهم هو وفريقه بوضع اليد على نصيب أساسي من وزنها التمثيلي في المجلس النيابي والسعي إلى وضع اليد على الرئاسة التي تمثل أعلى منصب يحفظ لها حضورها في المعادلة السياسية، وتشكل المقاطعة للجلسات الانتخابية سلاحها الاستباقي لتفادي مواجهة قاتلة للبلد إذا تركت الأمور تسير كما يدعوها الحريري اليوم، لتردّ كما فعل بالأمس القريب.
– دستورياً، يجب أن يلفت القانونيون والمحامون والدستوريون المحيطون بالحريري نظره، إلى أنّ وجود نصاب للجلسات النيابية والحكومية وتحرّك هذا النصاب، ليس لتحديد معادلة حضور يفترض برئيس الجلسة إلغاءها إذا لم يتوفر هذا الحضور، لأنّ البعض قد استغرق في النوم بعد سهرة طويلة، أو لأنّ البعض الآخر مسافر يتابع أعماله، ومعادلة النصاب لتحديد عدد الحضور اللازم لافتتاح الجلسة وبدء أعمالها ليس لحماية حق هؤلاء بالشراكة، فالدستور لم يُشرَّع لكسالى، ولا لمن يتعاملون مع الشأن العام كهواية أو كإضافة تكميلية لشؤون حياتهم الأشدّ أهمية، النصاب هو ضمان لحق الأقلية بتعطيل الجلسة ومنع التصويت، والتحكّم بمنع نجاح الأغلبية باعتماد التصويت لحسم أمور من العيار الميثاقي الذي لا يجوز إقراره بالأغلبيات البسيطة، فالفارق بين نصاب الثلثين والنصف زائداً واحداً ليس ترفاً، ومثله التصويت اللازم على مشاريع قوانين في الحكومة تتصل مثلاً بإقرار الموازنة العامة وقانون الانتخاب وسواها، ويكون النصاب متوافراً لكن لا يمكن البتّ، رغم وجود أغلبية مؤيدة لمشروع، لأنّ أقلية تمثل الثلث زائداً واحداً، تعطّل وتتحكّم برأي وتوجّه وإجماع الثلثين ناقصاً واحداً، وهذه مهمة الدستور الذي يعتمد على حكم الأغلبية عموماً، في تكوين حق النقض للأقلية في القضايا الميثاقية.
– نصاب الثلثين وتصويت الثلثين، إطار دستوري لتقوم الأقلية غير الراضية على ما توافرت لإقراره أغلبية النصف زائداً واحداً، بمنع حدوثه، باللجوء إلى الغياب ومقاطعة الجلسة، حيث النصاب نصاب حضور، أو إلى التصويت ضدّ حيث النصاب نصاب تصويت، والتعطيل هنا هو مهمة دستورية، شرّعتها القواعد الديمقراطية لتستعمل، لا لتكون للزينة، وهي موجودة للقضايا التي يتوقع المشترع أنّ تسهيل الأخذ برأي الأغلبية فيها سيأخذ البلد إلى الفتنة، وليجبر الأغلبية على التحقق من عجزها ما لم تقم بالتفاوض مع الأقلية حول الخيارات والفرضيات، وتضطر إلى صياغة تسوية معها تتيح تحقق النصاب اللازم حضوراً أو تصويتاً، لا أن تخوض حرباً إعلامية جاهلة عنوانها تجريم المقاطعة.
– في حال انسداد طريق التسويات، وحيوية القضايا الخلافية، تذهب الدساتير إلى مخارج، ففي تصويت الحكومة على مشروع قانون لا ينال الثلثين، يلجأ مناصرو الحكومة من النواب إلى التقدّم باقتراح قانون لا يحتاج إقراره في المجلس النيابي إلى النصاب ذاته، في ما عدا الموازنة، فهي محصورة بورودها بمشروع قانون من الحكومة، ولذلك ربط بها وحدها، مصير الحكومة وبإقرارها أو تعثر إقرارها مصير المجلس النيابي. وفي الحال الرئاسية إنْ كان ثمة ثغرة في الدستور فهي أنه لم ينص على اعتبار المجلس النيابي منحلاً إذا انتهت مدة ولاية رئيس الجمهورية ولم ينتخب رئيس جديد، لتتولى الحكومة الدعوة إلى انتخابات نيابية خلال مهلة ثلاثة أشهر، وتكون مهمة المجلس المنتخب الشروع في انتخاب رئيس جديد قبل أن يضع يده على أيّ مهمة أخرى، وإذا كان هذا صحيحاً، وهو صحيح، فإنّ الصحيح أكثر، أنّ الانتخابات النيابية كانت قد استحقت قبل شغور الرئاسة الأولى بعشرة أشهر والذي عطلها هو الحريري قاطعاً الطريق على المسار الديمقراطي الوحيد لاستنقاذ الرئاسة من الفراغ، حماية لخياره البديل للانتخاب وهو التمديد للرئيس السابق أنّ مجلساً غير ممدَّد له سيتجرأ على القيام به، والغريب كيف كفل التمديد الأول والتمديد الثاني ولاية ثانية كاملة للمجلس النيابي، بدلاً من أن يكون الذهاب إلى الانتخابات النيابية هو الوصفة التي تفرض نفسها مع الانسداد الدستوري، حيث لا طريق ثالثاً سوى خيار من اثنين، تسوية مع الأقلية المقاطعة، أو تقصير الولاية الممدّدة للمجلس النيابي والذهاب إلى انتخابات نيابية ووفقاً للقانون القديم. وهذا في يد الأغلبية النيابية ولا يحتاج تفاهماً ولا تسوية مع الأقلية المقاطعة، ويمكن الدمج الآن بين استحقاقي الانتخابات البلدية والنيابية أمنياً وإدارياً ومالياً. فلم لا يا دولة الرئيس، لم لا يتقدّم نواب كتلتك باقتراح قانون لاختصار عام من الولاية الممدّدة للمجلس ليتزامن الانتخاب لبلديات جديدة ومجلس نيابي جديد ومعهما سيكون لنا رئيس جديد، ولن يجرؤ أحد على المقاطعة عندها.
(البناء)