نحن والعدو…من يقرأ من؟ د. فايز رشيد
إذا كان سقراط قد لخص العلاقة بين “الانا” و “الآخر” بكلمتبن اثنتين “إعرف نفسك”, فإن القائد الفنيقي القرطاجي الكبير حنيبعل قد لخص معادلة الانتصار في الحرب بقوانين ثلاثة: إعرف عدوك, فاجئه,لا تقع أسيرا بين يديه. لقد انتحر حنيبعل عندما حاصره الاعداء.إسرائيل ما زالت تطبق ذات القوانين الحربية الحنيبعلية: إنها تقرأ العرب جيدا , تفاجأهم في حروبها. الكنيست بصدد سن مشروع قانون يتيح للجيش الإسرائيلي قتل جنوده وضباطه إذا تم أسرهم من قبل الفلسطينيين والعرب. إسرائيل تحتل المرتبة (17) من جهة البحوث المنشورة في العلوم البحتة والدراسات التطبيقيّة، فضلاً عن وجود (6) من جامعاتها في تصنيف أفضل (100) جامعة في العالم. هذه الحقائق والأرقام تدعونا للبحث والتساؤل عن عوامل نجاح هذه المنظومة، ولعل أهمها تلك الميزانيات الضخمة التي تُرصد للبحث ، فميزانية التّعليم في إسرائيل مثلا تعادلُ ميزانية (30) دولة متقدمة، ناهيك عن أنّ إسرائيل ترصد (8.2٪) من إنتاجها القومي للبحث ، في حين أنّ معدل الدّول المتقدمة هو (6.2٪) . في إسرائيل عشرات بل مئات المعاهد والمراكز البحثية ,وفي الشؤون الاستراتيجية والسياسية, يوجد منها الكثير أهمها : مركز جافي للدراسات الاستراتيجية, المركز المتعدد المجالات في هرتسيليا, الذي ينظم مؤتمرات سنوية منذ عام 2000. معهد دراسات الأمن القوميّ ,التابع لجامعة حيفا. معهد أبحاث الأمن القومي.مركز بيغن – السادات للأبحاث الاستراتيجية.معهد الاستراتيجية الصهيونية. معهد تخطيط سباسات الشعب اليهودي وغيره وغيره.
أنهت اعمالها, دورة جديدة للمؤتمر السنوي لـ”معهد أبحاث الأمن القومي” التابع لجامعة تل أبيب، حول “التقييم الإستراتيجي لإسرائيل وما تواجهه من تحديات أمنية”, وقد انعقد بين 17 – 19 يناير الماضي . بالإضافة إلى مداخلات الباحثين في المعهد، التي تناولت مجموعة واسعة من القضايا الداخلية والإقليمية المتعلقة بالأمن القومي الإسرائيلي وسياسة إسرائيل الخارجية، قدم مسؤولون إسرائيليون رسميون، أبرزهم رئيس هيئة أركان الجيش ووزير الدفاع ووزير التربية والتعليم ورئيس المعارضة، مداخلات تناولت قضايا راهنة.وجاء في مقدمة كتاب المؤتمر، وضمن باب “التقلبات في الشرق الأوسط”, الذي تناول قضايا المنطقة الشرق والصراعات فيها :: (بالنسبة لإسرائيل، فليس لديها انتماء “طبيعي” إلى أي من المعسكرات الإقليمية. إن الاستنتاج المركزي وغير المفاجئ الذي تعالى من التحليلات ,هو أنه سيصعب على إسرائيل توسيع وتعميق الحوار والتعاون بينها وبين جهات إقليمية، سواء كانت دولا أو منظمات، تتقاسم معها مصالح مشتركة، من دون حدوث تقدم ملموس في العملية السياسية مع الفلسطينيين).وتناول باب “إسرائيل في الشرق الأوسط” التحديات والفرص أمام إسرائيل، في الحلبة الفلسطينية والحلبة الشمالية، أي هضبة الجولان ولبنان، وفي الحلبة الجيو سياسية على صعيد المنطقة عامة.ورأى الباحثون في هذا الباب أن التحليل يقود إلى تقييم مفاده أنه (بسبب تضاؤل الخطر، في العام الحالي، حيال اندلاع نشوب حرب تكون إسرائيل ضالعة فيها، فإن عليها أن تركز نشاطها الأمني في المعركة بين حربين، وتعزيز الردع، بواسطة تحولات إيجابية لدى جهات في محيطها أيضا، وبضمن ذلك في مجالي الاقتصاد والطاقة).وتناول باب “إسرائيل – الحلبة الداخلية” موضوع الأمن القومي في السياق الاجتماعي – السياسي الداخلي، وتطرق إلى مواضيع مثل القدرة على الحكم، الأداء السياسي المنفلت والآخذ بالتطرف في الخطاب العام، التقاطب والقبلية الآخذة بالتعمق في المجتمع الإسرائيلي، وكذلك توجهات اقتصادية تؤثر على مواجهة تحديات أمنية.
اعتبر رئيس المعهد، اللواء احتياط عاموس يدلين، في مقاله التلخيصي لكتاب المؤتمر، أن “الاستنتاج المركزي للتحليلات هو أنه توجد لدى إسرائيل في الفترة الراهنة, قدرة على بلورة فرص من أجل تعزيزمكانتها الأمنية والسياسية قدما، وأضاف : أن الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني ليس في قلب التوترات والنزاعات في الشرق الأوسط، ما يوفر لإسرائيل فرصا لبلورة إستراتيجية نشطة، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، بهدف وضع رد على التهديدات، إلى جانب إمكانية دفع تسويات سلمية بينها وبين دول أخرى في الشرق الأوسط”.من جانبه ,تطرق رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، غادي أيزنكوت، وشدد على صعوبة توقع هذه العمليات, وعدم مقدرة أجهزة الأمن على جمع معلومات استخبارية تحذر من وقوعها.وأضاف أنه “يوجد احتمال كبير للاشتعال فيما يتعلق بغزة”، في إشارة إلى شن عدوان إسرائيلي جديدعليها. مشيرا إلى أن “عدو الجيش الإسرائيلي المركزي اليوم هو حزب الله ,وأشار إلى لجم نجاحات “داعش” في الشهور الأخيرة ” وقدر أيزنكوت بأن الحرب في سورية ستستمر لسنين مقبلة, برغم التدخل الروسي والأميركي في الحرب, وتوقع بأن يتم كبح نشاط تنظيم “ولاية سيناء”، الذي بايع “داعش” بسبب عمليات الجيش المصري.وخلافا لأقوال أيزنكوت، الذي قال إن حزب الله هو “العدو المركزي للجيش الإسرائيلي”، قال وزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه يعلون، إن “عدو إسرائيل المركزي هو إيران”.
وفيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، اعتبر يعلون أن “من يعتقد أن الحل معروف، وأنه بالإمكان أن نجعل الجانبين يجلسان ونفرض عليهما حلا سياسيا، فإن هذا لن ينجح. ينبغي البحث عن طريق أخرى”.
من جانبه عرض إسحاق هيرتزوغ، رئيس تحالف “المعسكر الصهيوني” (المعارضة), تصورا جديدا لحل الصراع، يتبنى فيه مبدأ الانفصال من جانب واحد، وقد قاله هيرتسوغ، للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ووزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس في قصر الإليزيه في باريس، يوم الجمعة 22 كانون الثاني/ يناير 2016 .من الجدير القول:أنه بُعيد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، بدأ هيرتسوغ يطلق تصريحات أكثر يمينية:- “هذه ليست موجة إرهاب، هذه انتفاضة ثالثة، حذرت منها منذ أشهر. و”سيد الأمن” (نتنياهو) فقد السيطرة، فكل بضع ساعات يوجد إنذار! (11 يناير 2016).على خلفية عملية شارع ديزينكوف صرّح هيرتزوغ: “إن الجهات الفلسطينية الحقيرة التي أقامت خيام عزاء لذكراه (نشأت ملحم)، هم أعداء إسرائيل، وعليهم أن يعرفوا أننا لن نتوقف إلا حين ندمر ونقضي على خلايا الكراهية والتحريض الذي ينتجونه. هم يشجعون موجات الإرهاب ضد الأبرياء” (9 يناير 2016).وعن الإعدامات الميدانية، قال هيرتسوغ في لقائه مع وزير الخارجية الأميركية جون كيري، “إن لإسرائيل الحق بضرب الإرهاب بقوة، ضرب القتلة والكارهين (لإسرائيل) والمحرضين. ولكن نحن لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا فقط، بل علينا أيضا الانفصال عن الفلسطينيين، وأن نُخرج المناطق (الضفة) من إسرائيل، وأن نقطع عناق الموت هذا بيننا (24 نوفمبر 2015).كان هيرتسوغ من أبرز المهاجمين لحركة المقاطعة العالمية للمستوطنات، ولقرار الاتحاد الأوروبي، وأيضا لوزيرة الخارجية السويدية مارغوت وولستروم: “إن تصريحات وزيرة الخارجية السويدية تدعم الإرهاب بقوة، وكل تصريح كهذا، يُبعد المنطقة كلها خطوة واحدة إضافية عن الانفصال بيننا وبين الفلسطينيين، وتساعد القتلة، الذين يفعلون كل شيء من أجل تدمير الاحتمال للوصول إلى هذا الانفصال. من المثير أن السويد لم ترد بتصريح مشابه، حينما قتل عناصر شرطة باريس الإرهابيين، بموجب ما عليهم أن يفعلوا. ومثير كيف سترد السويد حينما ينفذ إرهابيون عمليات مخيفة على أراضيها. فهل ستطلب أيضا ملاطفتهم، بسبب أنه كانت لهم طفولة قاسية” (12 يناير 2016).في نفس السياق كانت تصريحاته حول قرار دول الاتحاد الاوروبي بمقاطعة منتجات المستوطنات(11 نوفمبر 2015),وحول مقاطعة إسرائيلBDS (5 يناير 2016).أما الرئيسة السابقة للحزب( شيلي يحيموفيتش) فقد انتقدت لتصريحات هيرتسوغ في فرنسا، وقالت: “إن هذا يتعارض مع قيم حركة العمل حول حل الدولتين. إن هيرتسوغ يميل لليمين، في ظل ائتلاف ينجر وراء النائبين بتسلئيل سموتريتش وأورن حزان، ومن واجب حزب “العمل” أن يطرح بديلا للحوار السياسي، وألا يتخلى عنه بالتوجه اليميني.يومها أثارت تصريحات يحيموفيتش هيرتسوغ ذاته، ورد عليها قائلا: “ماذا تعتقدين يا شيلي؟. هل إذا قلتِ للفلسطينيين غدا ,مرحبا أنا شيلي، تعالوا نصنع السلام!هل سبضعون السكاكين جانبا؟ كلا, إنهم سيقفزون ليصافحوكِ بحرارة ,لكنهم سيضعوا السكاكين في ظهرك “( 25يناير 2016).
على مدى الأشهر الثمانية الماضية، منذ بدء عمل الكنيست، بعد انتخابات آذار/ مارس 2015، برزت التوجهات اليمينية، واليمينية المتشددة والمتطرفة، أكثر مما كانت عليه مع افتتاح هذه الولاية، ونذكر خاصة في حزبي “يوجد مستقبل”، وحزب “كولانو-كلنا”. فحزب “يوجد مستقبل” تساهل مع الائتلاف الحاكم في قوانين عنصرية واضطهادية مثل الإطعام القسري للأسرى وغيره، فيما ينخرط كل نواب “كولانو” والوزراء، في المبادرات والسياسات العنصرية المتطرفة، مثل التشريعات العنصرية وغيرها، وهذا بحد ذاته يوضح مكانة الحزبين ومواقفهما.خرج المؤتمر بـ “خطة للأمن القومي الإسرائيلي”. شارك في المؤتمر، سفير الولايات المتحدة في إسرائيل “دان شبيرو”- يهودي الأصل، أميركي الجنسية- ففي خطابه هاجم السياسة الاستيطانية الإسرائيلية ,متهماً إسرائيل بأنها تنتهج سياستين في الضفة، واحدة للمستوطنين، وأخرى للفلسطينيين، داعياً إسرائيل إلى وقف البناء في المستوطنات!.
مهمة هذه المعاهد:صياغة تقارير استراتيجية تشكل هي وتوصيات المؤتمرات وخاصة مؤتمرات هرتسيليا, أسساً مهمة لسياسات وقرارات االحكومات الإسرائيلية الحاكمة.وبملاحظة هذه المواضيع”الدسمة” للبحث،يتبين مدى اهتمام إسرائيل بوجودها, وبمجموعة الأخطار التي تتهددها ومدى حرصها على المراقبة الدقيقة للتغييرات في العالم العربي قاطبةً , وفي المنطقة وفي العالم على أرضيه:استمرار التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة , والعمل على أن تظل تشكّل أولوية قصوى في الحفاظ على المصالح الأمريكية, على أرضيه مراعاة وتلبية احتياجات المتطلبات الأمنية الاستراتيجية لها،وهي احتياجات(متحركة وفقاً للتغييرات المحيطة), بحيث تشكل هاتان النقطتان أساساً(من أسس) السياسات الاستراتيجية الإسرائيلية.حقيقة ,لم أشأ الاستشهاد بما قاله ابن خلدون عن العرب! باعتبار ذلك ماضيا! غير أني استشهد بما قاله الجابري في كتابه القيّم ” نقد العقل العربي”,فمدخله للكتاب لم يكن سياسيا ولا اقتصاديا بل ابستمولوجيا معرفيا, إذ لا يرى ندون تحصيل ألة انتاجها وهي : العقل الناهض.ولا يمكن تحصيل الأخير دون نقد العقل العربي وبحث صيرورته التاريخية وتحديد المفاهيم المتحكمة في بنيته,ذلك من أجل التأسيس لعقل ذي نظام معرفي قادر على مواجهة تحديات الراهن.
وبعد … هل أجبنا عن التساؤل في عنوان هذه المقالة؟ وهل من الإمكانية بمكان إيعاز أحد انتصارات إسرائيل في معظم حروبها علينا إلى هذه النقطة: قراءة عدوها جيدا؟ وهل؟ وهل؟. أشئلة أطرحها على القرّاء الاعزاء! وإلى لقاء.