التلفيق يعطل المحاسبة
غالب قنديل
نشأت فكرة الموازنات العامة وقواعد المحاسبة العمومية من آلاف السنين منذ ظهور الدواوين في آلة السلطة السياسية لأباطرة الصين وملوك الإغريق وفراعنة مصر وفي الدول المعاصرة حتى تلك الأشد تخلفا بات اعتماد الموازنات السنوية ونشرها تقليدا ثابتا وهو بمثابة البيان الاقتصادي والمالي
عن توجهات الحكومات لإدارة الشأن العام وتحديد أولوياتها الاقتصادية والاجتماعية وخصوصا في شؤون كالطبابة والتعليم والسكن تشكل هموما اجتماعية شاملة وهي بالتالي محاور رئيسية في إدارة الشؤون العامة للمجتمعات المعاصرة.
أما في الدول التي تعيش تقاليد المحاسبة السياسية والدستورية للحكومات فثمة تقليد يدعى قطع الحساب الذي يبين الطرق الفعلية للتعامل مع كل موازنة عامة في نهاية السنة المالية ويظهر قطع الحساب الكيفية التي تتعامل بها الحكومات في إدارة شؤون البلاد وكيف انفقت فعليا ما حصلت عليه من اعتمادات في الموازنة وأين تخطت المبالغ المرصودة وأين أهدرت المال العام وتجاوزت حدود التفويص الدستوري الذي يعطيها حق التصرف المالي بالإنفاق او بالاستدانة او بنقل الاعتمادات وصرف الأموال في غير مواضيعها المقررة ويمكن القول إن قطع الحساب الذي يفترض ان تقدمه الحكومة للبرلمان لا يقل أهمية عن الموازنة نفسها فهو المادة التي يفترض ان تكون محور رقابة المجالس النيابية وركيزة المحاسبة السياسية للحكومات .
هذه الآلية معطلة في لبنان بعد الطائف وكان معمولا بها قبل ذلك وجاء تعطيلها لصالح نظام عبقري من التلفيق المالي والسياسي بدعوى ضرورات العجلة والواقعية العملية أسسه الرئيس فؤاد السنيورة بوصفه المنتدب إلى وزارة المالية في الحقبة الحريرية والمعتمد الدولي المفوض من صندوق النقد والبنك الدولي ومن الولايات المتحدة لهندسة الاقتصاد اللبناني وفي الحصيلة جرت مفاقمة عجزالاقتصاد وتعميق تبعيته للغرب والخليج منذ ما يتخطى عشرين عاما توجت فيها الحكومات قراراتها المالية غالبا بعبارة “خلافا لرأي ديوان المحاسبة ” وهاهي البلاد تمضي في التلفيق المالي لتعطيل المحاسبة على نهج لحس المبرد الذي فاقم الدين العام وكرس صيغ التقاسم والتواطؤ بين اهل الحكم في نظام ريعي يقوم على دمار قطاعات الإنتاج وخصخصة الخدمات العامة.
لقد تم فرض التلفيق المالي بالترهيب السياسي والبلطجة التي خلقها مناخ المضاربة ضد الليرة وضد حكومة الزعيم الوطني الراحل الرئيس عمر كرامي ومنذ عام 1992 عطلت المحاسبة السياسية والبرلمانية وجرى شطب الرموز التي تمثل هذا النهج المستقيم في الحياة السياسية والنيابية فاستهدف الزعيم السياسي والخبير الاقتصادي المرموق الرئيس سليم الحص وبالطبع الرئيس الراحل عمر كرامي والوزير المختص اكاديميا بتنظيم المالية العامة الدكتور الياس سابا والخبيرالدولي جورج قرم كما استهدف نواب لمعوا في النقد السياسي والعلمي للمشروع الإعماري الريعي من امثال زاهر الخطيب ونجاح واكيم وفي الواقع كان حزب سوليدير وأعوانه ينكلون بخصومهم من دعاة العدالة الاجتماعية واكتشف حسنو النية ممن ظنوا ان ذلك هو نتيجة للدور السوري الذي سخرته الحريرية لحسابها اكتشفوا بعد عام 2005 أن كل شيء مستمر ويتفاقم أكثر في عهد الوصاية الأميركية السعودية وفي ظل إرهاب لجنة ميليس ومعاونيه ومن خلفوه.
لاموازنة عامة من عشر سنوات وشرط كتلة المستقبل لتسهيل العودة إلى البديهيات في التشريع المالي هو تمرير براءة ذمة لحكومات الرئيس السنيورة قيمتها 11 مليار دولار وفقا لما بينته النقاشات النيابية التي توجت بمنع الحريري لإقرار سلسلة الرتب والرواتب الجديدة التي حركت الموظفين والمعلمين في الشوارع وقذفت بهم إلى حالة من الإحباط بعد خيبة الوعود واستعصاء المشروع في اللجان النيابية والسجالات السياسية حيث ما يزال عالقا على جداول الأعمال المؤجلة.
كل ما يجري ترقيع بترقيع ما دمنا مستمرين في عطالة التشريع المالي بلا قطع حساب وبلا موازنة فنحن اليوم في أشد الأنظمة السياسية تخلفا التي يمكن تخيلها في الزمن الحاضر ومن يرفض إجراء قطع الحساب عن السنوات العشر الماضية ومن يعطل المحاسبة على المليارات المفقودة ويرفض إحالتها إلى لجنة قضائية برلمانية هو المسؤول عن دفع البلاد في متاهة من التازم والتحلل و التعفن والاحتقان المؤدي إلى حافة الهاوية مع تراجع العوامل اللاجمة للحركة الشعبية سواء من خلال تعدد الحوافز السياسية لتحرك الشارع ام بتفاقم محفزات دافعة للتمرد على السلطة السياسية والمرجعيات الطائفية تحت ضغط المعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي تشمل المزيد من الفئات والأوساط الطبقية من الفقراء ومتوسطي الحال ومع ارتفاع البطالة إلى 32 بالمئة وركود حركة الاستثمار والرساميل وتراكم حالات العجز والدين في جميع القطاعات بما في ذلك القطاع المصرفي الذي تنعم بوفرة الأرباح الريعية العقارية والربوية على سندات الدين والقروض التي تضاعفت فيها نسبة المشكوك بتحصيلها.
ليس موضوع الموازنة عنوانا تقنيا وقطع الحساب ليس تفصيلا إداريا تنفيذيا وفي الواقع اللبناني يختصر هذا الملف مازق نظام سياسي متعفن وعاجز ومتقيح يستولد الأزمات والفضائح المكتومة التي قد تنفجر في أي وقت فهذا النوع من الأزمات وتحت ضغط الخفة السياسية والتمادي في استغباء المواطنين يحتمل انتفاضات وثورات صادمة ومفاجئة…. فعساه خيرا.