مساعي التوحد تتزامن مع كلام إقليمي عن “تدخل بري”: عبد الله سليمان علي
في انتصاراته الأخيرة لم يستعد الجيش السوري مساحات من الأراضي وحسب، بل هو خطا خطوات حاسمة نحو إغلاق «الباب الذي تأتي منه الريح»، من خلال تركيز عملياته على المناطق الحدودية التي هي الرئة التي تتنفس منها الجماعات المسلحة وعليها تحيا .
والجيش من خلال هذا المسعى الاستراتيجي لم يكن يتوخى قطع خطوط الإمداد عن بعض الجبهات المفتوحة ضده، بقدر ما كان يتوخى قطع الطريق أمام بعض الدول الإقليمية للحد من قدرتها على التأثير في مصير سوريا وتحديد صيغة التسوية التي تنتظرها. لذلك كان من الطبيعي أن تعلو أصوات هذه الدول، وترتفع نبرة تهديداتها، منتقلةً من مستوى التهديد بزيادة الدعم والتسليح إلى مستوى التلويح بالتدخل البري المباشر.
هذه التهديدات الإقليمية التي صدرت حتى الآن من كل من السعودية ودولة الإمارات بصيغ واشتراطات مختلفة، وبغض النظر عن مدى جديتها أو إمكان تنفيذها، تعني أن اللعب أصبح على المكشوف، بعد أن فقد الاختباء وراء أقنعة أو أدوات أي جدوى له، الأمر الذي كان له وقع الفضيحة على الفصائل المسلحة، التي أثقل كاهلها وقع الهزائم المتتالية، إذ تملكها الخوف من أن يؤدي انكشاف اللعبة على هذا النحو غير المسبوق، إلى فقدان ما تبقى لديها من صدقية لدى «حاضنتها» الشعبية، التي لن يكون من السهل عليها أن تستفيق على حقيقة أن كل ما جرى ويجري على الساحة السورية، ودفعت ثمنه من دماء أبنائها، لم يكن سوى «حرب بالوكالة» بين دول إقليمية ودولية كبرى، ولا علاقة لها بما كان من «ثورة».
لذلك وجدت الفصائل المهزومة نفسها أمام مأزق حقيقي، فهي تتراجع على الأرض، وليس لديها أي خطة لوقف حالة التدهور التي عمّت غالبية جبهات القتال. وهي من جهة ثانية، ليس لديها تصور واضح حول موقف الدول الداعمة، ومدى جديتها في التهديدات التي أطلقتها، ولا حول انعكاس هذه التهديدات على الساحة، وطبيعة تأثيراتها على التحالفات والجبهات، وهو ما ضاعف من ثقل الهزيمة على عاتقها وتركها في حالة من الخواء الاستراتيجي.
وقد التقطت مجموعات من النشطاء والفعاليات المعارضة لحظة «الخواء» هذه، وحاولت الإمساك بزمام المبادرة، من دون أن يكون واضحاً ما إذا كانت تقف وراءها جهة إقليمية ما، ورفعت من سقف ضغوطها على فصائل معينة كي تسارع إلى الاتحاد والاندماج في ما بينها، باعتبارهما السبيل الوحيد للخروج من المأزق الراهن. فمن الساحل السوري مروراً بشمال حلب، وصولاً إلى الجنوب في درعا، صدرت دعوات لإلزام الفصائل المسلحة، مع استثناء «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» وجماعات أخرى محسوبة عليهما من هذه الدعوات، للتوحد تحت مسميات متطابقة، مثل «جيش الساحل» و«جيش الجنوب» و«جيش حلب»، وزيادةً في الضغط على قادة الفصائل طرحت هذه الدعوات للتوقيع عليها في مواقع التواصل الاجتماعي لإعطائها صبغة شعبية.
وصدرت هذه الدعوات المتطابقة تحت اسم «الشعب الثائر»، وأعطت الفصائل المعنية مهلة 72 ساعة لاستكمال التوحد و«إصدار بيان موحد وتسمية قائد للجيش وهيئة للأركان»، على أن يعتبر «كل قائد فصيل يرفض الاندماج خائناً للثورة ولدماء الشهداء».
والحال أن مثل هذه الدعوات التي اجتاحت المناطق التي تقدم فيها الجيش السوري، إما أنها مجرد محاولة من قبل الفصائل المهزومة لكسب الوقت، ورفع معنويات «الحاضنة»، من خلال التلاعب بآمالها وإيهامها أن هناك ما يمكن القيام به لتغيير مسار الأحداث المتدهور، وإما أنها تعبر عن مسعى إقليمي، غير واضح الأطراف والأبعاد بعد، لجمع الفصائل ضمن كيانات كبيرة موحدة، بغية استخدامها بعد ذلك في التمويه على حقيقة ما يجري التخطيط له تحت عنوان التدخل البري.
بالتوازي مع هذه الدعوات، استمرت حالة التجاذب والاستقطاب بين أهم الفصائل «الجهادية» على الساحة السورية، متخذة صورة صراع مكشوف بين التيارات التي تنقسم إليها هذه الفصائل. وفي هذا السياق كان لافتاً أن يبرز موقفان متناقضان من الجناحين السياسي و «الشرعي» في «أحرار الشام»، حول موضوع الوحدة مع «جبهة النصرة». حيث شدد أيمن هاروش، أحد دعائم الجناح «الشرعي» الجديد، على أنه «لا عز لنا بغير الحكم بشرع الله، وإعادة مفهوم الأمة الواحدة»، نافياً أن يكون سبب عداء روسيا والغرب لبعض الفصائل هو ارتباطها مع تنظيم «القاعدة»، الأمر الذي فهم على أنه دفاع من الجناح «الشرعي» عن الارتباط مع «جبهة النصرة»، وهو ما استدعى رداً من عضو المكتب السياسي أبو عمر السوري (حسام طرشة) الذي فنّد أقوال زميله، وشدد على عدم وجود أي مصلحة في هذا الارتباط، لأن «خطاب القاعدة يعادي العالم بأسره، وهو خطاب كارثي»، رغم تأكيده أن «القاعدة بحركتها وفكرها، مشروع يساهم في صد الهجمات المباشرة للأعداء، ولكنه مدمر لدفاعات الأمة الإستراتيجية وبنائها المتراكم نحو العز والتمكين».
وهذا السجال العلني، الذي شهده موقع «تويتر»، بين اثنين من كبار قادة «أحرار الشام»، يؤكد أن الطريق أمام المبادرة المطروحة للتوحد مع «جبهة النصرة» ما زال مغلقاً، كما يؤكد أن «النصرة» لن تكون على المدى القريب شريكاً في أي عملية اندماج أو توحد تشهدها صفوف الفصائل المسلحة.
من جهة أخرى، نفت «غرفة عمليات فتح حلب» ما أشاعته بعض وسائل الإعلام حول توقيع هدنة مع «داعش»، مؤكدة أنها مستمرة في قتال التنظيم وكافة أشكال الإرهاب بما فيها «إرهاب النظام»، إلا أن «الغرفة» لم تنف ما إذا كان مشروع الهدنة المسرب قد عرض عليها فعلاً أم لا. والحقيقة أن الورقة التي جرى تسريبها ليست «مشروع هدنة» وإنما هي صيغة للاستسلام. ويكفي أن نشير إلى أن كلمة «الموادعة» التي وردت فيها هي من عقود الأمان التي يجري توقيعها «شرعياً» مع المرتدين والكفار، ويمكن نقضها بسهولة.
وبالرغم من النفي السابق، إلا أن «غرفة عمليات فتح حلب» تحوي أكثر من ثلاثين فصيلاً. وتشير المعلومات المتوافرة إلى أنها جميعاً ليست على قلب رجل واحد، وأن هناك بعض الفصائل تريد بقوة عقد هدنة مقبولة مع «داعش» من أجل التفرغ لمحاربة الجيش السوري وكبح جماح تقدمه في أكثر المناطق أهمية وحساسية. ومما له دلالته أن القيادي السابق في «جبهة النصرة» وأحد مؤسسيها المدعو أبو محمد صالح الحموي، المعروف بلقب «أس الصراع»، أعلن صراحةً أنه يؤيد عقد الهدنة.
(السفير)