سوريا: صواريخ جنيف ومعارك الجبهات خليل حرب
اذا ما قُدّر لمسار جنيف أن يستمر، لجولة أولى من ستة أشهر، كما أعلن ستيفان دي ميستورا، وخرجت «معارضة الرياض» من اجتماعاتها الماراثونية المفتوحة بقرار ما اليوم، فإن المفاوضات ذاتها ستتولى تشذيب الكثير من الأجندات السلفية ـ والجهادية ـ كالتي فخخت بها الرياض وأنقرة، مفاوضات التسوية السورية في سويسرا على شاكلة محمد علوش، شريك «القاعدة» في «جيش الإسلام».
«علمانية» سوريا. هذا ما نص عليه «إعلان فيينا السوري» الذي حددته الأمم المتحدة والروس والأميركيون، من بين المعايير الكثيرة للمستقبل السوري. ومنذ مقتل زهران علوش وقيادات كبرى في حركة «أحرار الشام» خلال الأسابيع الماضية، يبدو من الواضح أن ما لن تشذبه مفاوضات جنيف، سيكون على لائحة الترويض (سياسياً وعسكرياً) خلال الأشهر الستة المقبلة.
وبمعنى أوضح، يقول مصدر واسع الاطلاع، إن «الميادين العسكرية هي التي ستفرض حدود الممكن وحدود المستحيل في مسار حل الأزمة السورية خلال الأشهر الستة المقبلة»، حتى لو تم الاتفاق على وقف لإطلاق النار، اذ يفترض، كما أعلن السوريون والروس مراراً، أنه لن يُسمح للفصائل المتهمة بالإرهاب، وهي كثيرة بحسب الحصيلة المؤقتة التي أعدّتها المخابرات الأردنية، بالتنعم بخيرات أي هدنة عسكرية.
سيجهد المتأرجحون ما بين حافتي «الإرهاب» و «الاعتدال» من أجل البرهنة على «اعتدالهم»، تماما مثلما اضطر السعوديون، مكرهين على ما يبدو، لإصدار أوامرهم لجماعات المعارضة المتمركزة في الرياض، بالذهاب صاغرين الى جنيف، بناءً على تعليمات الحليف الأميركي المتململ من تشرذمهم وشروطهم البوهيمية، خارج معادلات وواقعية التسوية السياسية وحتميتها مع دمشق.
وفيما أعلن المتحدث باسم ما يسمى الهيئة العليا للمفاوضات في جنيف سالم المسلط أن اجتماع الرياض للمعارضة سيُستأنف اليوم في العاشرة صباحا للبحث في المشاركة في المفاوضات المقررة غدا الجمعة، وهو تأجيل جديد من جانب فصائل الرياض تحت ذريعة انتظار «توضيحات» من دي ميستورا بشأن نص الدعوة الموجهة لهم، فإن واشنطن سارعت امس الى تجديد ضغوطها ومطالبة أطراف الرياض بالذهاب الى قاعة التفاوض «من دون شروط مسبقة».
ومن الواضح أن غياب القرار والإرادة يقضم من الرصيد السياسي المحتمل لـ «ائتلافيي» الرياض، تماما كما يفعل الميدان العسكري، وكما فعل في الأيام الماضية، من سلمى وربيعة شمالا، الى الشيخ مسكين جنوبا.
وبهذا المعنى، فإن «صواريخ جنيف» إن صح التعبير، أصابت في السياسة وشرّعت نوافذ التسوية الآن، مثلما فعلت صواريخ الحلفاء، سوريا وروسيا وايران و «حزب الله»، أو فلنقل أقله منذ «عاصفة السوخوي» قبل أربعة شهور، بقلب المعادلات العسكرية. وربما لهذا السبب، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أمس أنها تأمل ألا تؤثر الانتصارات السورية الأخيرة على سير المفاوضات.
كما أنه من الواضح أن من بين أكثر من أصابتهم «صواريخ جنيف» أو أقله، أربكت حساباتهم، السعودية وتركيا وقطر، بالإضافة طبعاً الى اسرائيل التي يتعرض «جيش لحدها» في الجنوب الى ضربات متتالية.
ويقول المصدر إن «الحلفاء الاربعة (سوريا، روسيا، ايران وحزب الله) يدركون جيدا معاني التلازم بين الميدان وجنيف، وانه لا معنى لأي انتصار اذا لم يجد صداه أو يتم استثماره في السياسة، تماما ككل الحروب في التاريخ، أو سيكون البديل دورة متواصلة من التدمير العبثي».
ويعتبر المصدر «يبقى الميدان ضرورياً لجلاء الغموض في بيان فيينا وجلاء المصطلحات وإعادة ترتيب الاتفاقات والتفاهمات المرتطبة بسوريا، بما في ذلك بيانات جنيف وفيينا وقرارات مجلس الامن الدولي»، مضيفا «ستبقى كلها بتفسيراتها خاضعة للمؤثرات الميدانية».
ولذلك تثار العديد من الأسئلة الآن: أيهما يحسم التسوية السورية، معارك الميدان أم مفاوضات جنيف الطويلة والشاقة؟ أم أنهما تعملان بالتوازي؟ وماذا بعد الشيخ مسكين وريف اللاذقية الشمالي؟ والأهم ربما الآن، كيف ستتبدل خريطة المشهد الميداني والتحالفات العسكرية على الارض، سواء قبل التوصل في جنيف الى وقف لإطلاق النار، أو بعده، ما دامت «الحرب على الارهاب» مستمرة بغض النظر عما سيجري في قاعات التفاوض السويسرية؟
ولم يعد سراً أن مرحلة الهبوط في ميزان القوى تفاقمت في تشرين الثاني العام 2014 مع معركتي وادي الضيف والحميدية في ريف ادلب، وكرّت السّبحة بعدها نحو ادلب وجسر الشغور وأريحا. التلاقي الاقليمي وقتها بين تركيا والسعودية تجسد بـ «جيش الفتح»، وبرمزية القاضي الشرعي السعودي عبدالله المحيسني (تنظيم القاعدة)، وصولا الى لقاء «النصر» التلفزيوني الذي أجراه أحمد منصور مع زعيم «جبهة النصرة» ابو محمد الجولاني وهو يعلن أن طريق النصر على الساحل السوري ودمشق صار قريبا، وأن وقت الثأر مع العلويين بات وشيكاً. (ملاحظة: كم تختلف هذه اللهجة عما كان يردده زهران علوش في خطاباته أمام أنصاره عن الروافض والعلويين….؟ وهل سيكون محمد علوش من بعده مفوّضاً لاستخدام اللهجة ذاتها في جنيف؟).
كانت هذه مرحلة التراجع الميداني الكبير، الى أن بدأت التقارير تشير الى تزايد النشاط الروسي في حميميم ثم وصولا الى الذروة الروسية في 30 ايلول الماضي.
يقول مصدر متابع للمشهد الميداني السوري الآن إن التحركات العسكرية الأخيرة تشير الى وجهتين محتملتين لمعركتين أساسيتين: حلب وادلب. عمليات عسكرية من خان طومان الى خان العسل والراشدين الخامس والبحوث العلمية وصولا الى جمعية الزهراء والليمرون، للإطباق على مدخل مدينة حلب الغربي. وعمليات من العيس وتل العيس باتجاه اوتوستراد حلب ومنه الى ريف ادلب الشرقي. وهناك عمليات تقدم من كويرس نحو مدينة الباب وصولا الى قرية الراعي، على حدود تركيا مباشرة.
وباختصار، هناك ما يشبه الإطباق في محيط حلب، من خان طومان (الجنوب الغربي)، ومن الباب (الشرق) ومن باشكوي (الشمال).
أما بالنسبة الى ادلب فإن خيوط المعركة تتكامل، من ريف اللاذقية حيث يجري التقدم الآن، بعد ربيعة وسلمى، نحو قريتي كنسبا وكبانا، ثم الى ريف ادلب عبر قرية الناجية، فإما بعدها من جبل التركمان الى جسر الشغور، أو من جبل الأكراد نحو سهل الغاب في ريف حماه.
واذا كان من المتوقع أن تكون نوى، أكبر معاقل فصائل مسلحي الجنوب، الوجهة المرجحة للجيش السوري، بعدما استعاد الشيخ مسكين في ريف درعا، فإن إقفال أكبر ممر بري يربط داريا بالمعضمية في الغوطة الغربية يشكل تحولا كبيرا في موازين القوى في تلك المنطقة المحاذية لدمشق، بعدما تعزز التقدم التدريجي للجيش في الغوطة الشرقية نحو دوما، معقل «جيش الإسلام»، من خلال السيطرة على مرج السلطان والبلالية ومزارعها ودخول مزارع النشابية.
ماذا يعني ذلك؟
يقول المصدر الميداني إنه «تمت عملية مزج خلاق وتطبيق للأسس النظرية التي نوقشت بين سوريا وروسيا وايران. صحيح أنها تطلبت بعض الوقت لتفعيلها بين الارض والجو، إلا أنه إنجاز تراكمي للضربات الجوية، وبدأ الحصاد المشترك يعطي ثماره».
ويقول مصدر متابع سياسيا إن اللاعبين الحلفاء «يدركون الروزنامة السياسية وأجندتها، والروسي شريك في العسكر والسياسة، وبالتالي ما نراه هو ضبط الإيقاع التلازمي بين مسارات السياسة والعسكر، ما بين مئات الجبهات السورية وقاعات جنيف التي يفترض أن تفتح أبوابها غدا».
المصدر الواسع الاطلاع يقول ان «الميدان سيفرض حدود الممكن والمستحيل في الأزمة». ويتابع «ستكون هناك شراكة سياسية مع معارضين سوريين، لكنها ستكون تتويجا لهزيمة فصائل المعارضة في الميدان. العسكريون الذاهبون الى جنيف لا يملكون الكثير من الأوراق على الارض، لكنهم كانوا يراهنون على أي إنجاز قد يعزز رصيدهم السياسي».
أما الآن، يقول المصدر وقد راح المشهد الميداني مصحوبا بانقلاب سياسي دولي من الازمة، يتبدل بغير مصلحتهم، «فإن أكثر ما سيضمرونه من تمنيات، انتصار الدولة التي حاربوها خلال السنوات الخمس الماضية. بقايا من الجيش الحر ستلتحق بشكل أو بآخر بالجيش السوري. الفصائل الاخرى سينهكها البحث عن مخارج لنفسها اذا ما دارت عجلات التسوية برعاية روسية أميركية. السعودي والتركي لن يمكنهما المماطلة طويلا حتى نهاية عهد باراك أوباما، لعل وعسى».
ووفق مقررات فيينا، وتعليمات جون كيري العلقمية لرياض حجاب في الرياض، فإن الرئيس بشار الاسد شريك في المرحلة المقبلة، ولا شروط مسبقة على المفاوضات، وهو ما يعني ضمنيا أن حصة المعارضة السياسية في الحكم الجديد قد تكون محدودة ببعض الوزارات وضمانات بنسبة تمثيلية ما في البرلمان الجديد، اذا ما جرت الانتخابات وفق الدستور الجديد الذي سيجري إعداده خلال 18 شهرا.
وكأنها تسوية تكرّس انتصار الجيش السوري عمليا، وانما بماكياج سياسي، ساهمت واشنطن بتفاهم مع موسكو، على تسويقه وهي تقتاد المعارضة عنوة الى جنيف، فماذا سيبقى للسعوديين والأتراك والقطريين من أوراق مؤثرة، ما دامت الوقت يقلص قدرتهم على التأثير في المشهد الميداني؟
وأخيراً، متى ورد آخر خبر عن تحليق للطيران التركي في السماء السورية أو حتى بمحاذاتها منذ إسقاط السوخوي الروسية؟ وألم تؤثر إعادة التموضع الأردني على مجريات المعارك الجنوبية الجارية الآن؟ من المهم مراقبة بيانات الفصائل المسلحة و «الجهادية» وصراخهم تألماً بسبب «الخيانات» التي يتعرضون لها، من «الحلفاء» ورفاق السلاح…و «صواريخ جنيف».
(السفير)