ملاحظات منهجية أولية لتناول علاقة الدين بالسلطة بقلم د.جورج قرم
التحدث عن علاقة الدين بالسلطة يتطّلب تحديد قواعد صارمة وواضحة لتأمين سلامة المنطق الذي من خلاله نحلّل ونقيّم هذه العلاقة. وهي قواعد بمثابة إجراءات احترازية لكي نحيّد عواطفنا الشخصية تجاه الظاهرة الدينية ونعالجها على أسس تسعى الى الموضوعية والمساهمة في وضع معايير تنظّم الحياة الجماعية للحيز العام في المجتمع. وهذا ما نحتاجه فعلاً اليوم أمام المعمعة الفكرية والأمنية التي نتخبّط فيها في العديد من الدول العربية.
القاعدة الاولى: منبع الديانات والظاهرة الدينية هو القلق الوجودي للإنسان
ان الإنسان أمام ظاهرة الموت والفناء والقلاقل النفسية التي تثيرها عنده يحتاج الى نوع من الاطمئنان والتعويض بأن فناء جسده ليس نهاية الطريق في حياته الدنيوية. وهذا ما أدّى الى تكوين أنواع متعددة من الإيمان الديني. لذا لا يمكن ازدراء الشعور الديني المتجسّد في عقائد ما ورائية على اختلاف أنواعها. لكنه لا بدّ من التفريق بين الإيمان الفردي بوجود قوة ما تسيّر الكون ومصير الإنسان من جهة، وبين تطوير عقيدة دينية مفصلة من جهة أخرى، يستنبط منها بعض المفكرين قواعد سلوك الإنسان في الدنيا، وهذا يسهل استعمال العقيدة الدينية وتوظيفها في مجال الحياة المجتمعية ونظام الحكم فيها، مما يمكن ان يجعلها تتحول في كثير من الأحيان الى أداة قمع من قبل السلطات القائمة.
القاعدة الثانية: تميّز الديانات التوحيدية عن غيرها من الأديان
ان الديانات السماوية التوحيدية الثلاث هي نوع من أنواع التعبير عن حاجة الإنسان الى الإيمان الروحي أي الإيمان بمتابعة روح كل إنسان مسيرة ما بعد فناء الجسد.
وهناك عقائد دينية متعددة تزدهر في العالم غير العقيدة التوحيدية بتفرعاتها الثلاثة، أي اليهودية والمسيحية والإسلامية، وهذه الأخيرة حسب النص القرآني ذاته متجذرة في ظهور كل الرسل والأنبياء منذ إبراهيم في تاريخ منطقة شرق المتوسط والجزيرة العربية.
تتميز الديانات التوحيدية عن الأخرى بنموذج سلوك نمطي تاريخي قديم (archétype) يستمر فاعلاً الى اليوم في اللاوعي الجماعي للمجتمعات التي انتشرت فيها، وهو نموذج مكوّن من ثلاثة عناصر رئيسية: (1) وجود رسالة دينية وروحية الى البشرية جمعاء وبالتالي واجب العمل الحثيث على انتشارها؛ (2) وجود رسل وأنبياء يتكلمون بالوحي الإلهي؛ (3) النظر الى جماعة المؤمنين كشعب مختار له صفات مميزة عن الشعوب الأخرى ذات الديانة المختلفة. وقد استمرّ تأثير هذا النموذج النمطي في حياة المجتمعات التوحيدية بعد ظهور فلسفة الأنوار في أوروبا والثورة الفرنسية، وذلك عبر جعل القوميات الحديثة، العلمانية الطابع، تعمل على نفس النموذج النمطي التوراتي القديم، بجعل العقيدة القومية تعبّر عن تفوّق شعب على الشعوب الأخرى من الناحية الحضارية الحديثة. هذا بالإضافة الى ان الحركات الفلسفية الأوروبية وما نتج عنها من وضع أنظمة فكرية متكاملة لإدراك العالم، ُيمكن ان يُنظر اليها أيضاً على انها بمثابة رسالات ونبوءات ذات طابع ديني توحيدي نمطي.
القاعدة الثالثة: الفرق بين الديانة في شقها الروحي وشقها المؤسساتي
هناك فرق شاسع بين التطوير العقائدي والمؤسساتي للأديان ـ وبشكل خاص في الديانات التوحيدية ـ وبين وجهها الروحي الأصيل الهادف الى طمأنة الإنسان ومساعدته على تحمّل قلقه الوجودي ومصاعب ومصائب حياته الدنيوية. وهذا ما يظهر جلياً وبشكل خاص في الديانات التوحيدية الثلاث، ما يجعل قائماً خطر تحوّل الدين الى أداة لممارسة السلطة على الرعية في أدق تفاصيل حياتها اليومية من قبل الحكام. وهذا جوهر آلية توظيف الدين في السياسة في الديانات التوحيدية الثلاث بفرض ممارسات وتصرفات فردية ومجتمعية وسياسية التي تدّعي ان ينبوعها هو النص المقدس ولذا لا يمكن مخالفتها.
ومما لا شك فيه ان تمأسس الديانة يؤدي في كثير من الأحيان الى ضعف العلاقة بين النص المقدس الأساسي وروحيته وبين الممارسات وقواعد السلوك المفروضة من الحكام على الرعية. وعلى سبيل المثال يمكن ان نذكر الهوة بين اقوال السيد المسيح الداعية الى السلام والمحبة ورفض كل أساليب العنف والاهتمام بالفقراء والمهمّشين والمنبوذين اجتماعياً وبين الممارسة ذات العنف الفتّاك الى حدّ الإبادة الجماعية في فتح القارة الاميركية، شمالاً وجنوباً، وذلك بمباركة الكنيسة ذاتها وهي كانت تدّعي انها تجسّد وتطبّق العقيدة الدينية المسيحية. وكذلك الأمر بالنسبة للممارسات الشرسة التي تقوم بها بعض الدول او التنظيمات الإسلامية، التي تتمّ باسم الرسالة المحمدية وسنّة الرسول بينما يظهر جلياً ان جوهر الرسالة المحمدية النبيلة هي الرحمة المستلهمة من الخالق نفسه والتواضع في التعامل مع الآخرين وإقامة العدل بين الناس، وهو أساس الملك، واستعمال العقل لإقامة الحرية عبر اجتهاد الإنسان في فهم صيرورة البشرية وتأويل النص المقدس.
وهنا لا بدّ من الإشارة الى ان الديانة الإسلامية هي التي أسست حرية الاجتهاد، وهي أم الحريات التي يتفرع عنها كل الحريات الأخرى، لكن عند تأسيس الديانتين التوحيديتين المسيحية والإسلامية تحولت مبادئهما الى نظام سلطة قيّدت حرية الإنسان الى ابعد الحدود وفرضت عليه العديد من الواجبات والطقوس وأصبحت لها طابع الإجبار وحالت دون استعمال الإنسان لقدراته العقلية، مما أدّى الى انحطاط المجتمع ووهنه.
اما بالنسبة الى الديانة اليهودية، فإن جوهرها يكمن في انتظار مجيء المسيح المنقذ لليهود (نظراً لعدم الاعتراف بنبوّة السيد المسيح أو ألهويته وكذلك لعدم اعترافها برسالة النبي محمد) والتقيد بأخلاق سامية وحميدة والصلاة المتواصلة. وبالرغم من هذه الخلفية فان الصهيونية السياسية قد قامت بأبشع الجرائم المتجسدة في إنشاء دولة اسرائيل وقتل الفلسطينيين وجيرانهم العرب وطردهم بالقوة من أرضهم وارتكاب المجازر، ومثل هذا التصرف هو نقيض لجوهر هذا الدين المؤسس للتوحيد على حد قول العديد من اليهود المتدينين، والبعض منهم يعتبر الدولة الصهيونية دولة قائمة على الكفر والظلم.
القاعدة الرابعة: توظيف الدين في السياسة أدى الى الفتن والانشقاقات داخل الدين الواحد
فيتاريخ الديانات التوحيدية الثلاث، قد حصل العديد من الانشقاقات التي أخذت طابعاً دموياً نظراً لارتباطها بقضايا التنافس والصراع على السلطة. نذكر في هذا الشأن وعلى سبيل المثال انقسام الإمبراطورية الرومانية ـ بعد ان أصبحت المسيحية الدين الرسمي للدولة ـ الى إمبراطوريتين، الأولى في الشرق وعاصمتها الجديدة القسطنطينية وأصبح اسمها الإمبراطورية البيزنطية، والثانية الإمبراطورية الرومانية الغربية الضاربة جذورها في عمق التاريخ المتوسطي. وبعد انهيارها على يدّ غزوات القبائل البربرية أعيد تكوينها تحت سلطة الكنسية الرومانية الكاثوليكية وتحت اسم الإمبراطورية المقدسة الرومانية الجرمانية، وبالتالي تعمّق الخلاف اللاهوتي بين كنيسة روما وكنيسة بيزنطيا الى حدّ القطيعة وغزو الصليبيين للقسطنطينية خلال إحدى حملاتهم الصليبية، وقد مارست سلطات الكنيسة الكاثوليكية على الممالك والإمارات الواقعة تحت هيمنتها مراقبة مطلقة الصلاحيات على الحكّام المدنيين؛ كذلك قامت بأبشع أنواع التنكيل والتعذيب على من كان يجرؤ على فهم وتأويل الأناجيل ورسائل رسل المسيح (apôtresdes actes ) خلافاً لأحكام الكنيسة.
أما الكنائس المسيحية في المشرق وبلاد ما بين النهريين فقد طورت اجتهادات خاصة بها لكي تقاوم الهيمنة البيزنطية كما اختلفت فيما بينها الى ابعد الحدود من الناحية اللاهوتية. وقد كانت الاختلافات تدور حول الطبيعة المزدوجة للمسيح، الإنسانية والإلهية، ولكن مثل هذه المعارك كانت فعلياً لها خلفيات سياسية سلطوية دنيوية. وهذا ما حصل أيضاً في الحروب الدينية في أوروبا على مدى قرن ونصف قرن، من القرن الخامس عشر الى أواسط القرن السابع عشر، وكانت حروب فتّاكة وشمولية الطابع ساهم فيها الرعية وليس الجيوش النظامية فقط؛ وهي التي أدّت بالتدريج الى ظهور الدول القومية الطابع والى تأسيس أنواع مختلفة من أنظمة فصل الدين عن الدولة.
أما عند المسلمين، فلم تكن الحالة أفضل، اذ بدأت الفتن بحجة الدين بعد موت النبي محمد بصراع عائلي الطابع داخل المجموعة القريشية، فتمّ تطوير مذاهب دينية الطابع مختلفة ومتناقضة لتبرير مواقف سياسية دنيوية في أحقية خلافة النبي بين صحابته وبين أفراد عائلته، تحولت الى حروب فتّاكة وأدت الى وهن العنصر العربي في الكيانات السياسية التي انبثقت عن الفتوحات والى القلاقل والحروب والاغتيالات التي تميّز بها الحكم العربي ذو الطابع الإسلامي. ولا بدّ من ذكر ما سُمّي بالفتنة الكبرى كما وصفها العلاّمة الدكتور هشام جعيط التي فرّقت كل من السنّة والشيعة والتي يتمّ توظيفها مجدداً في العصر الحالي لأسباب محض دنيوية في الصراع الإقليمي الحالي الذي يمزّق المشرق العربي، وهو صراع يؤدي الى تدمير عدد من الكيانات العربية الحديثة. وذلك بعد ان تمّ توظيف هذا الخلاف القديم العائد الى القرون الأولى من تاريخ بروز الديانة الإسلامية في الحروب بين المملكة الفارسية الصفوية الناشئة في القرن السادس عشر وبين السلطنة العثمانية. وهي كانت حروباً فتّاكة أدّت الى وهن وانحطاط هذين الكيانين معاً وضياع العديد من المقاطعات التابعة للكيانيين المتحاربين لصالح الدول الأوروبية التي أصبحت في حالة توسع استعماري.
القاعدة الخامسة: ان شيطنة العلمانية واعتبارها كفراً وإلحاداً هي للحفاظ على أساليب حكم مطلق تقيّد حرية الإنسان وقدراته الخلاقّة.
سواء في المسيحية او في الإسلام، تميّز بروز الاتجاهات الحديثة نحو إقامة الفصل بين القضايا الدينية الإيمانية والعقيدية وبين تسيير أساليب الحكم الدنيوي في المجتمع بمواجهة عنيفة من أهل السلطة والجاه لمنع التغيير في أساليب الحكم ومنع إعادة تأسيس الحرية الإنسانية على أساس مبدأ حرية اختيار القناعات الروحية الفردية وحرية الاجتهاد في النصوص المقدسة. ومن الإشكاليات المستوردة من الفلسفة الأوروبية في ثقافتنا العربية الحديثة إشكالية التناقض المفتعل بين الأصالة والحداثة. وبإسم الحفاظ على التراث، انخرط بعض المثقفين العرب الى جانب حركات الإسلام السياسي على اختصار التراث بالدين والشريعة المنبثقة عنه متناسين غنى الأوجه الأخرى من التراث العربي، خاصة في الشعر والموسيقى والمؤلفات الفلسفية والروايات الرائعة الدنيوية الطابع، وكذلك في الفن المعماري وتقنيات الريّ.
وهذا النسيان المنظم ساهم الى حدّ بعيد في تعدّد أساليب توظيف الدين في السياسة لمصلحة أنظمة الحكم او التيارات الإسلامية العاملة للحدّ من حيّز الحرية في مجتمعاتنا العربية ومراقبة كل تصرفات وأفكار الأفراد. وقد تمّ في هذا الإطار إدانة العلمانية من قبل بعض المثقفين على أساس انها تقضي على الأصالة والتراث الروحي للمجتمع وتشدّ الإنسان الى نظرة مادية ضيقة للحياة تؤدي الى الإلحاد والى تفتيت اللحمة المجتمعية، وبالتالي الى الفتن وإضعاف الأمة (بالمعنى الديني). من الملفت للنظر ان العديد من كتابات هؤلاء المثقفين تحتوي على الاستشهاد المتكرر بمؤلفات أوروبية المنشأ التي تعبّر عن حنين مرضي الى الماضي وعن عداء كبير لفلسفة الأنوار الأوروبية ومبادئ الثورة الفرنسية والثورات الأخرى في العالم المستلهمة من مبادئ الثورة الفرنسية، خاصة تلك الاشتراكية الهوى.
والجدير بالملاحظة هنا، اننا نرى الكنائس الكبرى، رغم انفتاحها وتطورها، ما تزال تُدين العلمانية وكأنها تعني بالضرورة الابتعاد عن الدين والأخلاق؛ بينما تعني العلمانية في الأساس حرية الاجتهاد والتأويل في النصوص المقدسة والحدّ من توظيف الدين في الحياة السياسية، وذلك من أجل إرساء دعائم حكم تؤيد حرية المعتقد الروحي وبالتالي الحرية الفكرية والتفاعل الثقافي والحضاري الحرّ بين المجتمعات البشرية المختلفة. وهذا ما تؤكده آيات بيّنات من القرآن الكريم (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) و(لو شاء الله لجعل منكم أمة واحدة) و(لا إكراه في الدين) و(لو شاء الله لجعل منكم أمة واحدة) و(جادلهم بالتي هي أحسن)، وكذلك هذا ما أكدّه المسيح عندما قال ليس هناك فرق بين اليهود والشعوب الأخرى وان كل إنسان أخ للإنسان الآخر.
والجدير بالملاحظة ايضاً، ان الديانة المسيحية عندما تأسست وأصبحت دين الدولة قد قيّدت كل الحريات الى ابعد الحدود وان الحروب الدينية الفتّاكة التي ذكرناها بين الكاثوليك والثوار البروتستانت هي التي فتحت الطريق أمام قبول التعددية المذهبية ضمن الديانة الواحدة وتأسيس حرية المعتقد وتحييد دور الدولة في الأمور الإيمانية، وبالتالي منع زج الدين وتوظيفه في المعترك السياسي.
أما عند المسلمين، وبالرغم من الفتنة الكبرى بين السنة والشيعة والخوارج فإنه كان متاحاً خلال القرون الاولى حرية الاجتهاد وتأسيس مذاهب إسلامية مختلفة وتأمين قدر كبير من الحرية في ممارسة ديانات غير الديانة الإسلامية وعلى رأسها المسيحية واليهودية. وقد تميّزت أولى النظم السياسية والإسلامية الطابع بالحرية الفكرية وذلك على خلاف النظم المسيحية الاولى التي قضت على كل حرية فكرية وإيمانية الى حدّ رفضها ممارسة الفلسفة، بينما اشتهر العديد من الفلاسفة المسلمين، من عرب وغير عرب، دون مضايقة في الديار الإسلامية على مدى قرون قبل ان يتمّ القضاء عليها من قبل الفقهاء الواقعين تحت هيمنة الكيانات السياسية العديدة التي انفصلت عن الخلافة العباسية.
القاعدة السادسة: محاربة وطمس أعمال رواد النهضة العربية هو ناتج عن سعي متواصل من بعض الفئات الحاكمة العربية في إبقاء المجتمعات العربية في حالة تخلف لضمان استمرار أساليب الحكم الاستبدادي.
ان زعماء الإصلاح الديني في العالم العربي قاموا بعمل جبّار للانفتاح والتفاعل مع عوامل الحداثة الأوروبية التي أصبحت تنتشر في كل أنحاء العالم، وذلك لإخراج المجتمعات العربية من ركودها وجمودها ووهنها عبر إعادة فتح باب الاجتهاد وتبيان أسس النهوض الفكري والعلمي. ونذكر من بين زعماء الإصلاح كبار الفقهاء مثل رفعت رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده واحمد أمين وعلي عبد الرازق وطه حسين، والبعض منهم من الذين لم يتخرجوا من مؤسسة “الأزهر” مثل أحمد لطفي السيد وخير الدين التونسي والامير عبد القادر الجزائري، كما نشير أيضاً الى دور اللبنانيين والسوريين المسيحيين في تحديث اللغة العربية والمساهمة في زيادة معارف الأمة عن تاريخها وأحوالها وسُبل إخراجها من السكون والتخلف والضعف.
وقد تصاعدت الحركة المناوئة للنهضة عندما استقلّت الدول العربية ابتداءً من النصف الثاني من القرن العشرين وذلك عبر تأسيس حركات الإسلام السياسي، وبشكل خاص في مصر، وانتشار المذهب الوهابي المتشدد دينياً والمستفيد من سيل الأموال النفطية. ولا تختلف تلك الحركات عن مثيلاتها في دول أخرى الداعية الى الحفاظ على الأصالة التراثية أمام انتشار أفكار الحداثة الآتية من الدول الغربية والتي تدينها حركات الإسلام السياسي بشدّة على انها أفكار تؤدي الى الإلحاد والمادية وقطع الجذور الروحية مع التراث الديني وتقاليده.
القاعدة السابعة: لا يمكن تجاهل التطورات الجيوبولوتيكية وتأثيرها على المجتمعات العربية ودور الدين فيها.
ان الممارسات الدينية الطابع في المجتمعات تتأثّر بالتطورات الفكرية والسياسية العالمية. لذا تأثر العديد من البلدان بصعود قوة الاتحاد السوفييتي والأنواع المختلفة من الأيدوليجيات الاشتراكية. وقد اكتشف العديد من الشبان العرب والمسلمين من أقطار أخرى تلك الأيدوليجيات، و قام العديد منهم بالسفر الى الاتحاد السوفييتي او دول اشتراكية أخرى للدراسة الجامعية فيها، ولذا انتشرت في المجتمعات العربية النزعة التحررية من التقاليد الجامدة، والاتجاه الثوري في بناء مجتمعات عريقة جديدة تخرج بشكل متسارع من التخلف الاجتماعي والاقتصادي والعلمي. وأدى ذلك الى تقاطع مصالح واضحة بين فئات حاكمة محلية معادية لهذه التطورات والدول الاستعمارية الأوروبية القديمة والولايات المتحدة كدولة كبرى متزعمة تحالف الدول الليبرالية المعادية للاتحاد السوفييتي والايدوليجيات الشيوعية.
وسرعان ما تمّ وضع سياسات في المنطقة العربية وفي الدول الإسلامية إجمالاً وبعض الدول المسيحية مثل (بولندا) لمكافحة النزعات القومية العلمانية الطابع، محورها العمل لتأجيج الشعور الديني بمسمى “عودة الدين” وتمويل حركات أصولية دينية في العديد من الدول. ونظراً للأهمية الإستراتيجية لمنطقة الشرق الوسط في السياسة الدولية أصبحت تتركّز فيها جهود مكافحة الشيوعية بمساندة بعض الأنظمة العربية وحركات الإسلام السياسي التي عملت لتحويل القومية العربية الى قومية إسلامية، بحيث تمّ تدريب وتسليح آلاف من الشبان العرب لمكافحة الجيش السوفييتي في أفغانستان، متناسين ان أفغانستان ليست ارض عربية وان فلسطين هي الأرض العربية السليبة التي يجب تحريرها من الاستيطان الصهيوني فيها.
القاعدة الثامنة: لا يمكن لتوظيف الدين في السياسة ان ينجح في صياغة قومية متماسكة قابلة لتأمين وحدة المجتمع وقوته
ان استبدال الشعور القومي الطبيعي الناتج عن الوحدة اللغوية والثقافية والعيش المشترك بقومية مبنية اصطناعياً وبشكل محوري على الدين قد أدى دائماً الى الفتن الفتّاكة والضعف والوهن، خاصة لدى الديانات العابرة لقوميات مختلفة مثل الإسلام والمسيحية والى حد بعيد اليهودية. وما ما يؤكد ذلك ما حصل في باكستان ـ وهي دولة مبنية حصرياً على الانتماء الديني من انفصال مقاطعة البنغال عنها في عام 1971 رغم الرابط الديني، اذ أصبح الرابط القومي والثقافي للبنغاليين أقوى من الرابط الديني الذي على أساسه انضمّت المقاطعة الى دولة باكستان التي تكوّنت عبر انفصال دموي للغاية لجزء من الهنود المسلمين عن الهند.
ونرى اليوم نتيجة مثل هذا التوظيف في الدول العربية، اذ نشأت حالة من الحروب الأهلية المدّمرة في العديد من دولنا تأخذ تبريرات مذهبية او دينية وتؤججها بعض الدول الغربية، بالإضافة الى الحكومة التركية لاستمرار هيمنتها على المنطقة العربية. ولنذكّر هنا مجدداً بالفتن المذهبية الكبرى، التي مزّقت الكيانات السياسية العربية الأولى والفتنة بين فرعين من المسيحية الكاثوليك والبروتستنت. ثم اين نجاح الأنظمة السياسية الدينية الطابع في مجتمعاتنا العربية من حيث العدالة الاجتماعية والنهوض الاقتصادي والعلمي والعسكري والحرية الفكرية؟ ذلك دون ذكر تعدد وانتشار الحركات الإرهابية التي تدّعي تطبيق الدين بهذا الشكل الذي يسيء الى الديانة التي يرفعون رايتها والى كل المؤمنين بها.
القاعدة التاسعة: على الفكر العربي ان يوسع أفاقه وقاعدته المعرفية عند تحليل علاقة السلطة بالدين.
لا بدّ هنا من تقديم التحية الى العديد من المفكرّين العرب الذين لم يستسلموا الى ظاهرة عودة الدين الجيوبولوتيكية الطابع وهم وقفوا بشجاعة امام مدّ الإسلام السياسي الراديكالي والمتشدّد الطابع، والبعض منهم دفع ثمناً غالياً بين النفي من بلدهم والاغتيال. كما لا بدّ من ذكر أعمال محمد اركون وعبد الله العروي وناصيف نصار وعبد الإله بلقزيز وزياد الحافظ وياسين الحافظ، وهذا الأخير قد ندّد باكراً عام 1965 بخطر ظهور ماكرثية Maccartisme دينية في العالم العربي، بالإضافة الى نصر حامد ابو زيد ومحمد شحرور وفرج فودة وغيرهم ممن انتقدوا بشدة ظاهرة صعود الإسلام السياسي المعادي لممارسة العقل وحرية الاجتهاد ولفكرة إقامة دولة مدنية.
لذا علينا ان نعمل على إقامة علم سوسيولوجيا عربية للأديان ومقارنتها، وإدراك الفرق بين الإيمان الفردي والعقيدة الدينية الجماعية، وبين الدين كعامل روحي والدين المتأسس سياسياً والمتحالف مع الحكم لمراقبة كل تفاصيل الحياة المجتمعية ولتقييد الحريات الفردية. على ان تُبنى هذه السوسيولوجيا باستقلال فكري عن التيارات والمدارس الغربية، وان تُبنى على عقلنا ومعرفة تاريخنا، وكذلك على الاطلاع على التجارب الحديثة في دول أخرى عانت ايضا من الاستعمار الغربي ولها ديانات مختلفة، وغزيرة التراث والممارسة.
علينا ان نخرج أنفسنا من المعايير الدائمة الوجود في الأذهان، المستوردة من اتجاهات الفكر الأوروبي- الأميركي، لكي ننشر في مجتمعنا ثقافة جديدة بعيداً عن المناقشات العقيمة، خاصة تلك التي تدور دون جدوى حول الجهاد والتكفير وحركات العنف الرافعة للراية الدينية وهي ترهب وتقتل عرب مسلمين بشكل أعمى وكذلك مسلمين من جنسيات أخرى، ومسيحيين كما تقتل الازيديين وتقتل الأكراد وهم من عاشوا بينناً قروناً طويلة دون مثل هذا العنف.
ان العودة الى السلام في ديارنا يتّطلب وقفة جريئة لكي نكفّ عن مناقشة أمور دينية تفصيلية لا تهم المواطن العربي الباحث عن السلام والاستقرار وتحسّن أوضاعه المعيشية السيئة. ان الكلام المتواصل عن الدين الإسلامي بهذا الشكل التكراري والوسواسي هو ما يغذّي الأكاديميات الأوروبية والأميركية التي كانت وسيلة من بين وسائل عديدة لسجن الشعوب العربية والإسلامية في المجادلات الدينية التي لا تنتهي، وبالتالي وضعه في حيّز ديني مقفل، بدلاً من الدخول في حلقة ايجابية وتملّك العلوم والتكنولوجيات وتوطينها والتي بدونها لا خروج من الوهن والتخلف. وهذا ما برهنت عليه تجارب الصين ودول شرق آسيا الأخرى. لذا علينا ان نوجّه أنظارنا نحوها بدلاً من المراوحة في مرجعيات فكرية مشوّهة، أكانت متعلقة بنظرتنا الى التراث ام متعلقة باستيراد مظاهر الحداثة وليس جوهرها، في سعي لا فائدة فيه الى الحفاظ على تراث مشّوه واستغلاله الى أقصى الحدود للبقاء على أساليب حكم لم تؤمّن الى مجتمعاتنا الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة واستقلالنا ضمن عائلة الأمم الأخرى.
القاعدة العاشرة: ضرورة إقامة العلاقة بين الفشل التنموي والوقوع في الإشكاليات الفكرية العقيمة ذات الطابع الانفعالي المدمّر.
ان سيطرة القضايا الدينية على الفكر العربي في العقود الأخيرة هي دليل صارخ على الفشل التنموي والعمراني العام في المجتمعات العربية، وبشكل خاص العجز في تملك العلوم والتكنولوجيا وبالتالي دخول التصنيع وتطوير الخدمات ذات القيمة المضافة العالية. وقد نتج عن هذا الفشل انتشار البطالة في صفوف العنصر الشاب وزيادة إفقار وتهميش فئات واسعة من الشرائح الاجتماعية العربية، وبشكل خاص الفئات الريفية، بالإضافة الى تركّز ثروات كبيرة في أياد قليلة من أهل الحكم ومن يدور في فلكهم. وطالما لن ندخل جدياً في عالم الإنتاج وتملك العلوم والتقنيات، فإن الإقلاع عن مناقشة القضايا الدينية بشكل وسواسي وانفعالي لن يحصل، كما ان جماعات العنف الإرهابي ستستمر في الانتشار مستندة الى الجو الديني المتزمت الذي يهيمن على المجتمعات العربية. وهذا ما يؤدي بدوره الى مزيد من التدخل الخارجي في الشؤون العربية بحجة مكافحة الإرهاب او الدفاع عن حقوق الإنسان، وبالتالي يصبح سيناريو حرب الحضارات وكأنه يتحقق تلقائياً، ويؤدي الى حروب لا نهاية لها تُفقد المجتمعات العربية سنة بعد سنة المزيد من السيادة والاستقرار لمصلحة القوى الخارجية.
” اللقاء الدولي حول المجتمع والسلطة والدين في القرن الواحد والعشرين في المغرب والمشرق“مساهمة د. قرم
طنجة في 30-31 أكتوبر و1 نوفمبر