الضغط لتسوية أزمتيْ سورية واليمن أجدى من التوسّط بين السعودية وإيران: د. عصام نعمان
ما إن اندلعت الأزمة بين السعودية وإيران حتى تبرّعت دول عدّة بالتوسّط بينهما لإنهائها. لعروض الوساطة دافع أساس : اقتناع شبه عمومي في مجتمع الدول بأنّ الأزمة مضرّة بالجميع. ليس أدلّ على ذلك من أنّ دولاً حليفة لأحد الطرفين أو على خصومة معه انتقدت كليهما ودعت إلى ضبط المشاعر والتوترات تمهيداً لإنهاء الأزمة.
إلى هذه الظاهرة، ثمة ظاهرة أخرى أكثر إيجابية. فالمبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دو ميستورا قال بعد لقائه وزير الخارجية السعودي عادل الجبير وممثلي المعارضة السورية في الرياض: «ثمة عزم واضح من الجانب السعودي على ألاّ يكون للتوترات الإقليمية الحالية أيّ تأثير سلبي على القوة الدافعة لعملية جنيف وعلى استمرار العملية السياسية التي تنوي الأمم المتحدة أن
تبدأها في جنيف قريباً، مع مجموعة الاتصال الدولية في شأن سورية».
دو ميستورا لم يصف نتيجةَ اجتماعه مع ممثّلي المعارضة السورية. اكتفى بالتحذير بأنه «لا يمكننا أن نتحمّل نتيجة خسارة هذه القوة الدافعة على الرغم مما يحصل في المنطقة».
ما القوة الدافعة؟
يبدو أنها إرادة على مستوى عالٍ لدى دول كبرى لتسوية أزمتَيْ سورية واليمن قوامها قراران صدرا عن مجلس الأمن الدولي يتعلّقان بكلّ منهما: خطة للحلّ في سورية، وفق ما جرى الاتفاق عليه في مؤتمريْ فيينا وجنيف، وخطة أخرى للتسوية في اليمن، وفق ما جرى الاتفاق عليه في الكواليس بين الدول المعنية بالأزمة. القراران يدعوان الأمم المتحدة إلى رعاية مفاوضات بين الأطراف المتحاربة بإشراف مبعوث أممي خاص لكلّ من البلدين.
ما كانت الدول الكبرى تتوافق على تسوية الأزمتين السورية واليمنية برعاية الأمم المتحدة لولا وجود دافع ضاغط لذلك. الدافع هو تضرّر مجموعة واسعة من الدول من خطر الإرهاب ومفاعيله، لا سيما من تنظيمه الأكبر والأفعل المتمثل في «الدولة الإسلامية داعش».
اقتناع الدول المتضرّرة، كبيرتها وصغيرتها، بأنّ الإرهاب بات أشدّ خطراً على وجودها ومصالحها من أي خطر آخر، محلي أو إقليمي تتذرّع به هذه الدولة أو تلك، دفعها إلى حسم خلافاتها والتباينات بين حلفائها باتجاه تدبير يفضي، عاجلاً أو آجلاً، إلى استئصال الإرهاب أو احتوائه في الأقلّ.
إذا كان هذا هو واقع الحال، دولياً وإقليمياً، فهل التوسّط بين السعودية وإيران في وقت تشكو كلتاهما من خطر الإرهاب على وجودهما ومصالحهما، أولى وأجدى من إنجاح المفاوضات المقرّرة بين إطراف الأزمة في كلّ من سورية واليمن؟
قد يقول قائل إنّ السعودية وإيران تقفان وراء أطراف الأزمة والحرب في سورية واليمن، وإنّ التوفيق بينهما يساعد على تسريع المفاوضات وإنجاحها بين أطرافها المعنية. الواقع أنّ السعودية وإيران ليستا وحدهما مَن يقف، بشكل أو بآخر، وراء أطراف الأزمة والحرب في سورية واليمن، إذ ثمة دولاً كبرى تلعب أدواراً بالغة الفعالية فيهما. هذه الدول تحاورت وتفاهمت على أنّ تسوية هاتين الأزمتين يوفّر عليهما وعلى حلفائهما المحليّين مخاطر وأضراراً جمّة، فكان أن توافقت على مبدأ تسوية الأزمتين سياسياً وأن يتمّ ذلك عبر الأمم المتحدة.
إذا كان الأمر كذلك، فهل من جدوى لتتوسّط دولة كبرى أو أكثر معنية بالأزمتين بين السعودية وإيران، طالما أنّ دولاً كبرى ومتوسطة وصغرى منخرطة في مسألة تسوية الأزمتين سياسياً عبر الأمم المتحدة وتستطيع، تالياً، أن تمارس جهوداً وضغوطاً على جميع الأطراف المتنازعة والمتحاربة لتسريع الوصول إلى تسوية مقبولة منها؟
هذه الحقيقة يدركها قادة الدول التي عرضت وساطتها، كما يعيها قادة السعودية وإيران، فكان أن تصرّف الجميع حيال مسألة الوساطة ببالغ الرصانة، الأمر الذي يشير إلى أنّ عروض الوساطة لا تعدو كونها، بالدرجة الأولى، تعبيرات عن لياقة ولباقة ديبلوماسيتين لتنفيس التوتر بين الرياض وطهران.
الدليل على صوابية هذا التفسير لمسألة الوساطة هو تصريحُ دو ميستورا الأخير وتجاوب عادل الجبير معه، بقوله إنّ التوترات الأخيرة التي أثّرت على المنطقة سلباً لن تؤثر على ما جرى الاتفاق عليه في فيينا أو على مسار الحلّ السياسي الذي تعمل الأمم المتحدة بجانب مجموعة الدعم الدولية على تحقيقه في جنيف قريباً. فقد بات واضحاً أنّ واشنطن، التي انتقدت الافتئات على حقوق الإنسان في السعودية، وإنْ لم تندّد بإعدام الشيخ نمر باقر النمر، قاربت الرياض تكراراً وأشارت عليها بالتجاوب مع مهمة دو ميستورا. كما أنّ روسيا التي لم يرقْ لها الهجوم على السفارة السعودية في طهران أشارت على إيران بعدم تصعيد التوتر مع السعودية لإبقاء مهمة دو ميستورا حيّة، فاستجابت طهران بلا إبطاء.
أياً مَن كان المسؤول عن اندلاع الحروب في سورية والعراق واليمن أو تأجيجها، فقد بات واضحاً أنّ تنظيمات الإرهاب والعنف الأعمى، سواء انطلقت من دوافع ذاتية أو استجابةً لتعليمات مشغّليها، ألحقت بدول المنطقة، وحتى بمشغّليها، من الأضرار ما يفوق ما كان مشغّلوها يأملون بالحصول عليه من مكاسب سياسية أو غير سياسية جراء التعاون معها أو لقاء السكوت عن جرائمها الوحشية ونتائجها المدمّرة للبشر والشجر والحجر.
آن الأوان، إزاء كلّ هذه الكوارث المادية والمعنوية وملايين المهجّرين والمهاجرين في أربع جهات الأرض، أن يعي صانعو الأزمات والويلات والحروب الوحشية، ولا سيما الدول الكبرى، ضرورة أن يصغوا إلى نداءات العقل والقلب والوجدان والإنسانية فيضعوا حداً لهذه المآسي والجرائم والكوارث التي لا توصف.
(البناء)