«الإسلام الجهادي» المتعدّد يحارب ويحترب… د. عصام نعمان
لا غلوّ في القول إنه زمن «الإسلام الجهادي» يظلّل عالم العرب والمسلمين. إسلام قتالي منعوت بـِ»الإرهابي» لاستخدامه العنف الأعمى في تحقيق أغراضٍ دينية وسياسية، وبـِ «التكفيري» لتكفيره الآخر المخالف في الرأي والموقف حتى لو كان مسلماً على مذهب أهل السنّة والجماعة. يُحارب الآخر بكل أشكاله وألوانه، ويحتربُ أطرافه داخله بكل ما تفيض به تعدديته من مذاهب ومشارب وملل ونِحَل.
في حربه كما في احترابه، يتكشّف «الإسلام الجهادي»، الإرهابي التكفيري، بمختلف تياراته وفصائله على امتداد القارة العربية وأطرافها، عن ظواهر ومخاطر وتحديات شتى، لعلّ أهمّها خمسة:
أولاها، تمزّقُ النسيج الاجتماعي داخل البلدان التي احترب فيها وحارب الغير بمختلف هوياته وتلاوينه وساحاته، فازدادت تعددية العرب والمسلمين، العريقة أصلاً، عمقاً واتساعاً وأصبحت أقرب إلى فسيفساء حيّة ومرهقة. ذلك كله أشاع بدوره فوضى عارمة أورثت شللاً محبطاً في المؤسسات والمرافق وميادين الحياة العامة والخاصة.
ثانيتها، الاستحواذ على مناطق وأراضٍ ومواقع حيوية واستراتيجية تزخر بموارد طبيعية كالأنهار والسدود والبحيرات وحقول النفط والغاز ما أدى إلى خلخلة اقتصادات الدول التي مارس فيها حروبه واحتراباته، وتسبّب في نزوح ملايين الأفراد والجماعات داخل تلك الدول أو إلى خارجها.
ثالثتها، قيام فصائل «الإسلام الجهادي»، كما حكومات الدول التي شنّت فيها وعليها حروبها ومارست احتراباتها، بتوفير فرصٍ سائغة لدول كبرى طامعة بالعودة إلى بلدان كانت جيوشها قد جَلَت عنها اضطراراً لا اختياراً. ذلك كله أدى إلى توليد حاجة ماسة إلى الأمن والاستقرار لدى البلدان التي عانت وتعاني حروب «الإسلاميين الجهاديين» واحتراباتهم، كما أدى إلى انتحال الدول الطامعة صفة الدولة الحامية التي لا غنى عن دورها.
رابعتها، تقاطعُ حروب «الإسلاميين الجهاديين» واحتراباتهم مع الدول الكبرى الطامعة ومصالحها في عالم العرب ما أدى إلى تسهيل ترسيم خريطة سياسية جديدة داخل دول «سايكس- بيكو» وعبرها وبالتالي نشوء تحالفات سياسية وأمنية جديدة على أنقاض التحالفات التي نشأت وسادت بعد الحرب العالمية الثانية.
خامستها، احتدامُ حروب «الإسلاميين الجهاديين» واحتراباتهم من جهة وصدامهم المستعر بالغرب الأطلسي من جهة أخرى أديا إلى نشوء وتعزيز ثلاثة محاور في عالم العرب والمسلمين : أولها، يضم الدول الناشئة أصلاً في ظل النظام الدولي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية ومن ضمنـه منظومـة «سايكس- بيكو» المتحالفة مع الغرب الأطلسي. ثانيها، محور «الإسلام الجهادي» المتعدد والمتصادم حيناً مع الغرب عموماً بدوله وثقافته ومصالحه، والمتعاون معه حيناً آخر في صراعه المديد مع كل ما هو سواه وخارج عنه وعليه. ثالثها، محور الممانعة والمقاومة المتصادم مع الولايات المتحدة وحلفائها ولا سيما «إسرائيل» الصهيونية من جهة، كما مع محور «الإسلام الجهادي التكفيري» ولا سيما تنظيماته المتعاونة مع الولايات المتحدة و»إسرائيل» من جهة أخرى.
في حمأة هذا الصراع المتعدد الوجوه والميادين لم تبقَ قضية تحرير فلسطين قضية العرب والمسلمين المركزية إذ نشأت قضايا أخرى، إلى جانبها، تعتبرها دول المحورين الأول والثالث، مرحلياً أو استراتيجياً، قضايا مركزية بامتياز. أبرز هذا الطراز من القضايا اثنتان: البرنامج النووي الإيراني وتداعياته الإقليمية، وتحدي «الإسلام الجهادي التكفيري» بمرتكزه الرئيس المعروف باسم «الدولة الإسلامية» والتنظيمات التي ذهبت مذهبه وبايعت «الخليفة» أبا بكر البغدادي في مختلف ديار العرب والمسلمين.
البرنامج النووي الإيراني وتداعياته هو القضية المركزية الأولى بالنسبة لدول المحور الأول بالإضافة إلى الولايات المتحدة و»إسرائيل». ومن الواضح أن معالجتها في مختلف المفاوضات التي أجريت وستجرى بين مجموعة دول 5+1 الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن + ألمانيا وإيران تأثرت وتتأثر بقضايا وتحديات أخرى ذات طابع إقليمي كالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والصراع في سورية وعليها، والصراع في العراق وعليه، ومشروعات إنتاج النفط والغاز وخطوط نقلهما العابرة لبلاد الشام وبلاد الرافدين. إلى ذلك، تتهم طهران واشنطن بأنها حاولت وتحاول الضغط عسكرياً على حلفائها في محور الممانعة والمقاومة من أجل حملها على تليين شروطها للتوصل إلى اتفاق نهائي حول برنامجها النووي يستجيب مصالح الولايات المتحدة وحلفائها.
تحدي «الإسلام الجهادي التكفيري»، المتمثل بتنظيم «الدولة الإسلامية» «داعش» المسيطر على معظم المحافظات السنيّة في غرب العراق ومعظم المحافظات السنيّة في شرق سورية، أصبح قضية مركزية لدول المحورين الأول والثالث كما للولايات المتحدة. في إطار التصدي لمفاعيل هذا التحدي المتفاقم وتداعياته، أقامت الولايات المتحدة بالاشتراك مع دول المحور الأول «التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب» وباشرت حملة قصف جوّي على مواقعه في العراق وسورية. غير أن سورية وإيران اتهمتا الولايات المتحدة بأنها كانت وما زالت، بالتفاهم مع تركيا والسعودية، تدعم «الدولة الإسلامية» بالمال والسلاح وتسهيل انتقال الإسلاميين المتطرفين عبر حدود تركيا، إلى بلاد الشام وبلاد الرافدين. وإزاء تعاظم قدرات تنظيم «داعش» وتوسيع سيطرته في ذينك البلدين، عدّلت واشنطن مقاربتها السياسية والعسكرية للخطر الداهم بتركيز ضرباتها الجوية على مواقع «داعش» وأخواته بوتيرة متصاعدة.
يتحصّل من مجمل السيناريوات الجارية في المشهد الإقليمي أن الصراعات بين المحاور الثلاثة وداخل الدول التي تتشكل منها ناشطة ومحتدمة وليس ثمة ما يشير إلى أنها مرشحة للانحسار في المستقبل القريب. بالعكس، تؤشر النتائج التي انتهت إليها مفاوضات فيينا أخيراً بين مجموعة دول 5+1 وإيران إلى أن ما تريده الدول النافذة في المحاور الثلاثة أو أقصى ما تستطيعه في ظروف الصراعات الراهنة هو هدنة موقتة في الصراع المحتدم لا تحول دون استمرار الحرب الناعمة الدائرة بلا هوادة بين أطرافه بقصد تعزيز مراكزهم التفاوضية.
(البناء)