مقالات مختارة

في تقويم مسار الانتفاضة.. منير شفيق

 

كثيرون يريدون الانتفاضة، ويرغبون في دعمها، ولكنهم قلقون عليها وعلى مستقبلها. أما سبب القلق فعدم وقوف سلطة رام الله، ولا سيما، قيادة فتح مع الانتفاضة. بل عدم الانخراط فيها كلياً واعتبارها طريقاً لتحقيق النصر على الاحتلال والاستيطان

.

وهنالك بعض من داخل الفصائل الداعمة للانتفاضة قلق عليها وعلى مستقبلها كذلك. وهو يشارك الأوّلين سبب قلقهم نتيجة موقف قيادة فتح ولكنه يحمل في داخله سبباً آخر، وهو عدم الثقة بقدرة الانتفاضة إذا ما أصبحت شاملة على تحقيق الانتصار. فهو لا يستطيع أن يتصوّر نتنياهو مهزوماً إلى حدّ يفرض عليه الانسحاب، ولو إلى خلف الجدار، فكيف من القدس وكل الضفة الغربية.

ومع هذين القلقين ثمة خوف من أن تكون الانتفاضة أخذت تضعف أو بدأت تخبو في الأسبوع الأخير.

أولاً: معالجة القلقين الأوليْن هو الأصعب لأن ليس من السهل إقناع أصحابهما بأن وضع محمود عباس مهتز وضعيف، بالرغم من سعيه لوقف الانتفاضة، ودفعه للأجهزة الأمنية لعرقلة الانتفاضة واعتقال من تستطيع اعتقالهم أو منعهم بلا ضجيج، ما أمكن. ومن ثم يصعب إقناعهم بأن قيادة فتح قد تجد نفسها مضطرة للانخراط في الانتفاضة في حالة حدوث تطوّرات تفرض عليها ذلك، أو إمكان الفرض عليها من خلال نزول الجماهير إلى الشوارع وتصاعد المواجهات وتفاقم ارتكاب نتنياهو المزيد من الجرائم والقتل المتعمّد.

ولكن هذه الصعوبة قد تذلّل إذا ما تصاعدت الانتفاضة، وربما حدثت تطوّرات تجعل الكيل يفيض على الاستمرار في موقفهم المُرتبِك الذي سيصبح مُداناً إذا ما ضُرِبَت الانتفاضة، لا سمح الله، من خلال تعاون بين جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية الفلسطينية، وإن كان ضرب الانتفاضة كما أثبتت الوقائع حتى الآن بأنه فاشل. فالانتفاضة مستمرة وسوف تستمر وتتصاعد وتصبح شاملة.

والغريب هنا أن قيادة فتح تحت الدور السلبي الذي يلعبه محمود عباس تنهج موقفاً مُناقضاً لمصالحها ولا تملك سبباً مقنعاً واحداً. فإستراتيجية التفاوض والتسوية ونهج اتفاق أوسلو قد فشلت. ولا يستطيع أحد أن يكون إلى جانبها أو يدافع عنها حتى لو قرر الانتحار السياسي. أما محاولة هروب محمود عباس إلى المؤسسات الدولية فأثبتت عدم جدواها وفشلها الذريع كذلك، وإن كان محمود عباس ما زال متمسكاً بها ولو كمحاولة أخيرة هروباً من الانتفاضة هذه المرّة.

ولهذا فإن قيادة تسير عكس مصالح حركتها وشعبها. وتصّر على السياسة الفاشلة يجب أن يُتوَقع منها، ويُضغط عليها لتصحو، وتُغّير، ما دامت الانتفاضة مستمرة والشعب بأغلبيته يؤيدها. ومن ثم يصبح الوقوف في هذا البرزخ انتحاراً.

ثانياً: الذين هم قلقون بسبب سوء تقديرهم للموقف. وذلك من خلال اعتقادهم بأن الكيان الصهيوني قوّي كما كان في السابق، وبأن حماته في أميركا وأوروبا ما زالوا أقوياء ومسيطرين كما كانوا في السابق، فهم لم يلحظوا أن الجيش الذي يواجه الانتفاضة الحالية مهزوم في أربع حروب، وحكومة نتنياهو معزولة حتى في علاقاتها الأميركية والأوروبية، وثمة رأي عام غربي كبير فقده الكيان الصهيوني.

وكان من أقوى داعميه. كما لم يلحظوا بأن أميركا وأوروبا فقدتا ما كانتا تتمتعان به من سيطرة عالمية وقوة تأثير عالمي. ولهذا فإن ثمة فرصة سانحة لإنزال الهزيمة بنتنياهو من خلال الانتفاضة الثالثة. وذلك إذا ما استمرت وتصاعدت وتحوّلت إلى انتفاضة شاملة تجعل خسائره من الانسحاب وتفكيك المستوطنات من الضفة الغربية والقدس أقل من خسائره في المحافظة على الاحتلال والاستيطان ومواجهة الانتفاضة.

إذا ما أُدرِكت هذه المعادلة التي تميّز هذه الانتفاضة عن الانتفاضتين السابقتين، وإذا ما انتشر وعي راسخ وروح تصميم لا تنهزم، وتم الانخراط في الانتفاضة بالكلية وبأوسع نطاق، وحلّ الاندفاع والتفاؤل مكان التردّد والشكوك والقلق، فإن من الممكن لهذه الانتفاضة أن تتحول إلى انتفاضة انتصار وتحرير.

ثالثاً: أما القلق النابع من الخوف من أن تكون الانتفاضة أخذت تضعف أو بدأت تخبو، وذلك حين يمر يوم أو يومان أو ثلاثة ولا يسمع عن حادث طعن أو دهس، أو استشهاد، فإنه قلق نابع من عدم الإدراك بأن طريق الانتفاضة التي تدوم شهوراً وسنيناً يمر عبر طريق متعرج يشهد صعوداً ثم هبوطاً ثم صعوداً. ولكن خطه العام يكون إلى صعود. وهو ما تتسّم به هذه الانتفاضة خلال الثلاثة والسبعين يوماً الماضية (كتبت هذه المقالة في ليلة 12/12/2015).

والأهم يجب أن نراجع عدداً من الوقائع والأرقام في ما يتعلق بدخول الانتفاضة حتى الليلة في 12/12/2015 شهرها الثالث أو بالتحديد 73 يوماً (وفقاً لإحصاءات قناة القدس).

لقد بلغ عدد عمليات الطعن 65، وعمليات إطلاق نار 63، وعمليات دهس 16، ووصل عدد المعتقلين إلى 2582 معتقلاً من القدس وضواحيها والضفة الغربية، وقد توّزعوا: 1657 من الداخل والقدس، منطقة رام الله 279، الخليل والقضاء 646. أما الشهداء فقد بلغ 121 شهيداً موزعين كالتالي: القدس 26، قطاع غزة 19، رام الله 13، بيت لحم 6 وطولكرم 2، وجنين 7، ونابلس 6 وقلقيلية 1 وبئر السبع 1، أما الخليل فـ41، وهؤلاء يشملون كل مدينة وقضائها.

أما الصورة التي لا تقل أهمية ودلالة فهي عدد الجرحى أو الإصابات، وقد بلغ 14297. وقد توّزعوا على كل مدينة وقضائها كالتالي: قطاع غزة 1223، القدس 1599، رام الله 2824، الخليل 1777، قلقيلية 3354، بيت لحم 1573، أريحا 230، طولكرم 1137، جنين 272، سلفيت 40.

إن الأرقام التي تتعلق بالإصابات هنا تتضمن في كثير منها إصابات طفيفة. ولكنها تعتبر إصابات حتى لو كانت سريعة التداوي. وهي تذكر لا لتضخيم العدد بحد ذاته وإنما لتدل بمجموعها على مدى ما يحدث من مواجهات مع قوات الاحتلال والمستوطنين، وفي أغلب المدن والقرى والمخيمات في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس.

ومن ثم فإن أهم ما يجب استحضاره هو الهوّة ما بين ما يحدث من مواجهات في الانتفاضة وما يعكسه الإعلام من تلك المواجهات حيث التركيز على حالات الطعن والدهس وإطلاق النار والاستشهاد، فيما لا يُبرز الإعلام الاعتقالات والإصابات التي هي نتاج المواجهات في المئات من نقاط التماس. الأمر الذي يغطي أغلب المدن والقرى والمخيمات، ويومياً، وعلى أوسع نطاق. مما يؤكد أننا إزاء انتفاضة بكل ما تحمل من معنى وتوازي وتزيد عما كان يحدث في الانتفاضتين السابقتين في أشهرهما الأولى. فالكم المتعلق بالإصابات مهما كانت طفيفة عظيم الدلالة.

ولهذا يخطئ من يحكم على الانتفاضة وفقاً لما ينقله الإعلام من حالات الطعن والدهس والاستشهاد فقط لأن ما لا ينقله من مواجهات أخرى يسقط فيها المئات من الجرحى يومياً ويُصار إلى اعتقال العشرات لا يقل أهمية ودلالة في تقويم الانتفاضة المستمرة المتصاعدة. ولهذا فإن القلق هنا ليس له من تسويغ سوى الجهل بكل ما يجري من مواجهات انتفاضية بسبب قصور الإعلام.

وبكلمة، إننا أمام انتفاضة تشقُ طريقها بقوة ولا تحتاج إلاّ إلى المزيد من المشاركة و”الوقود”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى