عن هاتف آخر الليل: أبحث عن ضابط تعهّد بموتي سجيناً ابراهيم الأمين
أواخر تسعينيات القرن الماضي، نجح الأسرى العرب في سجون العدو، داخل فلسطين، في إدخال الهاتف الخلوي الى الزنازين. طرق عدة سمحت بتهريب الهواتف. استلزم الأمر إدارة السجون شهوراً عدة قبل أن تعثر على بعض الاجهزة. كان عامل الصدفة خلال عمليات التفتيش أساسياً. لم يكن العدو يعرف بوجود الهواتف من خلال عمليات تنصّت أو تعقّب تقني. ربما صار الامر متاحاً، لكن بعد سنوات.
سمير كان واحداً من الاسرى الذين خبروا السجون والشرطة العاملة فيها. لم يوفّر طريقة إلا استخدمها حتى أمّن هاتفه الخاص، وسمّاعات تسهل له الاختباء تحت الغطاء والتحدث براحة. خارج السجن، توفّر له من يسدّد الفواتير ويؤمّن ديمومة الخدمة. في حالات كثيرة، كانت لائحة من يتصل بهم محدودة بأقارب وأصدقاء، أو بمن يساعد على فهم ما يجري في الخارج. لكن سمير، أكثر من غيره، كان له برنامج عمل شبه يومي مع الهاتف.
كيف سنخرج من السجن؟
سؤال بديهي بات على لسان سمير وآخرين من شباب المعتقلات. تعزّز الامر بعد عام 2000، حين تمكّن حزب الله من أسر ضابط وثلاثة جنود للعدو؛ الاول في عملية أمنية أبقته حياً، والثلاثة في عملية عسكرية أدت الى مقتلهم. آلية التفاوض التي طالت كانت محل متابعة من المعتقلين. وكان سمير واحداً ممن يطلعون على كثير من التفاصيل، بعضها يمكن وصفه بالرسمي، من خلال قناة الاتصال التي كانت مفتوحة معه، من حارة حريك.
في تلك الفترة، تعرّفت إلى سمير عبر الهاتف. صار لدينا موعد شبه يومي للتحادث ليلاً. كلام في أمور كثيرة، لكن أساسها رغبته في معرفة كل تفصيل يتعلق بمفاوضات تبادل الاسرى. كان كثير الشكوك في أن تقبل إسرائيل ضمّه الى لائحة المفرج عنهم. وربما كان الاكثر خبرة في معرفة أولويات العدو من جهة، والاولويات التي تتحكم في المقاومين الذين يفاوضون. لم يكن يفترض، لحظة، أن على قيادة المقاومة أن تضعه على رأس القائمة. ولم يكن ليفترض أن المفاوضات يمكن أن تتوقف إذا رفض العدو إطلاقه. كان يشعر دائماً بالفرصة المتاحة أمام معتقلين آخرين، يمكن أن يتحرروا من خلال صفقة جيدة. لكنه كان كثير الامل، فقط، لأنه كان يعرف، جيداً، أن حريته لن تكون إلا من خلال صفقة يخضع لها العدو. وعندما عاد الوسيط الالماني نهاية عام 2003 بالمحصلة التي لا يرد اسم سمير فيها، لم تعلّق قيادة المقاومة على ما ينشر، بينما كان العدو يحرص على إبراز رفضه شمول سمير بالصفقة. وحتى عندما تم الاتفاق، وعلم سمير بالمحصلة، كان يهتم بمعرفة ما إذا كانت المقاومة تخلت عنه مقابل شيء آخر، أم أن الامر يتعلق، حصراً، بالثمن الاخير.
قبل إنجاز عملية التبادل في عام 2004، كان سمير يشاركني، من سجنه، إعداد وثائقي عن عمليتي الأسر والتبادل، وكنا معاً نتصرف على أساس أنه سيكون ضمن الصفقة. وبناءً عليه، جاءت فكرة أن يكون ضمن الفيلم، صوتاً في جانب، وصوتاً وصورة بعد خروجه. واتفقنا على تسجيل مقابلة معه عبر الهاتف. ورتّبنا الاستديو، وكان الهدف أن يقول كلاماً متنوّعاً، فيه إيجاز لمراحل الأسر، وفيه أيضاً فهمه لسلوك العدو في مواجهة عمليات الأسر. كانت المشكلة في إعادة التسجيل أكثر من مرة، حتى اقتنع معي بأنني أريد معه حديثاً عادياً، وليس مقابلة فيها موقف يخرج على شكل خطاب.
لم يكن سمير ليخرج من حالة الإحباط التي عاشها شهوراً طويلة إلا عندما سمع عن قرب «انتهاء فترة السماح» التي أعطتها المقاومة للوسيط الالماني، بغية توفير «حلول إبداعية»، وهو الامر الذي لم يتأخر حتى حصل. قبل نهاية عام 2005، كان سمير يسترق السمع، كل لحظة، منتظراً خبراً عن عملية أسر جديدة للمقاومة. وفي محادثات كثيرة، تلت تلك الفترة، تصرّف على أساس أن موعد حريته قد اقترب. وقد أتيح له التعرف، ولو عن بعد أو بالإيحاء، الى جهود تبذلها المقاومة ليل نهار لتنفيذ عملية أسر «نظيفة» تستهدف تحقيق حريته، مع آخرين من رفاقه الفلسطينيين والعرب. وكان قائد المقاومة يحرص على رفع سقف الاستعداد لليوم المحتوم، الى أن أطلق، في ربيع عام 2006، موقفاً وعد فيه بتحقيق حرية سمير في موعد قريب جداً.
في تلك الليلة، كان سمير يريد قراءة كلام السيد حسن، مراراً وتكراراً. وإلحاحه على معرفة سبب الجزم، يجعله في لحظات كثيرة يعتقد أن الامور مفتوحة للنقاش، الى أن حصلت عملية الوعد الصادق في 12 تموز. قبلها، بفترة قصيرة، سألني عن تقديري للموقف. قلت له ما كنت أكتبه في «السفير» بأن قيادة المقاومة حسمت أمرها في تنفيذ عملية أسر جديدة. وكنت، مثل كثيرين، ننتظر بياناً عاجلاً يعلن حصول العملية. كانت القصة مسألة وقت فقط. وهو ما كررته لسمير مرات ومرات، رغم أنه، في مرات كثيرة، كان يفسر بعض التحليلات أو المناقشات بطريقة غير واقعية، الى درجة أنه عندما روى للزميل حسان الزين قصته، قال له إنني أوحيت له، خلال ذلك الاتصال، بأن عملية أسر على وشك التنفيذ. لم يكن الامر صحيحاً، علماً بأنني لم أكن لأزعل لو علمت بالعملية قبل حصولها.
خلال عدوان تموز، كانت اتصالات سمير تركز على التيقّن من قدرة المقاومة على الصمود والانتصار. وبعد مرور أشهر، صار سمير أقرب، بأكثر مما كنت أعتقد، الى عقل المقاومة. لم تعد ثقته بالمقاومة تقتصر على فعلها، وصدق وعودها. صرت أشعر، بل اكتشفت، أنه دخل مرحلة البحث في خلفيتها الفكرية، الى أن فاجأني ذات ليلة، بسؤالي: ترى، كيف سيكون ردّ الفعل إن أعلنت من سجني أنني قررت اعتناق المذهب الشيعي؟
لم أكن يومها أشعر بأن للأمر أهمية. وأصلاً لم أعرف ما الذي يدفع بسمير الى نقاش من هذا النوع. لكنني، وفي كل مرة، كنت أدعوه الى التريّث، وانتظار خروجه من السجن، وكنت ألفت انتباهه الى أن المفاوضات تكون شاقة، وأن المقاومة صاحبة مصلحة في جعل العدو يدفع الثمن مضاعفاً بعد ارتكابه جريمة تموز. صحيح، ومنطقي، أن سمير كان يرغب في الخروج سريعاً، لكنه صار يتصرف براحة أكبر داخل السجن. وفي كل مرة كان الاتصال ينقطع أو يختفي صوته، كان يعود ليعتذر لأن حارساً مرّ قرب الزنزانة. وفي إحدى المرات، قال لي إن الحارس قريب، ولكن، «لا يهم. ليسمع. ما الذي سيفعله؟». صار في تلك الفترة يتصرف وكأنه بات خارج السجن، بينما كان همّ آخرين أن يخرج، ويترك الهاتف بحوزة رفاق له لا يزالون الى يومنا هذا في الاسر.
عندما حانت اللحظة، كان سؤالي عن الرغبة الأخيرة له في فلسطين. أذكر جيداً كيف سارع الى قول ما يمكن اعتباره «انتقاماً موضعياً» من السجّان. قال لي إنه صار يتخيّل، طوال الوقت، كيف سيلتقي بأحد الضباط الصهاينة الذي قال له يوماً: لن تخرج من هنا إلا الى القبر. كان مطلب سمير يومها أن يحصل فقط على فرصة النظر باستهزاء الى وجه هذا الضابط.
لم يكن أحد من عارفيه، في السجن وبعده، ليستغرب استشهاده في مواجهة العدو نفسه. كان سمير يتصرّف كمن اشترى عمراً جديداً، فقط لكي يمضيه مواجهاً للاحتلال!
(الأخبار)