اميركا: قلق وانقسام وتصعيد في استهداف المسلمين د.منذر سليمان
اردوغان محاصر بالمكابرة وبعزيمة بوتين
حادث الاعتداء يستنهض الاحقاد العنصرية
لم تتضح بعد ملابسات ودوافع واهداف الهجوم المروع على مبنى هيئة مدنية للرعاية الاجتماعية في مدينة سان بيرناردينو بولاية كاليفورنيا، استخدمت فيه اسلحة من الطراز العسكري، وفق المعلومات الرسمية. الثابت انها ضخت دماء جديدة في الخطاب العنصري المتجذر اصلا في المجتمع الاميركي، وجدد عدوانيته منذ هجمات نيويورك عام 2001؛ في الماضي القريب ضد السود من اصول افريقية، ومن ثم ضد اللاجئين والناجين من الحروب الاميركية في اميركا اللاتينية، والآن ادمج العرب والمسلمون واقرانهم بالارهاب في احدث واشمل حملة اقصاء وتشويه.
بعض المسؤولين الرسميين، والتشديد على كلمة “بعض،” اعربوا عن استيائهم ورفضهم للتصريحات العنصرية المتسارعة على لسان عدد من المرشحين للانتخابات الرئاسية؛ وحذر الرئيس اوباما ومسؤوليه في الاجهزة القضائية والأمنية المعنيين من التمادي في الخطاب المناهض للمسلمين والديانة الاسلامية ونزعات التعميم الضارة.
بالمقابل، تصدر ابرز مرشحي الحزب الجمهوري، دونالد ترمب، كافة المواقع والوسائل الاعلامية بمطالبته الحكومة الاميركية “فرض حظر فوري على سفر وهجرة المسلمين للاراضي الاميركية،” فور حادث الهجوم، ومكررا مطلبه السابق باعداد قوائم وبيانات تخص المسلمين المقيمين في اميركا تمهيدا لاحتجازهم وترحيلهم، اسوة بمطالبته الدائمة بالمثل ضد المهاجرين واللاجئين القادمين من دول اميركا اللاتينية.
مسؤولو الأمن المحليين، في المدن والارياف الاميركية المتعددة، حثوا مواطنيهم على التسلح واشهار الاسلحة الفردية في الاماكن العامة، مما ادى الى ارتفاع حاد في مبيعات الاسلحة الفردية في عموم الولايات الاميركية.
فيما يخص تصريحات ترمب وما ناله من تحقير واشهار احجم منافسوه، في السباق الرئاسي عن الحزب الجمهوري، عن المطالبة باقصائه عن الحملة الانتخابية، واكتفوا ببضع تصريحات بعضها عالي النبرة والحدة، مثل ليندسي غراهام الذي طالبه بالذهاب الى الجحيم، والمماطلة في اتخاذ مواقف اشد وضوحا ضد التعبيرات العنصرية.
لعل الظاهرة الأهم الناجمة مباشرة عن لغة التحشيد ورفض الآخر انتعاش اعداد المواطنين الاميركيين المؤيدين “بقوة” لخطاب ترمب ومقترحاته باقصاء المسلمين. اذ اشارت استطلاعات متعددة للرأي ثبات نسبة مؤيديه بين صفوف الحزب الجمهوري، بل ارتفعت الى نسبة 37%. في احدث استطلاع اجري في ولاية كاليفورنيا مطلع الاسبوع، اعربت الاغلبية عن تأييدها ترمب بنسبة 52% مقابل 48% يعارضونه. ترمب ينتشي ويزهو بين صفوف الناخبين في طول وعرض الولايات المتحدة، ويستنهض الكامن من مشاعر الحقد والكراهية ويفرضها على الخطاب السياسي العام.
العنصر اللافت والهام في الاستطلاع المذكور ان ولاية كاليفورنيا تعد من ابرز الولايات اعتدالا وسوية، وعادة تعطي اصواتها لمرشح الحزب الديموقراطي. وربما اسهم مكان الحادثة باحدى مدنها في تأجيج مشاعر العامة. عند احتساب مشاعر الريبة والخوف بين صفوف الاقليات، ترتفع نسبة تأييد ترمب الى 59% مقابل 43% يعتبرون الديانة الاسلامية تحرض على العنف.
اشار استبيان اجرته وكالة (أ ب) للانباء مؤخرا الى ارتفاع مشاعر الكراهية ضد عموم المهاجرين من منطقة الشرق الاوسط، وفق التصنيفات المعتمدة، وذلك قبل تصريحات ترمب. اذ اعرب نحو 54% من الاميركيين المستطلعة اراؤهم عن ضيق ذرعهم من سياسة الحكومة الاميركية “استقبال اعداد متزايدة من مواطني منطقة ساخنة.” النسبة ارتفعت الى نحو70% بين صفوف مناصري الحزب الجمهوري؛ ونحو 30% من مؤيدي الحزب الديموقراطي. الأمر الذي استدعى النائب العام الاميركي لوريتا لينش الى التحذير من “ارتفاع مقلق جدا في الخطاب المعادي للمسلمين.”
وقصدت لينش تهدئة وطمأنة “الجالية الاسلامية” في حفل عشاء استضافه بعض الوجوه الاسلامية البارزة مشددة على ان “رسالتنا ليست موجهة للجالية الاسلامية فحسب، بل لكافة صفوف الشعب الاميركي بأنه لا ينبغي علينا الاستسلام والاذعان لمشاعر الفزع والذعر” الناجمة عن اعمال العنف. وطمأنت الحضور بثبات التزام الحكومة الاميركية بحقوق الافراد ممارسة شعائرهم ومعتقداتهم الدينية، كما نصت عليه مادة التعديل الاولى من الدستور الاميركي، وان ما يجري من ممارسات وتصريحات اقصائية “لا يمثل القيم الاميركية.”
ترمب يحرض على الفتنة
المفردات في خطاب ترمب تثير الاضطرابات وتمهد للفتنة والانقسام، وهو ما يجمع عليه معظم المراقبين. اما ما يدور في خلد المرشح ترمب فان تصريحاته ربما كانت مبررة لخدمة حملته الانتخابية؛ ووجد احد تعبيراته المؤيدة في بروز اليمين المتشدد في فرنسا تحديدا تتويجا لمناخ التحشيد ضد المهاجرين والاسلاميين.
ترمب دافع بجرأة قاربت الوقاحة عن افكاره الاقصائية بالاستناد الى اجراءات “مماثلة” اقدم عليها عدد من الرؤساء الاميركيين ابان احتدام الصراعات الدولية، وعقد مقارنة بين موقفه وموقف الرئيس فرانكلين روزفلت خلال الحرب العالمية الثانية والذي فتح معسكرات الاعتقال للمواطنين الاميركيين من اصول يابانية وآخرين من اصول المانية وايطالية.
تجدر الاشارة عند هذا المنعطف الى اجراء مماثل “اضطر” الرئيس الاسبق جيمي كارتر لاتخاذه عقب احتجاز الرهائن من الديبلوماسيين الاميركيين في طهران، منع بموجبه دخول اي فرد من اصول ايرانية للولايات المتحدة الا اذا ثبت معارضته لنظام الخميني آنذاك او لضرورات انسانية قصوى بهدف العلاج الطبي.
تظاهر ترمب بالتراجع بعض الشيء عن سوء تصريحاته بالقول لشبكة (سي ان ان) للتلفزة ان سياسته المقترحة هي “لمعالجة اوضاع مؤقتة تستمر لحين توصل ممثلي البلاد لحل على ما نحن عليه من جحيم،” محذرا ان اخفاق التوصل لحلول مُرضية سيكون ثمنه “مزيد من الهجمات المماثلة لابراج التجارة العالمية (2001) – عدد كبير من الهجمات ربما تتفوق بشاعتها على هول برج التجارة العالمي.”
من الضروري الاشارة الى ان نسبة شعبية ترمب شهدت تراجعا بعض الشيء في الآونة الاخيرة، وما قبل حادثة كاليفورنيا، وشهد ارتفاعا مضطردا في نسبة مؤيديه منذئذ. واستطاع استقطاب كافة الوسائل الاعلامية، الرئيسة والهامشية على السواء، مجانا وفرت له فرصة لمخاطبة قطاعات واسعة من مؤيديه ومريديه والذين يميلون بالفطرة لانتهاج وسائل وردود فعل متشددة.
انصافا للحزب الجمهوري، برزت بعض الاصوات المعارضة لتوجهات ترمب، أهمها جاء في طيات النشرة الاسبوعية “ذي ناشيونال ريفيو،” التي سخرت من فكرة ان “ترمب هو احد فرسان الدفاع عن الحريات المدنية (تستحق) الاستهزاء والضحك،” وتذكير قرائها ومؤيديها بتصريحات ترمب التي وعد فيها “باسدال الستار عن بعض اجزاء شبكة الانترنت ..” وما يشكله من تقويض لحرية الفكر والتعبير.
استطاع ترمب بخطابه ومفرداته المباشرة البعيدة عن الكياسة الديبلوماسية استغلال مخاوف العامة وخشية السياسيين من تفاقم فشل سياسة الرئيس اوباما، بعضهم من الحزب الديموقراطي، والنفخ باتجاه ارسال مزيد من القوات العسكرية الاميركية للقتال مباشرة في سوريا. اذ اشار استطلاع حديث لشبكة (سي ان ان) بأن 53% من الاميركيين يؤيدون الانخراط العسكري في سوريا، بينما اوضح الاستطلاع ان نحو 68% من الاميركيين يعارضون سياسة الرئيس اوباما في مكافحة الارهاب واعتبروها “ليست عدوانية بما فيه الكفاية.”
ترمب في نظر المعجبين والمؤيدين والصامتين يعبر عن طموحاتهم ومشاعرهم لسياسة الولايات المتحدة وينفرد بين كافة اقرانه ومنافسيه ببلورة معالم السياسة المرجوة. فضلا عن ذلك، فانه لا يكف عن استغلال الاحقاد الدفينة بأن القتال والحروب يجب ان تخاض بعيدا عن الاراضي الاميركية. الاميركيون بشكل عام يضعون ثقتهم بالسياسة التي يروج لها ترمب في هذا الصدد، ولا يضيرهم تكثيف الجهود والموارد العسكرية لخوض القتال في سوريا والعراق شريطة ان لا يطال الشارع الاميركي نصيب منها.
تقنين السلاح الفردي مسألة خلافية
استعاد الصراع ذروته للحد من انتشار الاسلحة بين القوى الليبرالية والاجتماعية المهمشة، من جهة، والشركات والمصالح الاقتصادية الكبرى، لا سيما صناعة الاسلحة، من جهة اخرى، متدثرة بعباءة الدستور ومادة تعديله الثانية التي تتيح للافراد اقتناء السلاح الفردي للدفاع عن النفس.
لجأت القوى الاجتماعية الصاعدة والمعادية للحروب الاميركية في فيتنام، ابان عقد الستينيات من القرن المنصرم، الى اقتناء السلاح “المسموح به دستوريا” للدفاع عن النفس وضد تغول الاجهزة الأمنية والشرطة تحديدا التي لا تزال تضطهد وتقتحم الاحياء الشعبية والمهمشة اقتصاديا، بحجة الأمن.
استشرى القلق آنذاك في اعماق المؤسسة الاميركية الحاكمة، افقيا وعموديا، لامكانية استخدام السلاح “المرخص” لاجل تعزيز مواقع القوى التقدمية بشكل اساسي، وخشيتها من تحييد غلو وسطوة الاجهزة الأمنية الرسمية، وشنت حملات قتل واغتيالات منظمة ضد الشخصيات والرموز الواعدة، ابرزها مالكولم اكس والقس مارتن لوثر كينغ. من لم تستطع قتله في وضح النهار لفقت له التهم واودعته المعتقلات ليجري اغتياله هناك بعيدا عن انظار الاعلام، كما حدث مع الشاب فرد هامبتون، احد زعماء منظمة “الفهود السود.” وفشلت جهودها في الابقاء على الناشطة السوداء وعضو الحزب الشيوعي الاميركي، انجيلا ديفيس، خلف القضبان.
الصراع في اللحظة الراهنة يدور بين صفوف ذات القوى المتنفذة في المؤسسة الحاكمة، والتي تجهد لابعاد مصطلح “الارهاب” عن اي عمل معادي مصدره عنصر “ابيض.” ليس مستساغا في الحقبة الزمنية الراهنة استخدام تعابير اليمين واليسار ضمن تيارات وتوجهات المؤسسة الحاكمة، وهي مسألة بحاجة لدراسة شاملة بمفردها، لكننا نضعها في سياق اصطفافات راهنة بين مصالح متشابهة تتصارع فيما بينها للفوز بحصة الاسد، ماديا وشعبيا.
في ذلك الزمن الواعد من النضال الاجتماعي ابان الحرب الفيتنامية، اعدت الاجهزة الامنية، لا سيما مكتب التحقيقات الفيدرالي، قوائم بالمعارضين السياسيين وشددت الرقابة عليهم وتتبعت تحركاتهم ونشاطاتهم بدقة وكثافة، ووفرت الفرص لاغتيال البعض منهم (مالكولم اكس ومارتن لوثر كينغ.) الثابت ان المؤسسة الحالية لم ترعوي من تلك التجارب المؤلمة في التاريخ القريب، وما افرزته من تشققات اجتماعية واقتصادية واسعة، وعمقت الهوة بين شريحة الميسورين والطبقة الوسطى المتحالفة مع شريحة المهمشين.
يبرز راهنا الخطاب الاقصائي وتتعالى المطالب الرسمية “بتحديث” قوائم وبيانات الافراد والشخصيات الخاضعين للمراقبة والمدرجين على لائحة “الممنوعين من السفر” بالطائرة، داخليا وخارجيا.
احدث تجليات عودة الخطاب الاقصائي جاءت على لسان الرئيس اوباما نفسه في خطابه الموجه للأمة مطلع الاسبوع مطالبا السلطة التشريعية، بمجلسيها في الكونغرس، استصدار قرار جديد يحرم كل من هو مدرج على لائحة الممنوعين من السفر من شراء الاسلحة الفردية. التدقيق فيما هو متوفر من معلومات بالاسماء المدرجة على القائمة التي تزادا طولا وكثافة، منذ الشروع بها في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، تثير السخرية والغضب في آن واحد. بعض ممن ادرجت اسماؤهم كانوا اعضاء في مجلس الشيوخ الاميركي ومن معارضي سياسات الرئيس بوش، مثل السيناتور ادوارد كنيدي. ومن باب السخرية ايضا ضمت القائمة اطفالا رضع لم يصلب عودها ولا تتعدى اعمارهم بضعة أشهر.
الرئيس الاسبق ريتشارد نيكسون ايضا احتفظ بقائمة طويلة لخصومه السياسيين والاعلاميين وقام بمعاقبتهم باقصائهم عن نشاطات البيت الابيض ومنها مؤتمراته الصحافية.
مكتب التحقيقات الفيدرالي هو الهئية الرسمية المعنية باجراءات التحقق من سوية صاحب الطلب واهليته لاقتناء السلاح. وسجل الجهاز ازديادا هائل على طلبات اقتناء السلاح فاقت المليونين لشهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي وحده، وسجل في يوم 27 من الشهر نفسه 185،345 طلبا بالتصريح لليوم عينه فقط، بلغ معدل قطعتي سلاح بيعت للاميركيين كل ثانية، والذي اعتبر اعلى مستوى في تاريخ سجلات الجهاز منذ انشائه، تكفي لتجهيز واعداد جيش ضخم القوة.
ازدياد الطلب رافقه ايضا ارتفاع معدلات الانتساب الى دورات تدريبية على السلاح، مما يشير الى انضمام افراد لأول مرة لفئة المسلحين؛ عززه ايضا تصريحات بعض رجالات الأمن المحلي الداعية لحمل المواطنين سلاحهم في العلن “ورجائهم فعل ذلك” في اقرب فرصة.
محصلة الأمر تفيد بأن سعي الرئيس اوباما استغلال حادثة هجوم كاليفورنيا للمطالبة بفرض مزيد من الاجراءات والقيود وقع على آذان صماء.
2 – اردوغان محاصر بالمكابرة وبعزيمة بوتين
السلطان يتمرن على الرعونة
انقلبت الجمهورية التركية على تراثها “الكمالي” الذي قصد لينين روسيا طالبا قروضا مالية عاجلة لتعزيز خزينة جمهوريته الفارغة نتيجة محاصرة الدول الغربية لدولته الناشئة، بعد تحجيمها. لينين وفر لكمال اتاتورك ما ينوف عن 100 مليون روبل من الذهب بين 1920-1921؛ وفق بيانات الاستاذ الجامعي في جامعة كيل البريطانية، بولنت غوكاي، والذي شغل منصبا رسميا رفيعا في وزارة الخارجية قبل بضعة سنوات.
عانت الطبقة السياسة التركية منذ تلك الازمنة أزمة هوية سياسية واجتماعية مما جعلها تركض وراء الغرب والتمثل به دون ان يعترف لها بدور مماثل. وانضمت لسياسة الاحلاف الغربية في المنطقة وما ترتب عليها من استعداء الدول العربية بشكل اساسي في مرحلة التحرر والاستقلال الوطني، وابقت على عضويتها في حلف الناتو استكمالا لتوجهاتها بمعاداة الاتحاد السوفياتي، وخليفته روسيا الاتحادية لاحقا.
تركيا واعضاء حلف الناتو الآخرين يتحركون ضمن سقف سياسة الطرف الاقوى في الحلف، الولايات المتحدة، ينفذون ما يطلب منهم ولو بعد حين. في هذا السياق ينبغي رؤية حادثة اسقاط تركيا للقاذفة الروسية سو-24 فوق الاراضي السورية، وما نجم عنها من توتر متسارع في علاقة البلدين تقترب من الصدام المباشر دون بلوغه؛ ارفقته تركيا بغزو للعراق بقوة عسكرية متواضعة نسبيا، 150 جندي ونحو 24 مدرعة، في بلدة بعشيقة شرقي الموصل والقريبة من الحدود المشتركة.
تداعيات الغزو احيت مشاعر العداء لدى شعب العراق وفي الخلفية ما تعرضت له بلاده من تدمير وحصار على يد الغزو الاميركي وحلفائه الاقليميين ودول الناتو. تركيا اردوغان “استجابت” لطلبات العراق بالانسحاب العاجل على طريقتها بتعزيز قواتها الغازية لتصل الى نحو 300 جندي، ارفقتها بتصريحات متشنجة ورفضها الامتثال لمطالب العراق.
تصرفات تركيا ترمي من بين اهدافها الى استمرار استفزازها لروسيا، وفق خطة اميركية اشمل لاشغال موسكو ودفعها لدخول مستنقع المغامرات الحربية تمهيدا لمحاصرتها وانهاكها سياسيا واقتصاديا وعسكريا. روسيا تنظر “بعين العطف” والاستجابة لطلب بغداد دعمها بمعدات عسكرية متطورة، احجمت الولايات المتحدة عن تزويدها مرارا قبل ذلك، واعتبرت قرار تركيا “غير شرعي.”
في الشق الآخر من الغزو، تبين للشعب العراقي بمختلف قواه هشاشة الامدادات العسكرية الاميركية، والتي دفعت اثمانها سلفا دون ان تستكمل تسلمها، واعاد المطالب بالتوجه عسكريا نحو موسكو. تجلت ايضا في تأكيد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، على دعم بلاده الثابت لسيادة ووحدة العراق.
وزير الدفاع الاميركي، آشتون كارتر، في زيارته الاخيرة لبغداد سعى لتسويق سياسة واشنطن بارسال “قوة قتالية استكشافية” متواضعة للعراق مما حدى برئيس الوزراء العراقي المقرب من واشنطن، حيدر العبادي، رفض العرض وعدم حاجة بلاده “لقوات عسكرية اجنبية على اراضيه.”
في هذا السياق ينبغي ايضا الاخذ بعين الاعتبار الدور الايراني النافذ في المجتمع العراقي وبعض اركان الحكومة، وما سيترتب عليه من تعزيز الرفض للقوات الاميركية والتركية على السواء.
الانقلاب على سياسة “صفر مشاكل“
تتميز السياسة التركية بقدرتها الفذة على استيلاد العداوات الاقليمية والدولية، والتي لا ينقصها ملفات مفتوحة مع اليونان، العضو في حلف الناتو، وارمينيا المجاورة، فضلا عن تجدد عدائها لايران المقبلة على انفراد دولي شامل في علاقاتها وانهاء العقوبات الدولية المفروضة عليها، بعد اسابيع قليلة.
موسكو ردت على الاستفزازات التركية، المدعومة اميركيا كما يرجح، بتعزيز تواجدها العسكري في اراضي ارمينيا وارسالها مروحيات قتالية وطائرات اخرى حديثة للمرابطة في في قاعدة عسكرية قريبة من العاصمة يريفان؛ وتنوي تدعيمها باسلحة ومعدات اضافية قبل نهاية العام الجاري. يشار الى ان موسكو لديها قاعدة عسكرية قريبة من الحدود التركية الارمينية المشتركة، بالقرب من مدينة غيومري.
استفزازات تركيا نالت جارتها في ايران وتهديدها “بتعرض علاقات الصداقة التقليدية المشتركة الى ضرر كبير،” ان هي استمرت في دعمها الدولة السورية وخصوم انقرة الآخرين.
يجمع الاستراتيجيون في الطرف الاميركي على ان حلف الناتو لن يدخل في حرب مباشرة مع الاطراف الاقليمية لاجل تركيا، التي لا تتعرض لتهديد حقيقي لاراضيها. ويشير هؤلاء ونظرائهم في الجانب العسكري الى سعي واشنطن للضغط على تركيا “تهدئة اجواء التوتر” مع روسيا، في اعقاب اسقاطها القاذفة الروسية.
ويبقى السؤال عائما ما الذي يدفع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان التمادي في تصريحاته المعادية وتصرفاته العدوانية التي ستستثير ردات فعل حتمية، عاجلا ام آجلا. ان كان رهانه ينحصر على دعم حلف الناتو لتركيا “تحت اي ظرف،” فربما يتعين عليه اعادة قراءة الخرائط الدولية، ويتوصل الى مخرج من الازمة المتجددة الذي وضع نفسه بداخلها، غير آبه ربما بما ستؤول اليه التطورات الاقليمية والتغيرات الجارية على موازين القوى، لا سيما في سوريا.
على الطرف المقابل، يصبح مبررا التساؤل حول الخيارات المتاحة للادارة الاميركية الراهنة، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار مطالبة عدد من القوى السياسية في العراق بالغاء الاتفاقية الأمنية “المُذِلّة” مع الولايات المتحدة بعد اخفاقها الالتزام بالدفاع عن أمن وسيادة العراق “والسماح” لتركيا بغزو الاراضي العراقية. دخول موسكو من البوابة العراقية الواسعة أمر لا ينبغي ان يثير ارتياحا كبيرا في الاوساط الاميركية، وهي المسكونة دوما بمحاصرة وتهميش روسيا.