«داعش» يزاحم «القاعدة» في اليمن دعاء سويدان
هل تعلق السعودية بمزيد من الشباك؟
شرّع العدوان الساحة الجنوبية في اليمن أمام تنافس تنظيمي «القاعدة» و«داعش» على السيطرة والنفوذ؛ فبعد تمدد «القاعدة» على الشريط الساحلي الجنوبي من المكلا إلى عدن، ظهر «داعش» على الساحة من بوابة المؤثرات الإعلامية الضخمة، مطلقاً معادلة عسكرية وأمنية جديدة تنذر بانعكاسات أكيدة على المسار السياسي للأزمة اليمنية مستقبلاً
كان بإمكان الجاهلين بمعطيات الزمان والمكان، أو أصحاب الأحكام المتسرعة في أحسن الأحوال، أن يصدقوا اجتماع القوى المناوئة لحركة «أنصار الله» في جنوب اليمن على كلمة واحدة. كل سياقات المرحلة التي جرت فيها استعادة السيطرة على المحافظات الجنوبية ومتعلقاتها، أنبأت بخليط هجين موالٍ للعدوان، سرعان ما ستتحلل مكوناته. هذه البوادر لم تحتج إلى أكثر من أسابيع معدودة حتى استحالت واقعاً مكتمل الأركان ومتخماً بالسيناريوات المشؤومة.
المفارقة، أن الطرف الذي سجل السهم الأعلى في «اكتتاب تحرير الجنوب» ودفَع الفاتورة الأغلى من دماء أبنائه وحمّل أهل جلدته جميع التبعات الكارثية لذلك، أي «الحراك الجنوبي»، لم ينل من «مُمنّنيه» بحلم الاستقلال أكثر من بنادق وبطانيات ومناصب غير ذات فعالية. هكذا، استُبعد «الحراك الجنوبي» من مراكز القوة والقرار كافة، في حين عوملت قياداته ورموزه بأقصى درجات الابتزاز من السعودية. في المقابل، كان السلفيون والإخوانيون والقاعديون يوسعون دوائر نفوذهم حتى غدوا العناصر الرئيسية في فسيفساء المشهد الجنوبي.
ويبدو أن قواعد هذا التوسع تتجه نحو مزيد من التشظي والحروب البينية، في ظل دخول «داعش» على خط النار وتثبيته موطئ أقدام له في غير منطقة من مناطق الجنوب. ولاحت أولى علائم الدخول المذكور في التاسع عشر من شهر تشرين الثاني الماضي. آنذاك، نشر التنظيم عبر الإنترنت تسجيلاً مصوراً بعنوان «إلى أين تذهبون يا قاعدة اليمن؟»، وتضمن هجوماً حاداً على فرع «القاعدة» في اليمن واتهامه بتقديم التنازلات تحت اسم «المصلحة» وتسليم المناطق «المحررة من الحوثيين» لـ«حكام الطواغيت»، بدلاً من «الحكم فيها بشرع الله».
وتضمن الشريط المصور اتهام «القاعدة» بـ«التعاون مع اللجان الشعبية (المجموعات المسلحة التابعة للرئيس الفار عبد ربه منصور هادي) في أبين وتسليمها إلى معسكرات المكلا ومينائها للمجلس الأهلي». الأخير نال نصيبه أيضاً من هجوم «داعش» الذي انتقد زيارة رئيسه للسعودية و«مقابلته الحكومة اليمنية» تحت مرأى «القاعدة». وإذ دعا التنظيم إلى «قتال حكومة هادي وقوات التحالف والمقاومة الشعبية»، انتقد بكلام لاذع زعيم «القاعدة في جزيرة العرب»، قاسم الريمي، ومعه السلطات السعودية، حاضّاً المسلحين القاعديين على الالتحاق بركب «الخلافة» ومبايعة أبي بكر البغدادي.
هجمات ودعوات سرعان ما تحولت إلى خطوات عملياتية. فلم تكد تمر 24 ساعة على نشر التسجيل حتى شن مسلحو «داعش» غارة على معسكر لقوات «الشرعية» في مدينة شبام في محافظة حضرموت، متسببين بمقتل أكثر من ثمانية عشر جندياً من العناصر الذين كانوا متمركزين هناك. الغارة التي وصفت بأنها الأولى من نوعها لمقاتلي «داعش» في حضرموت، شرعت الأبواب أمام التساؤلات المتعلقة بوجود التنظيم في تلك المحافظة.
وتفيد المعلومات الواردة من جنوب شرق اليمن بأن مسلحي «داعش» المتوزعين بين جنسيات يمنية وسورية ومغربية، بالدرجة الأولى، يتمركزون في الضواحي والهضاب القريبة من مدينة شبام. ويتمركز مسلحو التنظيم كذلك في مديريات وادي حضرموت الممتد من صحراء الربع الخالي شمالاً إلى مدينة سيحوت، الواقعة على بحر العرب جنوباً.
ما تقدم ليس بالضرورة أن يؤدي إلى القول إن عناصر «داعش» يحكمون قبضتهم على المديريات المشار إليها برمتها، وإنما ينتشرون في بقع لا تلبث تكبر. ووفق المعطيات المستقاة من الميدان، يخضع مسلحو التنظيم لتدريبات مكثفة في معسكر أنشأوه قبل أشهر في منطقة قف الكثيري في صحراء حضرموت المحاذية للحدود مع السعودية. هذا المعسكر افتتح على أيدي مجموعة من عناصر «القاعدة» بقيادة جلال بلعيدي، أعلنت انشقاقها عن التنظيم وانضمامها إلى «داعش» ومبايعتها البغدادي؛ مبايعة فجرت خلافاً عميقاً داخل «القاعدة» بين أتباع بلعيدي ومشايعي أيمن الظواهري، وخصوصاً في وادي سر في حضرموت، وهو الوادي الرئيسي في المحافظة الأكبر على مستوى اليمن، حيث يتغلغل مسلحو «داعش» في مديرياته الست عشرة، وفي مقدمها تريم وسيئون والقطن.
بالمحصلة، فإن هذا واقع يثير المخاوف لدى «القاعدة» من سقوط معقله الأساسي في مدينة المكلا المطلة على بحر العرب، برغم أن مسافات شاسعة تفصل المدينة عن وادي حضرموت. من هنا تأتي مساعي القاعديين في تحصين عاصمة حضرموت التي سقطت بين أيديهم في شهر حزيران الفائت. وهجومهم المباغت على مدينتي زنجبار وجعار في محافظة أبين في الثاني من الشهر الجاري جزء رئيسي من تلك المساعي، لأن المدينتين المذكورتين تبعدان نحو خمسين كيلومتراً فقط عن عدن، ما يعني أن السيطرة عليهما ستؤدي إلى تشكيل شريط ساحلي ممتد من عدن إلى سواحل أبين إلى المكلا. سيطرة «القاعدة» على عاصمة أبين وجارتها، احتزت أول ما احتزت، رأس «المقاومة الشعبية». وقد قتل مسلحو «أنصار الشريعة» نائب قائد «المقاومة» علي السيد، في المحافظة وفجروا منزله، فيما توعدت الجماعة في بيان وزعته على المساجد قائد القوات الموالية «للشرعية»، عبد اللطيف السيد، بالقتل بتهمة «ضرب المجاهدين وأذيتهم وطعنهم في ظهرهم»، ورصدت «أنصار الشريعة» مكافأة قدرها سبعة ملايين ريال لمن يقتل السيد أو يتسبب بقتله، مهددة المتعاونين معه بأنهم سيكونون هدفاً للتنظيم.
ولا يبدو هدف السيطرة على كامل جنوب اليمن ميسراً من دون القضاء على القوى المحلية التي قد تشكل عنصر تهديد. وعليه، لا يبدو التسابق القاعدي الداعشي في تصفية رجالات هادي أو قيادات «الحراك الجنوبي» مستغرباً. بيان «داعش» الذي تبنى عملية اغتيال محافظ عدن جعفر محمد سعد، قبل ثلاثة أيام، يبين بوضوح اجتهاد المتشددين في تظهير أقصى درجات العنف الكلامي، بل تفوق البيان «الداعشي» على نظيره «القاعدي» في أبين بأشواط، واصفاً سعد بالطاغوت والمرتد ورأس الكفر، ومتوعداً «بقية الرؤوس العفنة» بعمليات «قطف».
ولا تقتصر العمليات التنافسية على التباري في القتل والترهيب، بل تمتد لتشمل مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية. في مدينة المكلا، يمنع مسلحو «القاعدة» أي أنشطة جامعية خارجة عن عباءتهم. مثلاً، كان اقتحامهم مركزاً تجارياً في المدينة قبل يومين وقمعهم حفل تخرج للطلاب والطالبات نموذجاً على ذلك، وهو يضاف إلى سلسلة انتهاكات يرتكبها مقاتلو التنظيم في عدن، حيث يعمدون إلى التضييق على الفصول الدراسية ومنع أي نوع من أنواع الحفلات.
يزاحمهم في ممارساتهم هذه مسلحو «داعش» الذين ينصبون حواجز في التواهي (ولا سيما عند المدخل الشرقي وبالقرب من المنطقة العسكرية الرابعة) ويجوبون شوارع المعلا ودار سعد والمنصورة والشيخ عثمان بسياراتهم، وخصوصاً في ساعات الليل، كما يستحوذون على مبان حكومية ويستولون على «أكشاك» بيع الصحف لتوزيع منشوراتهم، والأخطر أنهم يعملون على تجنيد مسلحين من «المقاومة الشعبية» في صفوفهم.
إزاء تلك الوقائع، تبدو السعودية وحلفاؤها في موقف حرج للغاية. فاغتيال محافظ عدن جاء ليسيل ما تبقى من ماء وجه الرياض وفريقها، في افتضاح لم تملك قائدة «التحالف» حياله إلا أن تقبل على مضض بالدفع باثنين من أبرز قادة «الحراك الجنوبي» إلى عدن، عيدروس الزبيدي وشلال علي شائع، اللذين عادا قبل أيام من زيارة طويلة لهما للسعودية والإمارات ليصيرا واحداً محافظاً لعدن والثاني مديراً لأمنها على التوالي بموجب قرار صادر عن الرئيس الفار.
هذا القرار لا يظهر أنه سيوطئ لعملية شاملة تعيد الهيبة «للحراك الانفصالي» وتمنحه فسحة من استقلالية وقدرة على التقرير، ويبرر هذا الاحتمال أن عملية دمج عناصر «المقاومة الشعبية» في الأجهزة الأمنية ستستغرق، في حال إقرارها، أسابيع إن لم يكن أشهراً. كما أن غياب الرؤية السياسية السعودية لمستقبل جنوب اليمن في ظل إصرار حراكي على الانفصال، يضاعف احتمالات التفرق من جديد، تماماً كما يضاعفها ميل الإماراتيين إلى خيار الإدارة الذاتية. وتأتي زيارة نائب الرئيس اليمني الأسبق علي سالم البيض، لأبو ظبي حالياً، لترسل المزيد من الإشارات حول تبني الإمارات (الخصم اللدود للسلفيين) للرجل.
(الأخبار)