مقالات مختارة

الناتو يصعد لاستدراج روسيا بقلم د.منذر سليمان

 

اخطر مواجهة منذ الحرب الباردة

مخاطر الصدام في المشرق العربي

       النيل من روسيا مخطط غربي قديم وليس نتاج لحظة صراع آني بل يسبق ولادة النظام الاشتراكي الذي كرسه لينين، ويستمر بضراوة اشد بعد تراجع نفوذ القطب العالمي الواحد. مراكز التوتر والصراع تستمر بمقربة من الحدود الاقليمية مع روسيا، من ناحية، ومحاصرتها في مناطق النفوذ القليلة المتبقية في الوطن العربي.

       صراع روسيا وتركيا يضرب جذوره في اعماق التاريخ منذ العقود الاولى للدولة العثمانية ويمتد لما ينوف عن 500 عام، اشتبك فيها الطرفان 17 مرة في “حروب مباشرة،” فازت روسيا فيها جميعها، آخرها ادت تخلي تركيا عن نفوذها في شبه جزيرة القرم ابان الحرب بينهما بداية القرن التاسع عشر، وخسارتها “مناطق النفوذ العازلة” بينهما في جنوبي اوكرانيا.

       تجدد الازمة بينهما وتصاعدها المضطرد “باشراف مظلة حلف الناتو” اعاد تنشيط الذاكرة لتفاقم الصراع الدولي مع تدهور الاوضاع الأمنية على الحدود المشتركة مع سوريا ومقاربة ظروف اندلاع الحرب العالمية الاولى وتشابه استغلال حوادث ثانوية آنذاك، من قبل القيصر الالماني فيلهلم وامبراطور النمسا فرانز جوزيف، وتسخيرها في خدمة اهداف سياسية ضيقة.

       القيصر والامبراطور اليوم يجسدهما فلاديمير بوتين ورجب طيب اردوغان. الاول يهدد تركيا بانها “ستندم على فعلتها،” والثاني يتوجه لدول الناتو طالبا مزيدا من الدعم العسكري، وان جاء رمزيا. القوات العسكرية للبلدين تقف في مواجهة بعضهما مباشرة على جانبي الحدود السورية، فضلا عن الحجم الهائل للترسانة العسكرية الروسية ووضعها على أهبة الاستعداد. الثابت ايضا ان كلا الدولتين تحافظان على ابقاء مسافة بينهما ولو ضيقة، تسمح بعدم الاقتراب من حافة الهاوية، لا سيما الطرف الاضعف منهما رغم ضجيج الصخب الاعلامي وقعقعة السلاح.

تركيا “سُمح” لها توخي لهجة التهدئة اعلاميا بينما يمضي حلف الناتو في تعزيز وجوده العسكري على الاراضي التركية. اردوغان من جانبه استحدث لهجة “الدفاع عن العالم التركماني،” اسوة بخطاب الدول الاستعمارية في “الدفاع عن الاقليات” العرقية والدينية.

       ربما من سخرية القدر هذه الايام رؤية الدول المتورطة في نشوب الحرب العالمية الاولى عينها تتهدد وتتوعد اليوم باعتماد المواجهة العسكرية: فرنسا، المانيا، بريطانيا، اميركا، وتركيا. اليابان في محصلة الأمر ستقف الى جانب حلف الناتو لا محالة.

       نوايا حلف الناتو بمحاصرة وتفتيت روسيا لم تعد حبيسة التكهنات ومنطق التحليلات السياسية. تحضرنا في هذا السياق ما اورده القائد الاميركي السابق لقوات حلف الناتو، الاميرال جيمس ستافريديس، مطلع عام 2014، محذرا من تفاقم وتيرة الصراع في وعلى منطقة الشرق الاوسط “وقد يمتد ليلتهم عموم منطقة الشرق الاوسط .. ويؤشر على تهديد حقيقي لأمن القارة الاوروبية.” واوضح في مغزى تصريحاته ان الدول التي ستمتد لها خطر الحروب هي “دول حلف الناتو في اوروبا واصدقاء (اميركا) في المنطقة، من السعودية للخليج العربي للاردن واسرائيل.” يشار الى ان الاميرال ستافريديس اشرف على قصف حلف الناتو لليبيا والعمليات العسكرية في دول بحر البلقان، ومناطق اخرى.

       دروس التاريخ القريب والبعيد تؤكد حقيقة لجوء القيادات السياسية لقرع طبول الحرب كاحد الاساليب المفضلة لتعزيز مكانتها داخل مجتمعاتها، وحماية مصالح القوى المتنفذة، وتمديد السيطرة والنفوذ الى مناطق متعددة.

اميركا تهدد بصراع مفتوح

       استغل الرئيس الاميركي باراك اوباما فرصة لقائه نظيره الروسي في مؤتمر المناخ في باريس للنفخ في ديمومة الصراع الدولي مع “الدولة الاسلامية .. التي تشكل تهديدا جديا لفترة زمنية قادمة،” متراجعا عن توصيفه السابق لها بأنها “لاعب مبتديء؛” ارفقه بالاعلان عن ارسال بلاده قوة اضافية من القوات الخاصة “في مهمة استكشافية” وشن عمليات خاطفة في سوريا والعراق.

       نزعة التدخل العسكري في شؤون الغير هي رغبة متأصلة في جذور النظام السياسي، الاميركي والاوروبي. بيد انه ينبغي النظر الى الجولة الاخيرة في تعزيز التواجد العسكري الاميركي واتباعه الغربيين من زاوية المناخ الانتخابي المطبق على المشهد الاميركي، وما يواكبه من مزايدات ومواقف سياسية متشددة، والتي لا تقتصر على حزب او توجه سياسي معين. الثابت في هذا المجال ان بعض القيادات البارزة في الحزب الديموقراطي وانصارها في الطرف المنافس نجحت اخيرا في “ابتزاز” موقف الادارة وتعزيز مطلبها بالتدخل العسكري في سوريا – وان على مراحل.

       على الطرف المقابل، برزت النائب عن ولاية هاوايي وعضو لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، تولسي غابارد، تحذر من تداعيات الانخراط العسكري، سواء ان كان مدروسا او بخلافه، وما ينطوي عليه من جر الولايات المتحدة الى “حرب نووية” مع روسيا هذه المرة.

       واوضحت غابارد مصدر قلقها بأنه ناجم عن “نشر روسيا لنظم وبطاريات دفاعاتها الجوية المتطورة (في سوريا) مما سيضاعف من امكانية حدوث تصادم متعمد او عرضي” بين القوتين العظمتين.

       اللافت ايضا ان ابلاغ الكونغرس بارسال مزيد من القوات الخاصة لسوريا والعراق جاء على لسان وزير الدفاع آشتون كارتر، في مثوله امام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، مناشدا الاغلبية من صقور الحرب اصدار تفويض جديد وصريح يخول الكونغرس بموجبه الرئيس اوباما شن حرب على تنظيم الدولة الاسلامية، ينزع القيود الراهنة على قانون التفويض لعام 2001 المعمول به حاليا.

وبرر كارتر دعوته بانه يتعين على اعضاء الكونغرس “النظر .. لشن القوات الاميركية غارات محددة الاهداف غير مقيدة في اي مكان من الاراضي السورية والعراقية .. اينما سنحت الفرصة لذلك،” وما سيترتب عليها من منافع وانجازات “تتيح لها انشاء ارضية افضل لجمع معلومات استخباراتية، ينطوي عليها تحديد اهداف اضافية، وشن مزيد من الغارات، وتعزيز قوة الدفع” العسكرية. لم يغفل كارتر الاشارة بوضوح الى ان مهام “القوات الخاصة الاستكشافية .. تتضمن قيامها بشن غارات احادية الجانب داخل الاراضي السورية.”

       تباين تقييم المؤسسة العسكرية والبيت الابيض، فيما يخص “احتواء” داعش برز بوضوح في جلسة لجنة القوات المسلحة المشار اليها، نظرا لعزم الحزب الجمهوري على تفنيد ادعاءات الرئيس اوباما بأن “استراتيجيته” في المنطقة بدأت تؤتي أكلها. رئيس هيئة الاركان المشتركة، جوزيف دنفورد، ابلغ اللجنة المذكورة ان قيادات البنتاغون تختلف في تقييمها لتنظيم الدولة الاسلامية عن الصورة الصادرة عن البيت الابيض، اذ ان خطر التنظيم “لم يعد قيد الاحتواء.”

هجمات باريس ذريعة للتدخل

       سارعت الدول الاوروبية الرئيسة، فرنسا وبريطانيا والمانيا، الى استثمار الهجمات المتزامنة في باريس لتواكب المطالب الاميركية بمزيد من الانخراط الفعلي ميدانيا، في سوريا والعراق، توجها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون باستصدار تفويض برلماني يخوله استخدام “سلاح الجو الملكي” شن غارات مكثفة على مدينة الرقة السورية – عاصمة دولة الخلافة الاسلامية.

       المانيا، التي عادة ما تبرز فرط حساسيتها لارسال قواتها العسكرية خارج حدودها، انضمت لدعم المطلب الاميركي دشنته المستشارة انغيلا ميركل بموافقة حكومتها على ارسال قواب برية قوامها 1،200 عنصر ترافقها طائرات مقاتلة للعمل في الاجواء السورية؛ عزتها بارسال فرقاطة حربية “لحماية حاملة الطائرات الفرنسية” العاملة في مياه المتوسط.

       وزارة الدفاع الالمانية اصدرت تقريرا عن تدني فعالية قواتها الجوية مقارنة بما كان عليه الوضع العام الماضي، اذ انخفض عدد طائراتها من طراز تورنادو من 89 الى 66، صلاحيتها للعمليات القتالية لا تتعدى 29 مقاتلة. يشار في هذا الصدد الى العقبات التي اعترضت مهام المقاتلات الالمانية في عمليات انزال اسلحة وذخيرة لقوى البشمرغة الكردية في شمالي العراق، وتوفيرها مساعدات طبية خلال انتشار وباء ايبولا في الغرب من القارة الافريقية.

       زيادة عدد الطلعات الجوية من الدول الاوروبية المختلفة الى جانب المقاتلات الاميركية والتركية في الاجواء السورية يعزز مشاعر القلق من تدهور سبل السيطرة على العمليات العسكرية وحدوث اشتباكات مباشرة مع سلاحي الجو الروسي والسوري، واسقاط تركيا للقاذفة الروسية، وما رافقها من نشر روسيا لاحدث ما في ترسانتها من دفاعات جوية في الاراضي السورية؛ وما ينطوي عليها من استعداد البشرية لما هو اسوأ، كما عبرت عنه النائب الديموقراطي تولسي غابارد.

       القطعات البحرية المختلفة تتزاحم ايضا في مياه البحر المتوسط والخليج العربي، كل لاسبابه وتبريراته المختلفة: اميركا وحلفائها في دول الناتو مقابل روسيا بالدرجة الاولى. المصادر الاعلامية الروسية اشارت مؤخرا الى غواصتين تركيتين تواكبات تحرك المدمرة الروسية، موسكوفا، بالقرب من شواطيء مدينة اللاذقية؛ ردت عليها روسيا بارسال سفينة امداد حربية عبرت مضيق الدردنيل رافقتها زوارق خفر السواحل التركية في رحلتها باتجاه الشواطيء السورية.

موسكو والناتو علاقة مضطربة

       في العام 1997 عقدت سلسلة ترتيبات بين موسكو – يلتسين وقيادة حلف الناتو ارست قواعد “اشتباك” جديدة بينهما خولت روسيا مقعد المراقب في مداولات الحلف للحد من التوترات المستقبلية. لم تصمد العلاقات الودية امام اي امتحان منذ ذلك الزمن بدءا لاسباب تخص الحلف وقوته الاساسية المتمثلة في الولايات المتحدة لمحاصرة واحتواء روسيا، دشنها بالتعدي على دول الجوار الروسي، جورجيا، لادامة النزيف في الجسد الروسي.

       لحظة الافتراق البينة بينهما كان العدوان الغربي على ليبيا، 2011، والمناوشات المستمر للحلف بالقرب من الحدود الاقليمية لروسيا: دول بحر البلطيق والجمهوريات السوفياتية السابقة. تصعيد حلف الناتو ضد روسيا لم يهدأ يوما احدثه جاء مؤخرا باعلان الحلف استعداده لضم “جمهورية الجبل الاسود” الى عضويته، مما عزز مشاعر القلق الروسية وتهديد موسكو باتخاذ “تدابير عقابية،” وفق تصريحات الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، لما تراه روسيا من “تمدد البنية التحتية العسكري للناتو شرقا، لن يسفر الا عن اجراءات عقابية من الجانب الروسي ..”

       وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، حذر اعضاء الحلف في شهر ايلول / سبتمبر الماضي من التمدد شرقا معتبرا الخطوة “خطأً، بل استفزازا .. وسياسة غير مسؤولة من شأنها تقويض الجهود لبناء نظام متساو وشراكة أمنية في اوروبا.”

       في هذا السياق تنظر موسكو الى حادث اسقاط قاذفتها سو-24 من قبل سلاح الجو التركي، كجزء من من مخطط استهداف له ابعاد جيواستراتيجية، يستدعي الرد عليه بحزم وحكمة.

       تصعيد الناتو واجهته موسكو بتصعيد عسكري مماثل في القوة باجرائها تجربة ناجحة على نظام صاروخي جديد، نودول، باستطاعته اسقاط الاقمار الاصطناعية العسكرية الاميركية في الفضاء الخارجي، باستغلاله نقاط ضعف بنيوية في تلك الاقمار. واشد ما يخشاه الاميركيون قدرة موسكو على توجيه بضعة رؤوس متفجرة لا تتعدى 20 صاروخا لتشل قدرة الاقمار الاصطناعية الاميركية للمهام الاستخباراتية بالكامل، فضلا عن تقويض حركة الملاحة الفضائية والحاق الضرر بتقنية الاتصالات المتطورة المستخدمة في اغراض عسكرية.

حقيقة اهداف واشنطن وحلفائها

       يجمع الاخصائيون الاميركيون على النتائج الاولية للتدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا بأنه ضرب مخططات حلف الناتو في الصميم لناحية ادامة الصراع الدامي والحيلولة دون التوصل لحل سياسي، لا سيما وان دخول احدث الدفاعات الجوية للاراضي السورية اضاع فرصة تركيا ودول الحلف بانشاء “منطقة آمنة .. او حظر للطيران” في الشمال السوري.

       ولا يفوتهم الاشارة الى تصميم القيادة الروسية الدخول في مواجهة عسكرية، ولو محسوبة، للدفاع عن مصالحها كما جرى في اوكرانيا والآن في سوريا. قرار الدخول في حرب جديدة ليس ايسر الخيارات بالنسبة للدول الاوروبية تحديدا، والتي “فرضت” عليها واشنطن اقتطاع مزيد من الموارد المالية لدعم ميزانياتها العسكرية بنسب متفاوتة، 2 الى 7 بالمائة، في ظل ازمات اقتصادية متجددة لن تكون اليونان حالة استثنائية بينها.

       من الملاحظ تزايد الجدل السياسي في الداخل الاميركي وتناغم خطابه مع نزعة “احتواء” الازمة في سورية وليس القضاء على الارهاب كما يروج اعلاميا. الثابت ان واشنطن وحلفاءها في حلف الناتو ووكلائها في الخليج العربي يجهدون في الابقاء على تنظيم الدولة الاسلامية ضمن حدود السيطرة عليه واستغلاله لادامة النزيف السوري استعدادا للفرصة غير المرئية في اضعاف الدولة السورية؛ وفي نفس الوقت تخشى الدول الغربية بشكل خاص امداد التنظيم باسلحة ومعدات تمكنه من فك قيود السيطرة عليه. اتخاذ موقف متوازن بين الخيارين أمر لا يحظى باجماع حتى اللحظة.

       الترجمة العملية لسياسة “الاحتواء” هي توفير الفرصة الضرورية للادارة الاميركية بالقاء سهام الاتهامات بعيدا عنها وابعادها قدر الامكان عن ادامة اتهامها بالعجز او الفشل الأمني والاستراتيجي. اركان الادارة الاميركية يدركون بوعي ان مهمتهم تنحصر في ابقاء جذوة الازمة مفتوحة وتحت السيطرة، الى حين تسلم الادارة المقبلة زمام السلطة في شهر كانون2 لعام 2017.

       الارضية الفكرية لصاحب القرار السياسي في واشنطن، مؤسسات وقوى ومصالح مختلفة، تنسج لحمتها ضمن معادلة “ادارة الصراع،” وليس حله بالضرورة الا حينما يتطابق الحل مع المصالح الاميركية العليا، كما شهدنا في جهودها لتشظي دول البلقان واغراقها بحرب دموية الى ان حانت فرصة اتخاذ قرارها بمفردها مع غياب الاتحاد السوفياتي عن المسرح الدولي، واغراق روسيا-يلتسن بازمات مفتعلة وان كان بعضها يجد مبررات اقتصادية واجتماعية.

       تسابق الترسانات البحرية لدول حلف الناتو مجتمعة وروسيا بالمقابل، في قلب الوطن العربي، ينذر بخروج الازمة عن السيطرة وميل بعض القوى الفاعلة ارتكاب خطأً ميداني يجر القوى الاخرى الى مواجهات مباشرة غير محمودة العواقب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى