مقالات مختارة

القيصر ضد السلطان: تسفي برئيل

قبل شهرين فقط تصور رئيس روسيا فلادمير بوتين مع رئيس تركيا رجب طيب اردوغان ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في احتفال افتتاح المسجد المركزي في موسكو الذي استمر بناؤه عقدا من الزمن. وقد استغل بوتين الاحتفال من اجل التهجم على داعش ومدح الإسلام. وقال متحدثوه في حينه إن اللقاء المهم بين بوتين واردوغان سيثمر التعاون الاقتصادي الواسع وأن الزعيمين يؤمنان بنفس الحل في سوريا.

اسقاط الطائرة الروسية، التي تم اسقاطها حسب الاتراك في سماء تركيا، وحسب الروس لم تدخل أبدا إلى اجوائها، يوضح إلى أي مدى هذه الصورة الجماعية والمديح المتبادل أمور مضللة. ويبدو أنه سيمر وقت طويل حتى يظهر الزعيمان معا في فرصة تصوير اخرى. لكن كانت هناك حاجة إلى انتظار هذا الحادث لفهم أن العلاقات بين الدول على شفا الانفجار. بعد اللقاء في موسكو بعدة ايام اعلن اردوغان أن الحكومة المؤقتة التي ستقام في سوريا ليس مهما إذا كانت مع الاسد أو بدونه، وهكذا فقد اوضح أن تركيا لم تعد تتمسك بموقفها التقليدي القائل بأن الاسد يجب أن يتم استبداله قبل بدء المفاوضات السياسية حول مستقبل سوريا.

وقد بدا للحظة أن الازمة بين موسكو وأنقرة هي على خلفية الخلافات العميقة حول مستقبل الاسد، لكن بعد يوم واحد غير اردوغان موقفه حينما أعلن أن «سياسة تركيا حول سوريا لم تتغير». ولم تفهم موسكو ما الذي مر على اردوغان لا سيما بعد أن أوضح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لنظيره الروسي سيرجيه لافروف أن الولايات المتحدة لا ترفض كليا أن يبقى الرئيس السوري اثناء الحكومة الانتقالية إذا قامت.

في نهاية شهر ايلول بدأت روسيا بالقصف الكثيف لمواقع في سوريا حيث أن اهدافها تركزت على معسكرات المتمردين أعداء الاسد. وطلعات قليلة فقط استهدفت مواقع داعش. وقد اتضح لتركيا وللولايات المتحدة بسرعة أن روسيا لا تنوي محاربة داعش وأن كل هدفها هو مساعدة الاسد على البقاء. واتضح لاردوغان، ليس للمرة الاولى، أن هناك شيء غير مفهوم في نقاشاته في موسكو.

يبدو أن اقوال بوتين قد أحدثت صدى في آذانه التي جاءت في الهيئة العامة للامم المتحدة حينما قال «الوحيدون الذين يحاربون داعش الآن هم الجيش السوري. وأن المتمردين هم أكراد». واستشاط اردوغان غضبا حيث تم اتهام تركيا مجددا بأنها تدعم داعش، أو على الاقل لا تحاربه. اردوغان الذي استعد حزبه للامتحان السياسي الحاسم في الانتخابات أرسل سهما مسموما باتجاه موسكو.

إذا استمرت روسيا بقصف قواعد المتمردين الذين يحاربون الاسد فان أنقرة ستدرس خطواتها وعلاقتها مع موسكو، وحذر من أن تركيا تستطيع عدم شراء الغاز الروسي أو تلغي اتفاقات اقامة مفاعلات للكهرباء وقعت مع روسيا حيث بلغت نسبة الاستثمار فيها 20 مليار دولار.

يبدو أن اردوغان قد تحدث للتأكيد. وكان هذا تهديدا فارغا. أكثر من نصف حاجة تركيا للغاز يتم شراؤها من روسيا، حسب الاتفاق الموقع مع موسكو، وهي ملزمة بشراء كمية ثابتة في كل عام ودفع ثمنها حتى لو لم تستوردها فعليا. اضافة إلى ذلك طلبت تركيا في الآونة الاخيرة من شركة غاز فروم أن تزيد كمية الغاز بثلاثة مليارات غالون من الغاز في 2016. هذا الطلب تم رفضه من الشركة الروسية كجزء من خطوات الانضباط التي فرضها بوتين على تركيا. وهذه لن تكون الخطوات الوحيدة. ايضا التهديد بالغاء اتفاقات بناء مفاعلات نووية لا يوجد لها أساس. فالعقود تم توقيعها وأي الغاء يعني دفع تعويض ضخم من تركيا لروسيا.

هذه التهديدات فشلت في الوقت الحالي، لكن روسيا بوتين لا تنسى ولا تغفر. وقد توقفت عن منح اذونات الدخول للشاحنات التركية التي تمر من روسيا في طريقها إلى ترغستان وكازاخستان وطاجاكستان ومنغوليا. الامر الذي يلحق ضررا كبيرا بالتصدير التركي، وتلحق ضرر يبلغ 2 مليار دولار. واضافة إلى ذلك فان سلطات الجمارك الروسية تشدد على كل شاحنة تركيا تنقل الفواكه والخضروات إلى روسيا واحيانا يتسبب الفحص البطيء بتلف بضاعة كاملة.

أمس بعد اسقاط الطائرة أوصت روسيا مواطنيها بالامتناع عن الذهاب إلى تركيا. صحيح أن هذه ليست ضربة قوية لأن السياح الروس لا يملأون المطارات بسبب الازمة الاقتصادية، لكن هذه تبقى خطوة اخرى ضمن الخطوات العقابية الروسية.

السؤال هو هل ستكتفي روسيا بالعقوبة الاقتصادية التي تلحق الضرر بها ايضا، حيث أن روسيا تستخدم تركيا لتجاوز العقوبات التي فرضتها عليها الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي بسبب تدخلها في اوكرانيا ـ أم ستتوجه إلى خطوات اخرى مثل الغاء التنسيق العسكري بين الدول الذي أعلنت عنه أمس.

مشكلة روسيا هي أنها بحاجة إلى تركيا ايضا في المجال السياسي وليس الاقتصادي فقط من اجل تطبيق خطتها لحل الازمة السورية. تركيا هي عامل حاسم ومؤثر على المليشيات المتمردة من الناحية الاقتصادية واللوجستية. واذا قررت تركيا معارضة الخطة الروسية فان الجهود السياسية ستفشل.

تركيا غاضبة من روسيا بسبب تأييدها للمتمردين السوريين الاكراد الذين يشكلون تهديدا سياسيا على تركيا. روسيا تعترف بالحزب الديمقراطي الكردي (السوري) وهي تعتبره حليفا. هذا الحزب وذراعه العسكري يعتبران في تركيا منظمة إرهابية بسبب التعاون الوثيق بينهما وبين حزب العمال الكردستاني الـ بي.بي.كي الذي يعتبر هو ايضا تنظيما إرهابيا.

نجحت تركيا في الوقت الحالي في اقناع الولايات المتحدة بعدم مساعدة المتمردين الاكراد في سوريا بشكل مباشر، وتمر المساعدة بشكل غير مباشر عن طريق مليشيا جديدة، الذين هم متمردون سوريون من العرب. لكن إذا قدرت تركيا أنها تستطيع اقناع روسيا بالابتعاد عن الاكراد فان هذا التقدير قد تفجر الآن تماما. يبدو أن اردوغان قد اخطأ ايضا في هذا الموضوع حينما قرأ الخارطة الدولية، لأنه في هذه الفترة، حيث قوات التحالف تستعد لهجمة كبيرة على مدينة الرقة، عاصمة داعش في سوريا، فان المقاتلين الاكراد يعتبرون القوة البرية الاكثر فعالية القادرة على مهاجمة المدينة. وبالتالي فان حرب تركيا ضد الاكراد وضد تسليحهم تعتبر وضع للعصي في عجلة الصراع ضد داعش.

لم يستطيع بوتين أمس ضبط نفسه ودق مسمارا آخر في نعش السياسة الخارجية التركية حينما تحدث عن أن لداعش اموال طائلة تصل إلى مئات الملايين أو المليارات من الدولارات، وأنه يدافع عنه جيش دولة ذات سيادة. ومعروف أنه يقصد تركيا.

توجد لتركيا كل المبررات لبذل الجهد واحتواء الازمة مع روسيا إذا أرادت الاستمرار في التأثير على الخطوات لحل الازمة السورية. لكن مثلما في حالات اخرى فانه من ضمن الاعتبارات العقلانية تدخل الاعتبارات الشخصية لاردوغان وبوتين. وتركيا متأكدة ليس فقط من صحة اسقاط الطائرة الروسية بل ايضا أنها لا تستطيع المسامحة على «احترام الأمة» حيث يتم الحاق الضرر بسيادتها.

الامر الغير واضح هو من لديه احترام أكثر، أردوغان أم بوتين. صحيح أن تركيا حذرت موسكو عدة مرات بعد أن دخلت طائراتها إلى المجال الجوي التركي، لكن هل كان من الضروري اسقاط الطائرة التي لم تهدد تركيا حتى لو دخلت مجالها الجوي؟ اسقاط الطائرة بهذا الشكل يتم نحو دولة عدوة وليس نحو دولة لها علاقات معها. حتى لو كانت العلاقات متوترة.

وقد قال مصدر تركي من الحزب الحاكم لصحيفة «هآرتس»: «يبدو أن اردوغان انتظر الفرصة من اجل اظهار القيادة. لا شك عندي أن تركيا ستدفع ثمن ذلك». في الوقت الحالي نجحت تركيا في جر الناتو إلى الوحل، لكن يبدو أن الناتو لا توجد له مصلحة في فتح جبهة اخرى، سياسية أو عسكرية في مواجهة روسيا.

هآرتس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى