«داعش» يتمدّد عامودياً وأفقياً ابراهيم ناصرالدين
الانكشاف السياسي على الساحة اللبنانية، والتوافق على «القطعة»، والصحوات الامنية «الموسمية» لا تصنع امنا متماسكا، ومن يعتقد أن العمل الاستخباري والتشديد الامني سيحلان المشكلة، يبرهن على أنه لا يفهم المشكلة الحقيقية في لبنان كما في الساحات المشتعلة الاخرى، خطورة داعش ليست فقط في البنية التنظيمية بل في حالة الوعي والاستقطاب التي يمثلها لدى جمهور واسع من السنة، ودون مواقف جادة من قبل الاطراف المحلية والاقليمية لوقف الاستثمار بهذا التنظيم الارهابي، ستستمر الخروقات على نطاق اوسع، وربما تكون اكثر دموية.
المؤشرات المحلية والخارجية لا تشير حتى الان الى ان ثمة جدية لمواجهة هذا المد «التكفيري» الذي يملأ فراغ غياب القيادة الرشيدة والفاعلة لدى تيار المستقبل الذي لم يبدل حتى الان في استراتيجية التعامل مع شارعه، كما لم تبدل الدول الاقليمية والدولية من اجندتها التي تقوم على استثمار الارهاب لتحقيق مكاسب سياسية على حساب الخصوم في المنطقة. وهذان العاملان يؤكدان الاستنتاج بارتفاع نسبة المخاطر وزيادة عامل القلق من «مفاجآت» امنية غير محسوبة، حذرت منها اجهزة استخباراتية اوروبية.
هذه الخلاصة لا تاتي من فراغ، بحسب اوساط مطلعة على مجريات المتابعات الامنية، فما كشفته «المصادفات» التي سمحت بالكشف السريع عن الخلايا المتورطة في تفجير برج البراجنة المزدوج، افضى الى حقائق شديدة الخطورة تفيد بان التوسع العمودي والافقي لتنظيم «داعش» يحصل بسرعة قياسية لم تكن في الحسبان، فالمعلومات الامنية كانت تشير في السابق الى ان تنظيم «جبهة النصرة» هو الاكثر حضورا بين صفوف المتشددين اللبنانيين والسوريين الوافدين الى الاراضي اللبنانية، وتبين من خلال الملاحقات الاخيرة ان هذه المعادلة انقلبت رأسا على عقب، واظهرت المعطيات الجديدة ان «داعش» بات يحتل المرتبة الاولى في تجنيد الشبان، وبات الملاذ الاكثر احتضانا لهؤلاء بعد ان فرط عقد «الرعاة» المحليين الذين كانوا يستثمرون في فئة كبيرة من الشبان المهمشين على امتداد الساحة اللبنانية وخصوصا في البقاع والشمال.
وتلفت تلك الاوساط، الى ان احد العوامل المؤثرة في «الهجرة الجماعية» لكثير من شبان الشمال الى الفكر «الداعشي» سببه الاحباط والشعور بالخذلان الذي اصاب قادة المحاور في مدينة طرابلس من قبل تيار المستقبل وبعض الشخصيات السياسية في المدينة التي استثمرت هؤلاء ثمة عقدت على «ظهرهم» تسويات ورمتهم في السجون. ولم تكتف تلك الجهات بهذه «الخيانة» الموصوفة وانما لم تقدم البدائل على الارض لملء الفراغ، فـ «التيار الازرق» مثلا لم يبذل اي جهد حقيقي لاقناع شريحة واسعة تم تحريضها على حزب الله، حول الاسباب الموجبة للحوار معه فيما لم تتغير المعطيات التي كانت وراء كل هذا التحريض الممنهج، طبعا لم يكن واردا ان تمشي تلك الجماهير وراء «قائد» غائب في المنفى، لا يملك استراتيجية واضحة او اموالاً كافية لتعويض الفشل السياسي، والنتيجة ان هؤلاء لجؤوا بطريقة اوتوماتيكية الى الطرف الذي يملك الخطاب التحريضي المماثل لخطاب «المستقبل»، لكنه يملك الادوات التنفيذية اللوجستية والمالية لتحويل «الغضب» الى فعل، وهذا ما يفسر توسع القاعدة الشعبية «لداعش»، والمرجحة للمزيد من التوسع بعد عمليتي شرم الشيخ وفرنسا وكذلك برج البراجنة، لان هكذا هجمات تساعد في استقطاب المزيد من «المعجبين» الذين يبحثون عن «بطل».
ولفتت تلك الاوساط، الى ان ورود اسماء منضوين في الاسلاك الامنية والعسكرية المختلفة ضمن قائمة المتورطين في تسهيل اعمال ارهابية، يزيد من منسوب القلق لدى المعنيين بمتابعة هذا الملف، والتوسع في التحقيقات قد يفضي الى نتائج اكثر قتامة، لان مجرد حصول هذا الاختراق يجعل الحديث عن محدوديته دون فائدة تذكر، لان تأثير افراد قليلين في هذا السياق، وان كانوا في رتب متدنية، قد يكون اكثر خطورة من اي شيء آخر، فمن يتولى المهمات التنفيذية على الارض، يكون عادة اكثر فعالية والمشكلة التي تحتاج الى معالجة هي عامل الثقة الذي لا يجب ان يهتز لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، وهي قضية مركزية يجب العمل عليها.
الاخفاق في دمج الاستراتيجية الامنية والعسكرية مع «الغطاء» السياسي المطلوب لمحاصرة هذه الظاهرة لبنانيا، لها بعدها الخارجي ايضا، فحتى الان لا تبدو ان هجمات باريس قد ساهمت في توحيد جهود الدول المتصارعة على الشرق الاوسط، فالانقسام يبدو سيد الموقف، وينذر بعواقب وخيمة ستستفيد من التنظيمات المتطرفة وفي مقدمها «داعش»، ووفقا لاوساط ديبلوماسية، ثمة وجهة نظر اوروبية «معتبرة» متفق عليها بين كبار قادة اجهزة الاستخبارات، تدعو للتركيز على «داعش» وتنحية مسألة بقاء الأسد في السلطة جانبا، وتأجيل البحث فيها الى ما بعد هزيمة الارهاب في سوريا. هذه الاستراتيجية تقوم على قاعدة تجنب «الأهداف المتناقضة للحرب» و«غض الطرف» عن بقاء الأسد في السلطة كي يشارك الجيش السوري في العمليات ضد المجموعات التكفيرية، ويدعو هذا الاتجاه الساسة الغربيين الى التوصل لاتفاق مع روسيا يعبد الطريق أمام القوات النظامية السورية لقيادة العمليات البرية ضد تنظيم «داعش». وفي راي هؤلاء فانه لا يمكن الانتصار في الحرب على الارهاب في ظل أهداف متناقضة ، فلا يمكن هزيمة «داعش» وفي الوقت نفسه التخلص من الأسد الذي يملك القوة القادرة على القتال على الارض، في غياب اي استعداد لدى الغرب للتدخل البري، فـ «دون وحدة في الهدف لا انتصار في الحرب»، ودون قوات على الارض ستكون الحملة الجوية دون اي فائدة تذكر.
في مقابل حالة «الفزع» الاوروبية لا تبدو الدول الاقليمية المتحالفة مع واشنطن مستعجلة لحسم الموقف في سوريا، وبدل تقدم وضع استراتيجية مشتركة للقضاء على «داعش»، ثمة محاولة من قبل إدارة الرئيس باراك أوباما والدول الاقليمية المتحالفة معها لابعاد روسيا عن تحالفها مع إيران، اولا، ثمة قتال «داعش» ثانيا، فواشنطن والرياض مقتنعتان بوجود توتر في العلاقة بين الايرانيين والروس، والعمل جار على استغلال ما تعتبرانه اخلالا في هذا التحالف، والقيادة السعودية ما تزال تركز في اتصالاتها مع القيادة الروسية على تحجيم الدور الإيراني في سوريا كجزء من اي عملية للمشاركة الفاعلة في القضاء على «داعش»، وبحسب المعلومات فان الرياض التي حصلت على دعم علني من الرئيس الاميركي قبل ساعات، كانت واضحة في حديثها مع موسكو وربطت دعمها للجهود الروسية، بتحديد موعد زمني لرحيل الأسد، مع ضمانات بتقليم «اظافر» طهران في دمشق، مع وعد بحفظ المصالح الروسية، وحذر المسؤولون السعوديون بوتين «صراحة» من تأليب الرأي العام السني ضد روسيا بسبب استمرار ربط مصالحه بمصالح إيران والأسد. اما على الضفة الاخرى فان الموقف الاوروبي بات اكثر قناعة بالتعاون مع طهران بعد هجمات باريس وهناك من يرى إمكانية مشاركة الإيرانيين «رسميا» في الحرب على الإرهاب، وهذا ما اوحى به الاتصال الهاتفي بين الرئيس الايراني حسن روحاني ونظيره الفرنسي.
امام هذه المعطيات الشديدة التعقيد، تضيع «بوصلة» مكافحة الارهاب، وتبقى الساحة اللبنانية مساحة خصبة للتنفيس عن هذه التناقضات وتضارب المصالح الدولية والاقليمية، هذا الامر يزيد من المخاطر ولا يقلل منها، خصوصا ان التيار السني الاكثر قدرة على التاثير في تنفيس الاحتقان الداخلي، لا يساهم جديا في تحصين بيئته من تغلغل الافكار التكفيرية، ويواصل العبث السياسي مع الفريق الاخر من خلال الايحاء بقبول تسويات سياسية غير «منطقية»، تهدف اولا واخيرا الى زرع البلبلة لدى الفريق الاخر، وما يحصل يشكل دليلا لا يقبل الشك، على ان «التيار الازرق» لا يقدر خطورة المرحلة، وهو لا يضيع فقط فرصة التسوية مع الفريق الاخر، وانما يخاطر بدفع المزيد من جمهوره الى احضان «التكفيريين»، وهذا ما يزيد مخاطر توسع العمليات الارهابية.
(الديار)