المواطن العربي بين القمع السياسي والطعام الفاسد د. فايز رشيد
المقيمون في لبنان يستهلكون أغذية فيها «بقايا براز بشري ومياه مجارير»!.
هذا بالضبط هو التعبير الذي استعمله وزير الصحة اللبناني وائل أبو فاعور في مؤتمره الصحافي الذي عقده في بيروت (الثلاثاء 11 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي 2014)، ونقلته صباح اليوم التالي كافة الصحف اللبنانية، وقد اطلعت عليه من جريدة «الأخبار». لم يكتف الوزير بذلك، بل قام بتسمية المحلات والمطاعم التي ثبت أن منتوجاتها تحتوي على ذلك، قائلا «إن هذه المؤسسات تقدم غذاء لا يتطابق مع المعايير الصحية، وتحتوي على سالمونيللا، E.coli والبكتيريا الهوائية». من بين هذه المؤسسات مطاعم مشهورة، ومعوملة ـ عالمية – يأكل منها معظم اللبنانيين. الوزير قام بإغلاق هذه المحلات وفروع المطاعم المعنية، التي أثبتت التحاليل الصحية التي اجرتها الوزارة، تلوثها.
وعد الوزير بإجراء الكشف وأخذ العينات من منتوجات العديد من المحلات والمطاعم في المناطق اللبنانية الأخرى. في إعلان الوزير اللبناني الكثير من الشجاعة التي يتوجب تحيته عليها، والكثير من الشفافية والنزاهة، وقبل كل شيء الضمير. ولولا هذه الشجاعة، لسكت الوزير مثل غيره والعديدين من سابقيه، هؤلاء الذي يدركون معنى قول الحقيقة في بلد ينخره الفساد. يعرف أن أقل ثمن للصراحة: تطييره من منصبه، أو التعتيم عليه ووضع العراقيل أمام توظيفه في مناصب وفقا لتخصصه المهني، أو أن يموت في حادث سيارة (يبدو عفويا وعاديا!)، فالتحالف بين العديد من زعماء الفئات الحاكمة وامبراطورية رأس المال أكثر من «مقدّس» من وجهة نظر القائمين عليهما، ولا يجوز المساس بمصالح الأخيرة، ولسان حال زعمائها ينطق بجملة: «لا عاش من يتجرأ على المساس برأس المال». كل ذاك لم يثن أبو فاعور عن مصارحة الناس بالحقيقة.
من قبل أثيرت في لبنان قضية الأدوية الفاسدة ومنها أدوية للقلب والضغط والسكري، القضية باختصار كان يتم تغيير مواعيد الصلاحية للأدوية منتهية الصلاحية وتسبب ذلك في عشرات الوفيات. السبب بالطبع، الجشع للمال من دون الالتفات إلى الضمير والمبادئ والأخلاق وقدسية الحياة البشرية، فمسببو ذلك فاقدون لكل ما سبق من صفات، لا يهمهم سوى انتفاخ جيوبهم بالمزيد والمزيد من المال، وهل يمكن لهؤلاء أن يكونوا بشرا؟
كطبيب أقول وباختصار: إن الجراثيم وانواع البكتيريا السابقة تسبب العديد من الأمراض الخطيرة لمستهلكي المواد التي تحتويها: أمراض في الجهازين الهضمي والتنفسي، والأمراض الأولى يمكنها التسبب بامراض للجهازين البولي والتناسلي. الأمراض إن لم تجر معالجتها فإنها تشكل تهديدا لحياة المرضى بها، وكل ذلك بسبب ممَنْ ومن أجل ماذا؟… من أجل المال من ثلة من المجرمين المخفيين.
ما جرى ويجري في لبنان على هذا الصعيد، جرى ويجري في العديد من الدول العربية، في العراق حيث جرت وتجري المتاجرة بالاغذية الفاسدة. في الاردن وقد كشف وزير الصحة الأسبق زهير ملحس استيراد باخرة لحوم مسرطنة استوردها بعضهم وكان يعرف حقيقتها واشتراها بسعر رخيص، واستمر الجدل حولها مدة شهرين. إسرائيل صدّرت إلى الأردن مياها، أصلها مياه مجارير، بدلا من المياه الصالحة للاستعمال البشري، وفقا لاتفاقية تلت اتفاقية وادي عربة، وكان المواطن يحس بطعمها المثير للغثيان ويشم رائحتها الكريهة المثيرة للتقيؤ. في مصر وفي مختلف العهود، كشفت الصحف المصرية صفقات كثير من الأطعمة الفاسدة وغير الصالحة للاستهلاك البشري التي استوردها تجار مشهورون. وعلى ذلك قس في العديد من الدول العربية الأخرى.
مسكين هذا المواطن العربي المقموع سياسيا، الذي لا يتمتع بالحريات المقرة والمتعارف عليها إنسانيا ودوليا. مسكين هذا المواطن العربي الذي يسعى من الصباح الباكر وحتى الليل المتأخر في عمله من أجل قوت عائلته، ولا يسده بالكامل. واثبتت تقارير الأمم المتحدة أن نسبة العيش تحت مستوى خط الفقر تتزايد سريعا في العديد من الدول العربية. مسكين هذا المواطن العربي المحروم من تأمين السكن وتدريس أبنائه في الجامعة (لأن أجورها عالية) ومحروم من تأمين الطبابة والشيخوخة. مسكين هذا المواطن حتى في موته، إذ عليه أو على افراد عائلته من بعده شراء القبر.
ما زلت أذكر خطاب الكاتب القيرغيزي الشهير جنكيز أيتماتوف في المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي السوفييتي، الذي أعلن فيه غورباتشوف شعاريه (البيريسترويكا والغلاسنوست: إعادة البناء والعلنية) وقد تسببا في تفكيك الاتحاد ودول المنظومة الإشتراكية بعد سنتين، تساؤله: لماذا ندعو إلى بناء الشيوعية في الوقت الذي تحققت فيه الكثير من أهدافها في الحياة الكريمة للناس، في الدول الإسكندنافية؟ يومها ثارت ضجة كبرى في المؤتمر الذي نقل التلفزيون الرئيسي من موسكو وقائع جلساته أولا بأول. في تلك المرحلة جرى افتقاد مدبر حتى للسلع الحياتية الرئيسية من الأسواق. تساؤل الكاتب والروائي، صاحب الروايتين الرائعتين «جميلة» و»وداعا يا غوليساري»، يثير في ذهني تساؤلا: وما فائدة وجود الحكومات العربية إن لم تستطع تأمين غذاء صالح لمواطني دولها؟ وذلك أضعف الإيمان.
مسكين مواطننا العربي الذي يعيش أقبح ثنائية في الوجود البشري: القمع السياسي وإطعامه «الخ….» وإسقائه من مياه المجارير.
(القدس العربي)