هل كان عقل الهجمات في بروكسل ويدها في باريس؟ وسيم ابراهيم
نسمة باردة كانت تهبّ بين الحين والآخر، فيما سخانات التدفئة الكهربائية تبث إضاءتها الحمراء على أرصفة البارات المهجورة في ساحة سان جيري. قلّة متناثرة شغلت بعض الكراسي، لتكرّس مشهد انقباض ليس من عادات حي السهر المعروف في بروكسل. ليس من عاداته أن يغيب عنه الاكتظاظ مساء السبت، أوّل أيام العطلة الأسبوعية.
هل السبب انتقال عدوى مشاهد الرعب، تلك التي رافقت اعتداءات باريس وهزّت أوروبا؟ لِمَ لا، يقول بعضهم بيقين. يتساءلون لماذا لا يخاف البلجيكيون، حينما يرون انتحاريين يفجّرون أنفسهم خارج ملعب باريس، على مسافة مئات الأمتار من الرئيس الفرنسي. يقولون إنَّ اعتداءً في ظلّ إجراءات أمنية مشدّدة، مع رئيس دولة يحضر مناسبة جماهيرية، يجعلهم يفكّرون في حال الأمن في الأماكن العامة.
لدى سكان بروكسل أسباب أعمق للإحساس بالقلق، على أقلّ تقدير. في الشوارع المحيطة بساحة سان جيري، كانت سيارات الشرطة تومض فجأة قبل تسلّلها في اتجاه بات يثير الريبة. حي مولنبيك يبعد نحو كيلومتر واحد، وهناك بات يسكن الآن جزء معتبر من غموض قصة الهجمات الباريسية.
توثيق هذا الرابط واستثماره، جعل فرنسا، تحديداً وزير داخليتها برنار كازينوف، يحاول التملّص من المسؤولية برميها على نظيره البلجيكي. محاولاً تبرير عجز الأجهزة الفرنسية، حاول كازينوف توجيه القضية إلى منحى آخر تحت عنوان: بما أنَّ التخطيط لهجمات باريس حصل في بلجيكا، فمن المفهوم أننا لم نعرف شيئاً حولها.
حملة المداهمات والاعتقالات لم تتوقف في حي مولنبيك، الموصوم بوصفه معقلاً للمتطرفين، منذ الصباح التالي لما بات مكرّسا بوصفه «يوم الحداد الأوروبي». اكتشاف مزيد من الصلات بين العاصمتين، جعل من غير الفعال استمرار التعاون عبر الخطوط الساخنة، ما قاد الأجهزة الفرنسية والبلجيكية إلى تشكيل فريق عمل موحد.
المحققون الفرنسيون يعملون الآن أيضاً في بروكسل. الإعلانات الرسمية تقول إنَّ اثنين من المنفذين السبعة لهجمات باريس الإرهابية، كانوا يعيشون في بلجيكا، كما أنَّ سيارتين مستأجرتين فيها تم العثور عليهما قرب مسرح الجريمة. الشكوك تدور حول وجود شبكة عملت من بلجيكا، خطّطت ووفّرت مساعدات وتسهيلات، كما توافد بعض أفرادها إلى باريس، قبل أن يسلكوا طريق العودة آمنين.
أوّل الخيوط كان العثور على سيارة قرب مسرح «باتاكلان»، الذي شهد أكثر الهجمات دموية مع وقوع نحو مئة قتيل. السيارة تحمل لوحة بلجيكية، ووجدوا داخلها بطاقة موقف سيارات يحمل عنوان حي مولنبيك. أعطي أمر التحرّك مباشرة. فرق الشرطة والقوّات الخاصة البلجيكية قبضوا على سبعة أشخاص، كما أعلنوا عن فرار بعض المتورطين.
الشهرة التي وصمت حي مولنبيك، تكرست عبر سنوات من تكرار الاضطرابات، والصدامات مع الشرطة، علاوة على تصديره قصص المتطرفين. الحي معروف بغالبية سكانه من الأصول المهاجرة، من دول المغرب العربي على وجه الخصوص. رغم كونه في قلب العاصمة البلجيكية، لكنه تحوّل إلى «غيتو» (معزل)، تنتشر فيه قلّة جعلت التلفزيونات المحلية تتحسب كثيراً قبل إرسال فرق تصوير.
السلطات البلجيكية تعلن الآن أنَّها ضاقت ذرعاً من فشلها في احتواء أزمة هذا الحي. وزير الداخلية شعر فوراً بالضغط الذي سيواجهه حالما تنتشر قصة التخطيط من بروكسل. سارع إلى القول إنَّ خطط الحكومة للاندماج نجحت في كل الأرجاء إلَّا «هناك في مولنبيك». رئيس الوزراء شارل ميشيل فعل الشيء نفسه أيضاً، معلناً أنَّ السياسة ستتغير تحت عنوان «الوقاية والقمع».
لن يرتبط اسم الحي فقط بالتأريخ لاعتداءات باريس الحالية، حتى حين الحديث عنها، بوصفها الأعنف في أوروبا منذ اعتداءات مدريد 2004، يتمّ التذكير الآن بأنَّ أحد منفذي الاعتداءات تلك، كان أيضاً من قاطني مولنبيك.
رواية فريق التحقيق تقول إنَّ هناك ثلاثة أشقاء فرنسيين، يسكنون في بلجيكا. واحد منهم إبراهيم عبد السلام – أحد الانتحاريين السبعة – فجّر نفسه أمام مطعم، فيما ألقي القبض على الشقيق الثاني. الشقيق الثالث هو صلاح، عمره 26 سنة، عممت الشرطة صوره على وسائل الاعلام. بين المعتقلين من كان متواجداً في باريس يوم الجمعة الماضي، ثم عبر الحدود تحت أعين الشرطة الفرنسية. أوقفوهم لتفتيش سيارتهم، لكنّهم تركوهم يعبرون بعدما لم يجدوا ما يثير الشبهات بشأنهم.
الاستنتاجات الأولية تخدم فرصة انتهزها الفرنسيون للقول إنَّ الفشل الأمني ليس مسؤوليتهم الكاملة. ليس هناك رواية كاملة تثبت أنَّ عقل العمليات كان في بروكسل، ويدها الضاربة تسلّلت إلى باريس. لكن الواضح أنَّ جزءاً من التخطيط، على الأقل، تمّ وفق تلك المعادلة. يمكن لخليّة كهذه الاستفادة من قرب المسافة، قيادة سيارة لثلاث ساعات مع عبور سلس على حدود «شنغن» الداخلية، خصوصاً لمواطنين يحملون جنسية أوروبية.
بعض معطيات التحقيق التي تسرّبت، تعيد شبح التفكير بخطر «الجهاديين» الأوروبيين. ليس معروفاً بعد عدد «الجهاديين» الذي انخرطوا في الاعتداءات، سواء تخطيطاً أم تنفيذاً. لكن الحديث عنهم يعيد التذكير، خصوصاً، بالعجز الأمني الذي تحدّثت عنه السلطات البلجيكية سابقاً. مراقبة كل جهادي على مدار الساعة تحتاج 24 موظفاً أمنياً، ما يجعل تتبعهم يفوق طاقة وقدرات الأجهزة البلجيكية التي تركز على أكثرهم تهديداً للأمن. برغم هذا العجز، فإنّ الأوروبيين تجاهلوا مقترحات لسدّ فجواته، كان عَرَضَها سابقاً المنسق الأوروبي لمكافحة الارهاب جيل دو كيرشوف. لم يرَ النور مقترحه لإنشاء مركز أوروبي لمكافحة الإرهاب، يجمع طاقات وقدرات الأجهزة الأوروبية في دائرة تتفرغ للتعامل مع تهديد الجهاديين. سيطرت الحساسيّات ورجحت على ضرورة التعاون، خصوصاً عدم وجود الثقة الكافية بين الأجهزة الأوروبية لتبادل معلومات استخباراتية على نطاق التكتل.
سيعود دو كيرشوف ليكون تحت الأضواء الآن، فهو أبرز من يحضرون أجندة اجتماع طارئ لوزراء الداخلية الأوروبيين، سيعقد الجمعة. القضية ستشغل عاصمة الاتحاد الأوروبي اليوم أيضاً، إذ سيلتقي وزراء خارجيته في أوّل اجتماع للتكتّل بعد الهجمات.
قضية الهجرة وسجالاتها ستكون أحد محاور الخلافات، خصوصاً بعد استثمار المتشدّدين لرواية إمكانية انخراط بعض منفذي الاعتداءات ضمن تدفقات اللاجئين إلى أوروبا. حكومات الدول المطالبة بإغلاق الحدود في وجه اللاجئين، صارت تحاجج بأنَّ اعتداءات باريس ستكون ثمناً مكرراً لفتح الحدود. هذا ما تكرّره المجر وسلوفاكيا بشكل صريح، كما فعل الشيء ذاته منتقدو المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، داخل حزبها وخارجه.
أمام هذه الهجمة الشرسة، المدعومة من بعض وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية، حاولت بعض الأصوات إبعاد النقاش عن جادة التخويف والدعاية. رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر قال خلال مشاركته في قمة مجموعة العشرين: «هؤلاء الذين نظّموا هذه الهجمات (في باريس)، والذين نفذوها، هم بالضبط من يفرّ منهم اللاجئون»، قبل أن يضيف: «لا توجد أسباب لمراجعة السياسات الأوروبية بشأن اللاجئين».
لكن المخاوف تنتشر في كل اتّجاه. السلطات الألمانية قامت بتعبئة قدرات إضافيّة، ليس لمواجهة احتمال الاعتداءات الإرهابية، بل أكثر لمواجهة موجة تخشاها من الاعتداءات على اللاجئين ومرافق استقبالهم. قلق السطات الألمانية ليس من فراغ طبعاً. على امتداد دول الاتحاد، لم تستطع أحزاب اليمين المتطرف تمالك خطاب كراهيتها… ليوم حداد واحد!
(السفير)