الإرهاب غرام وانتقام و… فتنة د. عصام نعمان
ضرب تنظيم «الدولة الإسلامية ــــ داعش» ضربتين شديدتين بالغتيْ العنف والوحشية والدويّ في دولتين خلال يومين، فأودت بحياة العشرات وجرحت المئات وخلّفت دماراً وأضراراً بآلاف ملايين الدولارات.
الضربة الثانية، في قلب باريس، كانت الأقسى والأفتك والأكثر دوّياً من الأولى في ضاحية بيروت الجنوبية، لسبب لافت هو استهدافها عاصمة دولة كبرى. ما حدث في بيروت وباريس، كان له، وما زال، وقع مدوٍّ هائل كأنه صوت ارتطام النجوم. كيف لا وقد ارتقى تنظيم «الدولة الإسلامية ــــ داعش» به ومعه إلى رتبة دولة كبرى.
في فرنسا، لن يكون المشهد السياسي بعد الضربة المزلزلة كما كان قبلها. محكومٌ على قادتها أن يتوقفوا عن مراعاة «داعش» كرمى لعيون الحلفاء الإقليميين والأصدقاء المدلّلين من المعارضين السوريين «المعتدلين». السكوت والمكابرة أصبحا مستحيلين. لكن صعود اليمين المتطرف، خصوصاً «الجبهة الوطنية» العنصرية، إلى صدارة المشهد السياسي لن يكون مستحيلاً.
في لبنان، الضربة كانت شديدة وموجعة. الإرهاب التكفيري سدّدها إلى لبنان واللبنانيين بقصد الثأر من المقاومة. قبلها بنحو أسبوعين سدّد ضربة مماثلة لروسيا بإسقاطه طائرة مدنية في سيناء تغصّ بركابٍ روس أبرياء. بين الضربتين الموجعتين حرص الإرهاب التكفيري على قصف المدنيين بوحشية في أحياء دمشق وحلب وحمص واللاذقية.
كلّ هذه الهجمات الوحشية شكّلت، وستشكّل من الآن فصاعداً، ردود أفعال انتقامية من تنظيم «الدولة الإسلامية ــــ داعش» ضدّ أعدائه الإيديولوجيين والسياسيين والعسكريين، وفق جدول أولويات يقدّم الأهمّ، في نظرها، على المهمّ والخطر الأقرب على الخطر الأبعد.
سلوكيةُ «الدولة الإسلامية ــــ داعش» هذه تنطق بحقيقة صارخة مفادها أنّ الإرهاب، وفق «إدارة التوحش»، غرام وانتقام. وحدهم المصابون بعمى الألوان والذين يتحكّم بهم الغرض، والغرض مرض، يجهلون أو يتجاهلون في هذا السياق حقائق ثلاثاً إضافية ساطعة:
أولاها، أنّ الإرهاب التكفيري عموماً، وإرهاب «داعش» خصوصاً، أصبحا خطراً شاملاً يهدّد العالم برمّته، دولاً وشعوباً، وأنّ عداوتهما الاستراتيجية لكلّ مَن ليس منهما، فكرياً وتنظيمياً وسياسياً، تجري ترجمته مرحلياً بهجمات بالغة الوحشية في الزمان والمكان. فمن لا تستهدفه حروب «داعش» في الحاضر فلن يكون بمأمن منها في المستقبل.
ثانيتها، أنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» يمتلك من القدرات، البشرية والاقتصادية والفنية، ما يضعه من حيث الفعالية في مصاف دولةٍ كبرى. ليس أدلّ على ذلك من أنه لم يتوانَ عن مهاجمة دولٍ كبرى، كروسيا وفرنسا، كما يقوم بلا هوادة بمهاجمة دولٍ ومجتمعات على مدى رقعة جغرافية تمتدّ من اليمن شرقاً إلى تونس غرباً مروراً ببلاد الشام وبلاد الرافدين، ناهيك عن قيامه بتهديد روسيا في عقر دارها بقوله «إنّ الدماء ستجري فيها أنهاراً!» وتهديد دول أخرى في الشرق والغرب. إلى ذلك، يتحالف مع دول وحكومات وازنة ويتلقّى منها أموالاً طائلة وأسلحة متطورة وعتاداً، ويتمتع عبرها بتسهيلات تجارية ولوجستية بشرية وفنية.
ثالثتها، أنّ دولةً إرهابية على هذا المستوى العالي من الإمكانات والقدرة على الانتشار والفعل المدمّر لا تصحّ مواجهتها، بفعالية، إلاّ عالمياً وبتحالف عريض وقوي بين دول وحكومات، وبمشاركة واسعة من تنظيمات شعبية مقتدرة وجادة في تنفيذ التزاماتها.
ليس ثمّة ما يشير إلى أنّ الولايات المتحدة أدركت هذه الحقائق الثلاث ومفاعيلها وما تقتضيه من متطلبات. فهي ما زالت متهاونة في توجيه ضربات جوّية قاسية لـِ «داعش» في العراق وسورية وما زالت ناشطة في توريد أسلحة إلى تنظيمات تعتقد أنّها موالية للمعارضة السورية «المعتدلة» بدعوى مقاتلة «داعش» والجيش السوري في آن، مع علمها بأنّ معظم هذه الأسلحة ينتهي إلى أيدي «داعش» وما زالت ترفض التنسيق مع سورية وحلفائها من أجل رفع فعالية الحرب على «داعش» كونها تعتبر سورية بقيادة بشار الأسد عدواً وما زالت تتريّث في دعم مصر بقيادة عبد الفتاح السيسي لأنها لا تريد القطع مع تيار «الإخوان المسلمين» في مصر وسائر عالم العرب وما زالت تتباطأ في تنبيه حلفائها إلى خطر «القاعدة» و»داعش» في مناطق جنوب اليمن، ولا سيما في حضرموت وعدن.
تركيا هي الأخرى ما زالت تتهاون في مواجهة «داعش»، وترى أنّ له دوره الفاعل في مواجهة أكراد سورية في شمال شرق البلاد الذين تشكو من تعاونهم مع حزب العمال الكردستاني التركي، وتخشى من انفرادهم بإقامة حكم ذاتي في محافظة الحسكة وجوارها. إلى ذلك، ما زال رجب طيب اردوغان، ولا سيما بعد انتصار حزبه في الانتخابات، يمنّي النفس بأن تدعم «الأسرة الدولية اقتراحه بإقامة منطقة آمنة داخل الأراضي السورية»، وهو يُؤمل بأن يحظى بتأييدٍ لمشروعه من قمة مجموعة العشرين التي تستضيفها بلاده.
هذا التباين، بل التناقض، بين روسيا وإيران وسورية من جهة والولايات المتحدة وتركيا ودول «الناتو» وحلفائها الإقليميين من جهة أخرى، يستفيد منه «داعش» لتشديد ضرباته الوحشية في عمق سورية ولبنان والعراق ومصر واليمن، ظناً منه أنها تؤدّي إلى ضعضعة حكوماتها وقواها الأمنية وربما تُسهم في دعم البيئات الحاضنة لخلاياه النائمة. غير أنّ هجمات «داعش» الفائقة الوحشية حتى الآن أعطت نتائج عكسية، لا سيما في لبنان. فقد تجاوزت فئاته السياسية المتناحرة خلافاتها وتشنجاتها العصبية، وتلاقت جميعها في إدانة «داعش» وجريمته النكراء، وتداعت إلى التماسك الوطني في وجه الإرهاب والإرهابيين، والى سدّ الثغرات السياسية التي يتسلل منها «داعش» لإشعال فتنة مذهبية بين أهل السنّة وأهل الشيعة، وبين اللبنانيين والفلسطينيين. فالشقاق السنّي ــــ الشيعي على مستوى عالم الإسلام برمّته أضحى التربة الخصبة لإشعال فتن مذهبية مدمّرة في دوله ومجتمعاته.
هذا التناقض في الموقف بين الأطراف الدولية والإقليمية حيال «داعش» وطرائق التعامل معه أو مواجهته أدّى إلى تهديد مصير مؤتمر فيينا -2 الذي كانت دعت إليه روسيا في محاولة لتجسير الفجوة بين مختلف فصائل المعارضة السورية من جهة وبينها وبين الحكومة السورية من جهة أخرى. فقد أصرّت الولايات المتحدة وحلفاؤها على حصر تمثيل المعارضة السورية بجماعة «الائتلاف الوطني» خالد خوجه الذي يتخذ من اسطنبول مقراً له، في حين أصرّت روسيا وحلفاؤها على تمثيل هيئات معارضة أخرى من بينها «مجموعة استانا» رندا قسيس ولجنة «مؤتمر القاهرة» هيثم مناع وحزب الإرادة الشعبية قدري جميل و»هيئة التنسيق الوطني» حسن عبد العظيم . غير أنّ أميركا وحلفاءها تحفظوا بدعوى أنّ «الائتلاف الوطني» كان حاز على تأييد «مؤتمر أصدقاء سورية» و120 دولة شاركت في لقائهم الأول في باريس، متجاهلةً أنّ مياهاً كثيرة جرت تحت الجسور في السنوات الثلاث الأخيرة، وأن لا وجود ميدانياً فاعلاً لـِ «الائتلاف»، خصوصاً بعد الحضور الروسي الكثيف، سياسياً وعسكرياً، منذ مطلع الشهر الماضي.
ماذا بعد؟
إذا بقي التناقض بين الأطراف الدولية والإقليمية سائداً، فلا سبيل إلى حسمه إلاّ في الميدان وعلى مرأى ومسمع من سائر المشاركين والمتفرّجين…
(البناء)