هل يسمع رؤساء الغرب نصائح مخابراتهم: اذهبوا وتفاهموا سريعاً مع الأسد؟
ناصر قنديل
– تشبه عمليات 13 تشرين الثاني التي استهدفت باريس عمليات 11 أيلول التي استهدفت نيويورك وواشنطن، في الكثير من الوجوه، من حيث الضخامة والهول والرعب والذعر، كنتائج تركتها على مستوى البلد الذي استهدفت ناسه الأبرياء بلا ذنب، أو على مستوى وقعها في العالم كله كحدث يطغى على ما عداه ويبقى حاضراً لأمد غير قصير، وكمنعطف في السياسات يفرض نفسه عليها بصورة لم يكن ممكناً توقعه من دون وقوع هذا الحدث، هذا بالإضافة طبعاً، إلى أنّ اليد الصانعة للحدث تنتمي إلى المرجعية والمدرسة ذاتهما فكرياً وتنظيمياً، ولو تغيّرت الأسماء.
– الفارق الأول والشبه الأول بين الحدثين هو أنّ الحادي عشر من أيلول كشف للعالم خطر الإرهاب، ووجوده كظاهرة عابرة للقارات، وقدراته على تجاوز وتخطي كلّ الإجراءات الأمنية والاحترازية والوقائية، واستحالة صدّ مخاطره ما لم يتمّ اجتثاثه من الجذور، وجذوره فكرية ثقافية تعيش في ظلّ منهج عقائدي يقدّم نفسه باسم الدين، ويتخذ صفة المذهب التبشيري، وتتبنّاه دولة عضو في الأمم المتحدة، عضو بارز في مجموعة الأوبك تتولى قيادة الدول المنتجة للنفط في العالم، ودولة قائدة في العالم الإسلامي، وتستضيف أبرز مقدّساته التي تمثلها الكعبة المشرّفة، ودولة تترأس مجلس التعاون الخليجي الذي يشكل أهمّ قوة مالية عالمية بلا أعباء إنفاقية بالقياس لعدد السكان، هي المملكة العربية السعودية التي تتخذ من الوهابية مذهباً علنياً لها. وهو المذهب التفكيري الأول الذي تشتق منه التنظيمات الإرهابية منهجها، وتقيم المملكة عبر رموزها الدينية وبعض أمرائها وأحياناً كثيرة عبر مؤسساتها الرسمية علاقة تكامل مع التنظيمات الإرهابية بصورة علنية ورسمية. وبعد الحادي عشر أيلول تيقّن العالم من تلك الصلة وكتبت مراكز الدراسات الأميركية الكثير عنها، لكن العالم تعرّف على قرار بالحرب على الإرهاب دون المساس بعلاقة السعودية بالإرهاب ودون المساس بمكانة الوهابية في السعودية، ودون المساس بمكانة السعودية في العالم. وجاء الحادث الثاني بعد خمسة عشر عاماً ليقول إنّ العالم لم يتعلّم من نزيف الدماء المتواصل شيئاً ولا يزال النفاق في العلاقة مع السعودية، وفي تبنّيها للوهابية، وفي حضانتها للتنظيمات الإرهابية بصورة مباشرة وغير مباشرة. ولا زالت مفاهيم الحرب على الإرهاب تترنح على الإيقاع ذاته. ويأتي التكرار المؤلم ليقول إنّ المصالح الصغيرة والشخصية ورخص القادة في العالم، وتحكّم مصالح الشركات بالسياسات على حساب أمن المواطنين لا يزال سبباً في تدفيع البشرية أثماناً لا يمكن التسامح مع المتسبّبين بها.
– الفارق الثاني هو الشبه الثاني بين الحادثين، أنّ الأول في الحادي عشر من أيلول شكّل إيذاناً بسقوط سياسة الاحتواء التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأميركية مع الإرهاب، منذ حرب أفغانستان الأولى ضدّ الاتحاد السوفياتي والدور الذي لعبه التحالف الأميركي السعودي في صناعة ما عرف بحركة المجاهدين التي صارت تنظيم «القاعدة» في ما بعد، وجاءت أحداث الحادي عشر من أيلول لتقول إنّ الاحتواء كذبة، وإنّ توظيف الإرهاب في تحقيق أهداف سياسية رابحة وهم، وأنّ التحالف مع الإرهاب لعبة روليت روسية قد تنجو الدول والشعوب من طلقتها الأولى، لكنها ستصاب حكماً في إحدى دوراتها اللاحقة، لكن هذه العبرة لم تعمّر طويلاً فيأتي الحادث الثاني في باريس ليقول إنّ العالم الذي لم يتعلّم أنّ عليه تخيير السعودية الحاضنة للوهابية والمولدة للإرهاب بين خيارين لا ثالث لهما، إما أن تخلع ثوبها العقائدي وعلاقاتها المشبوهة بالإرهاب، أو أن تصبح تحت سيف الملاحقة كملاذ للإرهاب. هذا العالم نفسه لم يتعلّم أيضاً ولم يتّعظ من الحادي عشر من أيلول من العبرة الثانية، وهي استحالة استعمال الإرهاب واتقاء شرّه في آن، وها هي أحداث باريس تأتي بعد تكرار حماقة الغرب ذاتها، بالتعاون مع السعودية ذاتها، وبالغرور الغبي الواثق من قدرته على تفادي الطلقة المثبتة في المسدس وهو يدور قرب الرأس. وها هو العالم يسقط مرة ثانية في الكارثة ذاتها، ليس بسبب الغباء والغرور وحدهما، بل لأنّ المصالح الاستعمارية الهادفة لتطويع الدول المستقلة تتقدّم على عِبر التاريخ وحكمة السياسة، ومصالح الشركات والأشخاص ورخصهم، ورخص دماء الشعوب عليهم، تتقدّم على مصالح الشعوب وتضحّي بها وتفرّط باستقرارها وأمنها ودمائها دون أن يرفّ لها جفن أو تهتزّ لها ركبة، رغم كلّ ما في ذلك من استهتار بمعايير الديمقراطية والمساءلة والمحاسبة التي تبدو كذبة كبيرة، عندما يعيد الغرب بمؤسساته الديمقراطية العريقة إنتاج ذات السياسات والقيادات والكوارث والدماء والتضحية العمياء بالأمن والاستقرار.
– الفارق الثالث بين الحادثين وهو الشبه الثالث بينهما، أنّ الأول قد أعلن بعد الحادي عشر من أيلول نقطة الانطلاق لحرب سُمّيت بالحرب على الإرهاب وانتهت بغزو أفغانستان والعراق، وتواصلت أشكالاً من الحرب غير المعلنة، على جبهات عديدة، وتأتي أحداث باريس لتقول بوضوح بفشل هذه الحرب مرتين: الأولى بمجرد تنامي الإرهاب منذ الإعلان عن ولادة «داعش» وسيطرة التنظيم على ثلث العراق وتمدّده في سورية بعد عشر سنوات على سقوط بغداد بيد الأميركيين وإعلان حربهم على الإرهاب. ومرة ثانية بمجرد نجاح «داعش» بالضرب بقسوة ووحشية ودموية في باريس بعد سنة ونصف السنة على التحالف المعلن للحرب على «داعش» بقيادة واشنطن وعضوية باريس. والفشل هنا لا يحتاج إلى إعلان واعتراف ليثبت أنه فشل القيادة والمنهج، وبالتالي فشل الغرب كله في مواجهة الإرهاب، مهما كانت الخطب والبيانات صارمة ومليئة بالكلمات الحماسية والرنانة فماذا يملك الذين فشلوا طوال أربعة عقود منذ حرب أفغانستان الأولى، كي يطمئن مَن يستمع لهم اليوم أنهم قادرون على الفوز بالحرب، هذه المرة؟
– الفارق الرابع هو الشبه الرابع بين الحادثين، أنّ الأول في الحادي عشر من أيلول قام على ضرب المركز الافتراضي للإرهاب في أفغانستان، وترتب عليه تسعير فرص تناسله، لأنّ الاحتلال الأجنبي ينتج ضياعاً للمفاهيم بين مقاومة الاحتلال والإرهاب، فيمنح الإرهابيين خزاناً بشرياً من الشعوب التي تخضع للاحتلال، وهذا ما حدث في أفغانستان وتكرّر في العراق، بينما يأتي حادث باريس، فيما الغرب يراهن على ترحيل الإرهابيين من بلدانه وتجميعهم في سورية والعراق فيتخلّص منهم، ويستخدمهم في آن واحد، ليثبت في المرتين، أنّ وجود بؤرة للإرهاب تشكل وجهة جذب للإرهابيين من أنحاء العالم، لا تستقطب عدداً ثابتاً من الإرهابيين وتجفف مواردهم البشرية بذلك، بقدر ما تمنحهم محفزاً على التناسل، فيتضاعفون ويتكاثرون في بلاد المنشأ، وليس فقط حيث يتشكل القطب الجاذب. وها هي أحداث باريس تقول إنّ عشرات المسلحين والانتحاريين كانوا يحتلون باريس ليلاً، بصورة ما كان ممكناً أن تحدث قبل تورّط فرنسا في تسهيل تطويع وترحيل الإرهابيين إلى سورية عبر تركيا بالوهم المزدوج المسمّى بغباء بالاحتواء المزدوج،. وصورة فابيوس يصافح مهدي الحاراتي قائد «داعش» الليبية اليوم، على الحدود التركية والسورية، وهو يشدّ على يده ويقول «أنتم أبطال الحرية»، تكفي لنعرف عما نتحدّث.
– الفارق الخامس هو الشبه الخامس بين الحادثين، أنّ الأول في الحادي عشر من أيلول جاء في ظلّ وهم القدرة الغربية على إمكانية الفوز بالحرب، سواء بالوسائل الجوية دون نزول الجيوش البرية أو بنزول هذه الجيوش، بينما تأتي أحداث باريس والغرب يسلّم بلا جدوى الغارات الجوية في صناعة النصر الحاسم في هذه الحرب دون قوات برية تتولى القتال على الأرض، ويسلّم أنه لا يملك، وأنّ حلفاءه مثله لا يملكون القدرة على تعبئة هذه الجيوش البرية اللازمة لهذه الحرب. وهم يعرفون أنّ من يملك هذه القدرة هم خصومهم السياسيون من إيران وروسيا وسورية والعراق وحزب الله، وأنهم بسبب الكيد السياسي والمصالح الخاصة والفئوية يرفضون التعاون اللازم لتحشيد الجهود العالمية والإقليمية، وغالباً يفعلون ذلك كرمى لعيون الجهة التي يجب أن توضع على لائحة العقاب في أيّ حرب جدية على الإرهاب، التي تمثلها السعودية، لتكون الحرب ذات جدوى، فلا زالوا يناورون ويداورون للتهرّب من الاستحقاق الذي تفرضه الحرب، وهو التخلي عن سياسات الإملاء والوصاية التي يسعون إلى فرضها على سورية والسوريين لزحزحة رئيسهم من منصبه، انتقاماً من خياراته الاستراتيجية والسياسية ومواقفه المتمسكة بالاستقلال الوطني والداعمة لخيار المقاومة، وتسديداً لفواتير الولاء للسعودية و«إسرائيل».
– وحده الرئيس السوري ووحدها القوى المحلية المقاومة في العراق ولبنان، تقطع طريق الخلط بين الإرهاب والمقاومة التي يستدعيها الاحتلال الأجنبي، عندما يرفع راية الحرب على الإرهاب ويصير احتلالاً، ووحدهم هؤلاء يملكون القدرة البشرية اللازمة والمؤهلة لاجتثاث الإرهاب من الجغرافيا التي يحتلها، ووحدهم يثبتون أنّ الإرهاب ليس جبروتاً ولا قدراً، وأنه يهزم في ساحات القتال، وأنّ من يتصوّرونهم أبطالاً خارقين يفرّون أمام جنود الجيش السوري ورجال المقاومة في ميادين القتال. ووحدهم في محور المقاومة يتمسكون بحربهم بصفتها حرباً على الفكر الذي تمثل الوهابية مصدره الأساس وتشكل السعودية نقطة الانطلاق فيه، وقاعدة الارتكاز ومصدر التمويل وخزان القتلة والانتحاريين.
– تنقل الصحف عن مسؤولي المخابرات الأميركيين السابقين والفرنسيين الحاليين والسابقين نصائحهم المتكرّرة بلا جدوى لقادة بلادهم، عن أنّ طريق الفوز في الحرب على الإرهاب يبدأ من التوجه إلى قصر المهاجرين في دمشق والتحدّث مع الرئيس بشار الأسد، فهل تنجح أحداث باريس بسماع الاعتراف الغربي الصادق لمرة واحدة بالخطأ أو الخطيئة. خطأ عنوانه التهرّب من رحلة دمشق، وخطيئة عنوانها التحالف مع السعودية والصمت عنها؟
(البناء)