لماذا «تحب» ميركل اللاجئين السوريين؟ وسيم ابراهيم
صيغ جديدة من السؤال لا تكف «مكنة» التكهنات عن إنتاجها. يتم تغليفها بالمادة التحليلية ذاتها غالباً، حول سوق العمل الألمانية وحاجاتها. تحضر دائماً عبارات الترحيب، المقتطفة من أحاديث المستشارة أنجيلا ميركل، ليصير حمل الجنسية السورية امتيازاً يفتح استثماراً جديداً أمام شبكات التزوير. كل هذا بني على تصوّرات، لا تجد دراسات جديدة تدعمها، بغض النظر عن مدى صوابها. لكن الآن هناك، للمرة الأولى، مؤشرات عملية مباشرة، تستند إلى تحليل مبدئي أصدرته المفوضية الأوروبية في بروكسل قبل أيام. الخلاصة الاجمالية تقول: «أهلا باللاجئين السوريين»، فأثرهم على الاقتصاد الأوروبي «إيجابي»، بالنسبة إلى نموه ومشكلات الشيخوخة، فيما لا أثر سلبيا يذكر سيلحقونه بالموازنات الحكومية الأوروبية.
الدراسة التي أصدرتها بروكسل مبنية على افتراض وصول ثلاثة ملايين لاجئ إلى الاتحاد الاوروبي، حتى العام 2017. تأخذ الدراسة بالاعتبار أن نسبة من اللاجئين سيرفضون، لأنهم سيعتبرون «لاجئين» اقتصاديين من دول آمنة. لذا، يفترض نموذج الدراسة قبول مليون لاجئ هذه السنة، ليضاف إليهم 1.5 مليون السنة المقبلة، ثم نصف مليون في السنة الثالثة.
تركز الدراسة على القيام بتحليل الأثر المفترض على اقتصاد ألمانيا، على اعتبار أنها ستقبل نصف اللاجئين في التكتل الأوروبي. توقعات بروكسل تذهب في مستويين: الأول، في حال كان للاجئين مستوى مهارات المواطنين ذاته، يتوقع إضافتهم إلى الناتج المحلي 0.56 في المئة بحلول 2017، لترتفع إلى 0.72 في المئة في العام 2020. الدخل الاجمالي لألمانيا العام الماضي سجّل 3842 مليار دولار (اليورو يساوي 1.09 دولار). وفقاً لذلك، حساب المساهمة الفعلية لتدفقات اللاجئين سيجعلهم يضيفون 21.5 مليار دولار إلى الناتج الالماني، خلال عامين، وصولاً إلى 27.7 مليار دولار خلال أربعة أعوام.
ولكن، حتى في حال وصف مهارات اللاجئين بانها «ضعيفة»، مقارنة بالمواطنين، ستكون مساهمتهم إيجابية أيضاً، إذ ستضيف حينها تقريباً 0.5 في المئة إلى الناتج الالماني خلال أربعة أعوام. أما على مستوى الاتحاد الأوروبي ككل، فمن المتوقع أن يضيف اللاجئون إلى دخله الاجمالي نحو 0.3 في المئة بحلول 2020، أي ما يزيد على 55 مليار دولار.
هذه المساهمة تصفها المفوضية الأوروبية بأنها إيجابية و «صغيرة»، لكنها لا تبدو كذلك، حين مقارنتها بمساهمات يتم الترويج لها ليل نهار في بروكسل. مثلاً، تتواصل الآن مفاوضات لعقد اتفاقية للتجارة الحرة، بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. أحد أبرز عناوين الترويج لها هو أنها يمكن أن تزيد الناتج الاجمالي الاوروبي ما بين 0.5 إلى واحد في المئة، أو ما يعادل 86 مليار يورو.
لكن الاضافة المباشرة للدخل الوطني ليست كل «الايجابية». طبعاً كل شيء يعتمد على فعالية إدماج اللاجئين، في المجتمع وسوق العمل، بما في ذلك سرعة برامج التدريب اللازمة. المانيا معروفة أوروبياً بأنها من بين الأنجح في إتمام هذه العملية. حينما يبدأ اللاجئ في الانتاج، ويدخل نظام العمل، ستزداد الإضافة التي يقدمها. فكما تورد المفوضية الأوروبية: « الدراسات تشير إلى أن المهاجرين غير الأوروبيين يتلقون عادة منافع فردية أقل من مساهمتهم في الضرائب والمساهمة الاجتماعية».
اتحاد نقابات العمال الأوروبية قال أكثر من ان المنافع أقل من المساهمات، بالنسبة للاجئين. أمينه العام لوكالي سانتيني أكد في مقابلة سابقة مع «السفير» أن «هناك فرصة حقيقية لتحسين النمو وخلق الوظائف بفضل المهاجرين إلى أوروبا، وإذا دققنا سنرى أن ما يقدمه المهاجرون من مساهمات اجتماعية ومدفوعات ضرائب يبلغ ضعف ما يتلقونه من خدمات وتقاعد».
الفوائد المحتملة تشمل المساهمة في إصلاح اختلالات اقتصادية، ما يعني تقليل الخسائر الناجمة عنها. أحد الجوانب المتصلة هو تفضيلات العمال الأوروبيين، وما يتركه ذلك من فجوات مناطقية في سوق العمل. حول هذه المسألة، تقول تقديرات بروكسل إنه «يمكن للمهاجرين المساعدة في علاج مشكلات في الفروق بين المناطق، عبر أخذ الوظائف في قطاعات، ربما المواطنون غير راغبين في العمل فيها، وعبر أن يكونوا أكثر استجابة من المواطنين للفروق المناطقية في الفرص الاقتصادية». فجوة أخرى تشير إليها المفوضية الأوروبية، لجهة إمكانية أن تساعد موجات اللجوء على سدها، على اعتبار أن «اللاجئين هم أكثر قابلية للعمل دون مستوى مؤهلاتهم».
أما من يغلفون الرفض العنصري للجوء، تحديداً اليمين المتطرف وجمهوره، فلا تورد المفوضية أسباباً تدعو إلى التخويف. أكدت على أن استضافة ثلاثة ملايين لاجئ لن تزيد تعداد سكان الاتحاد الأوروبي أكثر من 0.4 في المئة. الإنفاق الأولي على اللاجئين، في مرحلة الادماج الأولى، وقبل انتقالهم لسوق العمل، سيكون أثره على الموازنات صغيراً جداً، يكاد يُهمل بتأثير عوامل أخرى، كذلك الأمر بالنسبة إلى الأجور وإلى نصيب الفرد من الناتج الاجمالي. أما من يرفعون شعار الرفض «اللاجئون يأخذون وظائفنا»، فتقول المفوضية إن «الهجرة ليس لها تأثير واضح، أو قليل، على مستويات البطالة» الأوروبية.
بناء على التقديرات السابقة، تخلص المفوضية إلى أنه «مع شيخوخة السكان (في الاتحاد الأوروبي) وتناقص اليد العاملة، يمكن للهجرة أن تغيّر التوزع العمري بطريقة تقوّي الاستدامة المالية»، لكن استناداً إلى الابحاث السابقة «الهجرة لا يمكنها بمفردها حل المشكلات المرتبطة بالشيخوخة».
تحليل المفوضية يمكنه إقامة جسور توصل إلى سياسة «الترحيب» الالمانية، باللاجئين السوريين على وجه الخصوص. بحسب تقديرات وزارة داخلية برلين، يشكل السوريون النسبة الأكبر من تدفقات اللجوء، ليأتي بعدهم مواطنون من البانيا وأفغانستان والعراق وكوسوفو. بالنسبة للقادمين من البانيا وكوسوفو، ودول البلقان غير العضو في الاتحاد إجمالاً، لا يتم قبولهم كلاجئين لأنهم من دول مصنفة على أنها «آمنة».
حين النظر إلى مستوى التعليم والمؤهلات، الأفضلية ترجح كفة السوريين. تقارير منظمات الأمم المتحدة تحدثت كثيراً عن تدهور التعليم والتأهيل في العراق وأفغانستان، على مدى عقود من الحرب والنزاعات. الأمر يتكرر في سوريا، لكن معظم اللاجئين من الشباب الذين كبروا في ظروف استقرار طويل قبل الأزمة والحرب. هذه الاعتبارات لا يمكن إغفالها بالنسبة لصانع القرار الألماني، خصوصاً أن ميركل تشجع على عقد اتفاقية «إعادة قبول» مع أفغانستان، لإعادة مواطنيها اللاجئين إليها، رغم أنها دولة مصنفة «غير آمنة».
المشكلات المتعلقة بالشيخوخة يظهر أثرها في المانيا أكثر من غيرها، فاقتصادها يحتاج آلة هائلة من اليد العاملة. التقديرات السابقة على تدفقات اللجوء أشارت إلى حاجة المانيا إلى نحو نصف مليون مهاجر سنوياً، لتغطية النقص في اليد العاملة. فوق ذلك، هناك نسبة إعالة عالية، تتجاوز 30 في المئة. حالياً، تلفت دراسات متخصصة إلى أن كل عامل الماني يعيل ثلاثة متقاعدين، عبر المساهمة الاجتماعية التي يدفعها للنظام الاجتماعي. في حال عدم معالجة الفجوة السكانية الناتجة من الشيخوخة، يتوقع أن تتضاعف نسبة الاعالة في العقود الثلاثة المقبلة.
نظراً لوجود نظام إدماج فعال، مجرّب سابقاً، يمكن لألمانيا توظيف تدفقات اللاجئين لحل مشكلة تراجع شرق المانيا مقارنة بغربها. هذا التراجع لم تصلحه سنوات توحيد المانيا بعد العام 1990. حجم مساهمة الشرق في الناتج الاجمالي 15 في المئة فقط، مقابل 85 في المئة للغرب. البطالة مضاعفة، بحدود 10 في المئة. هذا التراجع أدى لنزوح حوالي 1.2 مليون مواطن الماني، انتقلوا من المناطق الشرقية إلى الغربية، ما أدى إلى ظهور ما يسمى «المدن المنكمشة» في الشرق الالماني، بعدما فقدت بعض المدن حوالي 25 في المئة من سكانها.
المانيا تعالج الآن الخلافات السياسية الداخلية حول سيل اللجوء. لن تقام «مناطق عبور»، لحجز اللاجئين على الحدود، بل خمسة مراكز استقبال في الأقاليم. ستسرّع اجراءات اللجوء، ليبت في الطلبات خلال ثلاثة أسابيع، مع تسريع الترحيل لغير المقبولين. خلال كل السجالات، رفضت ميركل وضع سقف لعدد اللاجئين الممكن استقبالهم، مرددة مقولة تستفز معارضي سياستها: «يمكننا إدارة اللجوء». لماذا ترحّب ميركل بالسوريين؟ لماذا «تحبهم»؟ الاجابة الحاسمة غير ممكنة. ملامحها ستتضح أكثر فأكثر، كلما تسربت التقارير، والدراسات، التي وصلت إلى مكتب المستشارة. تلك التي جعلت قرار «الترحيب» يتّخذ على أعلى مستوى سياسي، في دولة «المحرك الألماني» التي تتباهى بريادتها في حكم المؤسسات.
(السفير)