«فيتو» الحريري يمنع تحرير عرسال ابراهيم ناصرالدين
تحول عرسال الى «ارض صراع» بين المجموعات التكفيرية يزيد من تعقيدات المشهد الامني على الساحة اللبنانية، فهل تطلق السلطة السياسية «يد» الاجهزة الامنية للتعامل مع الوضع المستجد بحسم وشدة؟ بعد ان وصلت تحذيرات دبلوماسية تؤكد على ضرورة الاسراع في التحرك لان اهمال هذا التحول وعدم التعامل معه بالسرعة المطلوبة سيؤدي الى نتائج كارثية تتجاوز الاحداث الماضية في البلدة ومحيطها.
اوساط سياسية بقاعية على صلة بقوة 8 آذار تحمل قوى 14آذار عموما، وتيار المستقبل على نحو خاص مسؤولية حالة الانفلات الامني الراهنة بعد ان وضع «التيار الازرق» خطا احمر» امام المؤسسة العسكرية للحسم في البلدة، وربط وزير الداخلية نهاد المشنوق وقتذاك اي حل «بابتزاز» حزب الله والتيار الوطني الحر، بطرح نقل مخيمات اللاجئين الى العمق اللبناني، مع العلم ان غالبية الموجودين فيها من بيئة معارضة للنظام، ومعظم المقاتلين في الجرود من تلك المخيمات وينتمون الى تنظيمات تكفيرية، ومن الاولى حصر تواجدهم عند الحدود وليس توسيع رقعة انتشارهم في الداخل اللبناني. وهذ التعنت ورفض تسوية الملف ترك عرسال «قنبلة موقوتة» لا يعرف احد ما تنفجر في وجه الجميع.
ووفقا لتلك الاوساط، في الساعات الاولى التي تلت التفجير الذي استهدف «هيئة علماء القلمون»، نصحت فعاليات من عرسال المسؤولين اللبنانيين بعدم التدخل راهنا في الخلاف بين المجموعات «الجهادية»، وعدم نقل المواجهة الى «الملعب» اللبناني. لكن حدود هذه «اللعبة» خرجت عن السيطرة بعد الهجوم الذي استهدف دورية للجيش في اليوم التالي للتفجير، فثمة من يعتقد ان هذا الحادث محاولة لاستدراج الجيش الى مواجهة مبيتة تريدها المجموعات المسلحة التابعة لـ«داعش» لخلط «الاوراق»، ومقدمة لما هو اسوأ، فيما يرى آخرون ان الاستهداف تقف وراءه مجموعات تابعة لجبهة «النصرة» تريد اعادة «اللحمة» الى المجموعات المسلحة، بهدف معالجة الانقسامات ولملمة ذيول التفجير وعدم اتساع تداعياته عبر اعادة الصراع الى «المربع الاول» عبر استهداف الجيش لردعه من جهة، ومن جهة اخرى محاولة ردع بعض قادة المجموعات المسلحة المصرين على القصاص من المتورطين «بالمقتلة» في مركز «هيئة علماء القلمون» من تنفيذ تهديداتهم، خصوصا ان الاشتباه في وجود انتحاري وراء التفجير اضعف «الدعاية» المضادة التي حاولوا الترويج لها باتهام حزب الله او استخبارات الجيش بالتفجير. فباعتقادهم «فالمشكل» مع الجيش يمنع الصدام الداخلي.
وامام هذه المعطيات، ترى تلك الاوساط ان معرفة الاسباب الحقيقية والكامنة وراء الاحداث الامنية المتتالية، وان كانت تشكل اولوية لدى الاجهزة الامنية، فانها ليست اكثر اهمية من المعضلة الاساسية المتمثلة بوجود المبادرة لدى تلك المجموعات وليس بيد السلطات اللبنانية، فالمعادلات السياسية القائمة تكبل «يد» الجيش وتمنعه من اتخاذ الاجراءات اللازمة والضرورية للجم المجموعات المسلحة لمنعها من تنفيذ اجنداتها المرتبطة بالوضع الميداني في سوريا، وبمصالح دول اقليمية توظف هؤلاء في «لعبة» تتجاوز الساحة اللبنانية، وتستخدمها «صندوق بريد» لتوجيه رسائل الى اكثر من طرف دولي واقليمي.
ونصحت اوساط ديبلوماسية في بيروت السلطات اللبنانية بوضع استراتيجية متكاملة وواضحة للتعامل مع الوضع القائم، واختيار التوقيت المناسب لانهاء الوضع الشاذ في عرسال وفي الجرود، لان التجارب السابقة اثبتت ان المؤسسة العسكرية، دفعت اثمانا باهظة نتيجة الاكتفاء برد الفعل بدل المبادرة الى الفعل ضد هذه المجموعات، والمرحلة المقبلة ستكون حبلى بالاحداث الخطرة ما لم يبادر الجانب اللبناني الى اتخاذ قرارات حاسمة وجريئة بتنفيذ عملية عسكرية وامنية واسعة في بلدة عرسال وجردها، وهذا الامر يتطلب قرارا سياسيا عالي المستوى من قبل تيار المستقبل الذي يرفض رفع «الخط الاحمر» الذي رسمه الرئيس سعد الحريري عندما بدأت المقاومة بالعملية العسكرية الواسعة في جرود القلمون، ومنعت الحكومة يومذاك الجيش من الاقدام على اي خطوة امنية او عسكرية جدية داخل عرسال.
هذه الخطوة باتت ضرورية اليوم لاكثر من سبب، بحسب الاوساط، الاول يتعلق بتطورات دراماتيكية مرتقبة على الساحة السورية بفعل ترقب تحول في تعامل روسيا مع الوضع الميداني بعد مستجدات الطائرة الروسية المنكوبة في شرم الشيخ، والثاني يرتبط بحاجة «داعش» الى توسيع رقعة الاشتباك لتخفيف الضغط على قواتها في سوريا. فبعد وصوله الى بلدة مهين السورية في ريف حمص باتت الجغرافيا اللبنانية تغري «التنظيم» لوصل مناطق نفوذه الممتدة الى جرود القاع وراس بعلبك، وبعد مبايعة عدد لا بأس به من المجموعات المرتبطة بـ«النصرة» في جرود عرسال، يبدو مرجحا اقدام هؤلاء على تحريك كامل الجبهة لارباك المشهد الميداني واشغال حزب الله في معركة فوق ارضه لمنعه من اطلاق «المعركة المؤجلة» في الجرود والتي ستؤدي اذا ما اندلعت الى اجهاض الانجازات المحققة في ريف حمص.
وفي البعد الاخر تتجه التطورات المرتبطة بالطائرة الروسية الى مزيد من التوظيف على الساحة السورية، فبعد محاولة الغرب ابتزاز موسكو عبر الاستعجال بالاعلان عن تعرض الطائرة لتفجير ارهابي، واحراجها امام الرأي العام من خلال الايحاء للشعب الروسي انه بدأ يدفع ثمن توريطه من قبل الرئيس فلاديمير بوتين في الحرب السورية، بدأ الكرملين يستعيد المبادرة وثمة تحضيرات جدية للتعامل مع الحدث اذا ما ثبت تورط تنظيم ارهابي في التفجير.
فثمة اجراءات تصعيدية غير مسبوقة ستتخذها القيادة الروسية من خلال تزخيم العمليات العسكرية في سوريا، تؤكد الاوساط، ولن تكون هناك اي ضوابط او «خطوط حمراء» ازاء العمليات الروسية التي ستكون اكثر قسوة وفعالية، ولن يكون مستبعدا تحريك قوات خاصة على الارض بعد حصول بوتين على دعم عارم من الشعب الروسي الذي سيطالبه «بالانتقام» من المسؤولين عن التفجير. وهذا التصعيد الروسي لن يقتصر فقط على الميدان، فموسكو لن تتهاون مع الدول الاقليمية التي تمد تلك المجموعات الارهابية بمساعدات لوجستية، وستكون القيادة الروسية حاسمة في توجيه رسائل حازمة الى تلك الدول للتعاون في مكافحة هؤلاء، وهذا يعني ان طبيعة العلاقة مع تركيا والسعودية وقطر ستنحو نحو المزيد من التازم، وستكون هذه الدول امام استحقاقات صعبة جداً، فيما يمكن للبنان الاستفادة من هذا الزخم الروسي من خلال الطلب رسميا من القيادة الروسية توسيع ضرباتها الجوية لتشمل مواقع المسلحين على الحدود الشرقية، وهذا يتطلب قرارا صريحا من قبل مجلس الوزراء. فهل تقدم الحكومة اللبنانية على هذه الخطوة؟
تستبعد اوساط سياسية لبنانية حصول اجماع لبناني على ذلك، لكن الامر سيكون محرجا لتيار المستقبل و14 آذار، فحجتهم بعدم التعاون مع الجيش السوري سقطت، ولا شيء يمنع الاستعانة بالروس، لكن الرياض لن تسمح لحلفائها في لبنان بالموافقة على خطوة مماثلة، فالكثير من هذه المجموعات تعمل لدى الاستخبارات السعودية، وموسكو لن تقبل التصنيفات السعودية للارهاب، وهذا يشرع الابواب نحو المزيد من الانقسامات الداخلية، وهذا يعني ان الامور ستتجه نحو الاسوأ، خصوصا اذا ما فتحت المجموعات المسلحة المواجهة في التوقيت الذي يناسبها. في المقابل تبقى للمقاومة اجندتها الخاصة ايضا، ومتى شعرت بتعاظم المخاطر ستكون مضطرة الى استكمال ما بدأته من عمليات عسكرية لتحرير جرود «الجبهة الشرقية»، اما عرسال فتبقى مسؤولية طبقة سياسية لبنانية تقاعست في اكثر من زمان ومكان، وفرضت المعطيات الميدانية تدخلا غير مرغوب من قبلها للجيش الذي اثبت قدرته على الحسم.
(الديار)