سوريا والتحوّلات الكبرى ساسين عساف
الحرب على سوريا وفيها تؤشّر إلى أنّ مرحلة التحوّلات الكبرى دولياً وإقليمياً قد بدأت فاللحظة السورية بدّلت في استراتيجيات الدول المعنية بصراعات منطقة الشرق الأوسط وحروبها. ما يجري في سوريا يرسم مستقبل النظام العالمي الجديد ومستقبل النظام الإقليمي الجديد. والبيئة الإستراتيجية المتشكّلة في العالم والإقليم تتشكّل لصالح القوى المناهضة لمشروع السيطرة الأميركية. هذا المشروع بدأت عجلاته تدور على سكّة الإنهزام التاريخي. السيطرة على قلب منطقة الشرق الأوسط لم تعد ممكنة. والسبب إدارة أميركية فاشلة لأزمات المنطقة، إدارة على طريقة المافيا بتعبير تشومسكي.
منذ خدعة الروس في الحرب الأطلسية على ليبيا اشتدّ إرتفاع الصوت الروسي في وجه الإدارة الأميركية وأخذ الكلام مضمونه الإجرائي على ضرورة تشكيل قوى دولية مناهضة للسياسات الأميركية خصوصاً ما يتعلّق منها بدول “الربيع العربي”. من هنا بدأت مرحلة الحسم وتعزّزت ملامحها بعودة بوتين إلى رئاسة روسيا في 4 آذار 2012 فعادت معه روسيا بقوّة إلى أخذ موقعها الراجح في موازين القوى الدولية وإلى تثبيت مشاركتها الفعّالة في وضع قواعد الإشتباك الدولي وفي إسقاط النظام الأميركي الأحادي الذي ترسّخت قواعده بعد زوال الإتحاد السوفياتي.
ومنذ إعلان الحرب على سوريا (الدولة والموقع والنظام والرئيس) أعلنت موسكو لااءاتها الثلاث: لا للتدخّل الأميركي أو الأطلسي، لا لتنحّي الرئيس بالقوّة، لا للمعارضة المسلّحة.. هذه اللاءات جاءت لتؤكّد أنّ سوريا هي في صلب المصالح الإستراتيجية الروسية وانّ روسيا راغبة منذ البداية بإجراء حوار بين النظام والمعارضة الوطنية غير المسلّحة وحريصة على إصلاح النظام السياسي وجعله أكثر إنفتاحاً على أوسع مشاركة سياسية تعدّدية (تأييد إصلاحات الرئيس الأسد والدعوة إلى السرعة في التنفيذ، وتشكيل حكومة وحدة وطنية موسّعة تأتي نتيجة تحقيق تفاهم بين النظام والمعارضة الوطنية). في هذا السبيل عملت واستضافت المعارضة غير مرّة. وإلى جانب طهران ودمشق راحت تخطّط لخوض حرب إستراتيجية مع داعمي المعارضة المسلّحة تحت عنوان تغيير جذري في الواقع الإقليمي والدولي فتركيا راحت توجّه تهديدات لسوريا فضلاً عن التهديد بدور للأطلسي فيها كذلك فعلت معظم دول الإتحاد الأوروبي وفي مقدّمها فرنسا.
في هذا السياق وبناء على طلب الحكومة السورية جاء التدخّل العسكري الروسي المباشر فروسيا لا تضحّي بمصالحها الإستراتيجية الأمنية والإقتصادية خصوصاً وخطّ القوى المناوئة لأميركا في تصاعد، خطّ مجموعة الدول المعروفة بدول البريكس.
هذا التدخّل المعلن والمفتوح والمتدحرج عسكرياً ضدّ مسلّحي الدولة الإسلامية في العراق والشام أحدث مجموعة تحوّلات كبرى قد تنذر بجعل العالم يعيش في لحظة الإنتقال من الحرب الباردة إلى الحرب الساخنة على الرغم من وفرة الكلام على تفاهمات عسكرية وديبلوماسية قائمة بين روسيا وأميركا. حتى اليوم الضربات الروسية لا تبشّر بانتصار عسكري سريع وحاسم. كما أنّ أيّ تدخّل عسكري أميركي أو أطلسي فعّال يبدو صعباً ما يوحي بأنّ الحرب ما زالت في بداياتها خصوصاً إذا استمرّ الدعم العسكري لداعش.
من المرجّح في حال عجزت روسيا عن تحقيق أهدافها في سوريا بروز مؤشرات سلبية في الأوضاع الإقليمية بعامة ومنها بخاصة الوضع في لبنان وتركيا والأردن ولاحقاً في دول الخليج العربي. فالأوضاع لن تبقى على “توتّرها الممسوك” وتدهورها ممكن في أيّ لحظة ربّما يسعى إليها الطرف الأميركي كي يتمكّن من فرض تسوية إقليمية شاملة عنوانها قديم متجدّد: شرق أوسط جديد أو شرق أوسط كبير فيه تزول حدود وترتسم حدود.. إنّها حدود الدم!
أميركا ليست في وارد الذهاب مباشرة إلى حروب جديدة ما يترك المجال واسعاً أمام المزيد من الإندفاع الروسي في حروب المنطقة ذلك أنّ دمشق هي جسر العبور إليها وأنّ للرئيس بوتين أسلوبه الخاص في خوضها في منطقة لروسيا فيها مصالح ودور تاريخي. يكفي قوله أمن روسيا من أمن سوريا لإدراك ما يتوخّاه من حربه دفاعاً عنها: العودة إلى المنطقة من بوّابة دمشق، دمشق التي أيّدت تدخّله في جورجيا وفي أوكرانيا، دمشق التي وافقت على إقامة قاعدة صواريخ روسية فوق أراضيها ردّاً على إقامة الذراع الصاروخي الأميركي في بولونيا.
الحرب على داعش هي بداية طريق العودة الروسية إلى منطقة الشرق الأوسط كي تتمكّن روسيا من المشاركة في إعادة تشكيل مستقبل هذه المنطقة بعيداً من السيطرة الأميركية الكلية والتامة عليها. في لحظة الحرب الروسية على داعش بدأت تتبلور خريطة المصالح الدولية فالتحالف الدولي الذي شكّل بقيادة أميركا لمحاربة داعش رافقته شكوك في صدقية دوافعه ومجرى عملياته واستهدافاته العسكرية. جاءت الحرب الروسية في لحظة تاريخية مؤاتية لكشف حقيقة موقفه من داعش. تباين المواقف بين روسيا وأميركا من داعش يعود إلى تنافر المصالح فأميركا تسعى إلى إخراج روسيا نهائياً من معادلة الصراع في المنطقة عن طريق تدمير سوريا (داعش هي إحدى وسائل التدمير) وروسيا تسعى إلى إخراج أميركا من مداها الحيوي (سوريا هي أهم نقاط هذا المدى) والسؤال الإشكالي هنا هو التالي: ماذا تفعل أميركا في حال تيقّنت ميدانياً من قدرة روسيا على إلحاق هزيمة محقّقة بداعش وتثبيت أقدامها في الداخل السوري وعلى شاطئ المتوسّط؟ هل هي في وارد تحريك قوى التحالف للمواجهة؟ نشكّ في ذلك لأنّ التحالف نفسه هو تجميع معقّد للمصالح..
التدخّل الروسي العسكري في شؤون المنطقة يشكّل منعطفاً إستراتيجياً في صراع المصالح الدولية. وهو تأكيد إستراتيجي للدفاع عن حلفاء روسيا وهو تهديد إستراتيجي لمصالح أميركا. فالسيطرة الأميركية على المنطقة لم تعد أمراً متاحاً ولا مناص لأميركا من الإعتراف بنتائج هذا التدخّل مهما كانت.
هذه الخلاصة ناتجة عن قراءة الأعمال لا قراءة التصاريح. روسيا تعمل وأميركا تصرّح.. القراءة في الأعمال أجدى من القراءة في التصاريح. فهل بدأت أميركا بالبحث في مرحلة ما بعد التدخّل الروسي؟