مقالات مختارة

النموذج التركي: «وظائف» الداخل والخارج محمد نور الدين

 

انصرف الجميع إلى تقييم نتائج الانتخابات النيابيّة الأخيرة، كلٌّ بحسب الزاوية التي تموضع فيها.

حزب «العدالة والتنمية» كان الرابح الأكبر، وربَّما الوحيد. الأفراح الجنونية التي عبَّر عنها ـ قادته قبل مناصريه ـ كانت تعكس القلق الكبير من أن تتكرّر نتائج انتخابات السابع من حزيران الماضي. لكن بما أنَّ «القطوع» قد مرّ وبنتائج فاقت التوقعات، فإنَّ الحزب مدفوعاً بهذه الصدمة الإيجابية عليه والسلبية على خصومه، سيسعى إلى استثمار الخضّة التي أصابت المعارضة، وتجيير النتائج على مجالات أخرى، وفي مقدّمها الدستور الجديد.

إعداد دستور جديد، سيكون عنوان المرحلة المقبلة، على أمل ألَّا تتكرَّر الوعود عشية انتخابات 2011 و2015 لتصبح طيّ سلّة المهملات.

بعد 13 عاماً من وجوده في السلطة، فإنَّ حزب «العدالة والتنمية» لم ينجح في إعداد دستور جديد للبلاد. الوعود التي كانت تُطلق، سرعان ما كانت تسقط أمام المصالح الانتخابية والسياسية ليبقى دستور العام 1982 بكل تعديلاته، هو ميزان السلوك السياسي للأحزاب.

أمَّا أبرز البنود التي ستواجه تحديات في إعداد دستور جديد، فهي المواد الأربع الأولى من الدستور التي تحدّد هوية الدولة وتعرّف من هو التركي. وهنا تبرز المطالب الكردية بتغيير تلك التي تعرّف التركي على أنه المنتمي إلى الأمّة التركية أي العرق التركي. ويدعو الأكراد إلى تعريف التركي على أنَّه المنتمي إلى تركيا، لا إلى الأمّة التركية، مع الإشارة في التعديل المقترح إلى الهويات المتعدّدة في تركيا.

ومثل هذا المطلب، قد يكون عصيّاً على التحقق بسهولة إذ يواجَه بمعارضة من القوميين الأتراك وهم كثر في النسيج السياسي التركي.

ويطالب الأكراد بتعديل قانون الانتخاب في إبطال شرط الحصول على العشرة في المئة لدخول البرلمان. وهذا المطلب ضروري لهم وللعدالة في تركيا، إذ أنَّها نسبة عالية جداً وتؤثر في خيارات الناخب الذي سيمتنع عن تأييد حزبه إذا كان صغيراً وليس له حظّ بالفوز ليعطيه لأحزاب أخرى من دون أن يكون ذلك عن اقتناع. كذلك، فليس من العدل أن يمنح المواطن صوته لحزب، ويجد أنَّه في حال خسارة هذا الحزب، سيذهب صوته لحزب آخر من دون إرادته، فتتغير خريطة البرلمان خارج أيّ معيار للعدالة.

ولا شك أنَّ مسألة الفصل بين السلطات ستكون نقطة بارزة في الدستور الجديد بعدما خضعت السلطة القضائية بالكامل لتحكم السلطة السياسيّة، ولا سيما بعد ظهور فضيحة الفساد في العام 2013 التي تورط فيها أربعة وزراء وابن رئيس الجمهورية بلال. لكن القضية طويت بعدما قامت حكومة أردوغان، حينها، بأكبر عملية تطهير في الدولة، مستبدلةً قادة للشرطة والقضاء، بموالين بالكامل لحزب «العدالة والتنمية».

كذلك، فإنَّ مسألة الحريات ستكون نقطة مركزية في إعداد الدستور الجديد بعد عمليات القمع المُمنهج واليومي للحريات الصحافية والفكرية. وآخرها بعد الانتخابات، بخلاف تعهدات أحمد داود اوغلو، اعتقال مسؤولي مجلة «نقطة» لأنَّها قالت بإمكانية حدوث حرب أهلية في البلاد.

مع كل ذلك، فإن نّية الجمّال في مكان آخر. نية أردوغان هي في الانتقال إلى نظام رئاسي، بعدما كانت قد دفنت في انتخابات السابع من حزيران الماضي. لكن نتائج الانتخابات الأخيرة أعادت إحياء عظام الاقتراح، خصوصاً أنَّ إمكانية ترجمته واقعاً لم تعد مستحيلة.

نال حزب «العدالة والتنمية» 317 نائباً؛ هو يحتاج إلى خمسين نائباً ليعدّل الدستور في البرلمان، لكن العدد غير متوفّر. لذا، فهو يحتاج 13 نائباً فقط (330 نائباً)، ليحال أيّ مقترح لتعديل الدستور على استفتاء شعبي. وفي الاستفتاء الشعبي، يأمل أردوغان أن ينال مشروع تعديل الدستور أكثرية كبيرة مدفوعاً بنيل حزب «العدالة والتنمية» حوالي 50 في المئة في الانتخابات الأخيرة. تحصيل 13 نائباً واستمالتهم من حزب «الحركة القومية» ليس بالأمر المستحيل؛ لكنَّه غير مضمون. سيشتغل حزب «العدالة والتنمية»، أولاً على نواب حزب «الحركة القومية» الذي تراجع عدد نوابه من 80 إلى 40 نائباً، أي يريد الحزب الحاكم ثلث نواب «الحركة القومية»، وهذا رقم كبير.

لكن يمكن أن يجد حزب «العدالة والتنمية» هذا الرقم بل ربّما أكثر منه في «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي الذي تراجع عدد نوابه من 80 إلى 59 نائباً، بمعنى أنَّه إذا حصلت صفقة بين حزب أردوغان والحزب الكردي، عندها يستطيعان تعديل الدستور في البرلمان، وليس في استفتاء شعبي.

وكان قد جرى حديث قبل سنتين أنَّ الأكراد يمكن أن يوافقوا على نظام رئاسي، في مقابل تضمين مطالبهم في الدستور الجديد. الآن يتجدَّد الكلام على هذه الصفقة، لكن من دون الجزم بإمكانية تحقيقها على قاعدة أنَّ تعديل الدستور في استفتاء شعبي عبر استمالة نواب غير أكراد، سيكون أفضل لأردوغان الذي يجد نفسه متحرراً من تقديم تنازلات إلى الأكراد.

وهذا يفتح على آفاق حلّ المشكلة الكردية، إذ يتوقّع بعض قادة حزب «العدالة والتنمية» أن تُستأنف المفاوضات مع زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان لحلّ المشكلة الكردية، خصوصاً بعد استعادة «العدالة والتنمية» بعض الأصوات التي فقدها في المناطق الكردية.

الانتقال إلى نظام رئاسي يعني حصر السلطات كلها بيد رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، الذي يصير في إمكانه العودة إلى ترؤّس حزب «العدالة والتنمية» وإلغاء موقع رئيس الحكومة ومساءلة الوزراء أمامه، لا امام البرلمان. وهنا ستكون تركيا أمام شبه استحالة لعودة العلمانيين لقيادتها في السنوات بل العقود المقبلة، في ظلّ حقيقة أنَّ أكثر من 60 في المئة من الأتراك محافظون، في مقابل 35-40 في المئة من العلمانيين واليساريين. ومثل هذا، إذا حصل، يعني إطلاق يد أردوغان في تغيير النظام السياسي في تركيا ليكون أكثر تديناً وأقل علمانيّة، ليصل إلى العام 2023 وتركيا تكون استعادت موروثها الثقافي العثماني على حساب الإرث الجمهوري الأتاتوركي، فلا يبقى من الجمهورية سوى اسمها ومن العلمانية سوى قشرة شكلية تستخدم تجاه الرأي العام الغربي والأوروبي لتغطية الصبغة الدينية للنظام الجديد.

ولا شك أنَّ هذا الأمر سيحظى بجدال ونقاش كبيرين على اعتبار أنَّ تركيا هي جزء من الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي لأوروبا، لاعتبارات جغرافية ووجود جاليات تركية وكردية كبيرة في القارة العجوز. وإذا كانت أوروبا والولايات المتحدة قد دعمتا نموذج حزب «العدالة والتنمية» كإسلام معتدل، فلأنَّه أمّن لهما تغطية ضدّ الحرب على الإرهاب الإسلامي؛ وكان بخطابه الاستقطابي والمذهبي، أداة ذهبيّة في المساهمة في تفتيت المنطقة وتوسيع الشروخ فيها؛ وهذه خدمة كبرى للمشروع الأميركي ـ الإسرائيلي لتفتيت المنطقة، غير أنَّ هذه الأوروبا والغرب، لن يكونا مسرورَين من تصاعد التيارات المتطرفة قومياً أو دينياً في تركيا التي سينتقل تأثيرها إلى أوروبا. وبالتالي، يمكن الاعتقاد أنَّ اوروبا والغرب ليسا منزعجين من فوز أردوغان واستمرار سياسات التفتين المذهبية والتفتيت الاجتماعي في سوريا والعراق وليبيا ومصر والخليج واليمن وغيرها، لكن مع بقاء هذا خارج التأثير على الداخل الأوروبي.

وعلى صلة بهذه النقطة، من دون الدخول في التأثيرات الإقليمية، فإنَّ إسرائيل أيضاً لا تجد غضاضة ولا انزعاجاً من فوز أردوغان بهذه النسبة الكبيرة ما دامت العلاقات الثنائية بينهما بمنأى عن تأثيراتها السلبية. وباستناء الخطاب الذي تصفه إسرائيل بـ «المعادي للسامية» لأردوغان، والذي يوظّفه في الداخل تجاه الفئات المحافظة ويوظفه في حربه ضدّ محور «الممانعة والمقاومة» لتبرير هذه الحرب وتخفيف الانتقادات له، فإنَّ اسرائيل ليست منزعجة إلى هذا الحدّ، ما دام هذا الخطاب لا يترجم دعماً عملياً للشعب الفلسطيني، الذي يحتاج إلى السلاح والتدريب، وهو ما لا تؤمّنه، بل ترفضه تركيا. حتى المال لا يصل إلى الشعب الفلسطيني، ومن أصل 200 مليون دولار، قررت تركيا تقديمها منذ سنتين إلى الفلسطينيين، لم يصل سوى 650 ألف دولار. ولا ننسى أنَّ سابقة إلقاء رئيس إسرائيلي، للمرة الأولى، كلمة امام البرلمان التركي حصلت في خريف العام 2007 في عهد سلطة حزب «العدالة والتنمية» الاسلامية برئاسة رجب طيب أردوغان بالذات، في حين لم يتجرّأ أحد من النخب العسكرية والعلمانية في تركيا ـ على امتداد نصف قرن ـ أن يفعلوا هذه السابقة برغم التحالف الوثيق بين البلدين. وهو ما يذكّر بالسابقة التي فعلها الرئيس المصري السابق محمد مرسي الذي تجاوز كل الحدود الأخلاقية للثقافة الإسلامية برسالته الشهيرة إلى شمعون بيريز الذي كان يمكن له الاستغناء عنها أو حتى كتابتها بأسلوب مختلف. وهذا النموذج من «الإسلام المعتدل» الذي يتجدَّد الحديث عنه بعد فوز «العدالة والتنمية» في الانتخابات الأخيرة، يعزّز المنحى الذي يرى في هذا الإسلام مجرّد أداة لخدمة السياسات الغربية ـ الإسرائيلية، ومنها تكريس شرعية الكيان الإسرائيلي في المنطقة وتعزيز أمنه، خصوصاً أنَّ إسرائيل لن تجد أفضل من تركيا أداةً لتفتيت سوريا والعراق وتخفيف المخاطر الأمنية عنها.

كذلك، فإنَّ إسرائيل تواصل علاقاتها الأمنية والعسكرية مع تركيا ولو في حد أدنى من قبل؛ والنفط السوري المسروق على أيدي «داعش» كما نفط كردستان العراق، يجد في تركيا قناةً لتصديره إلى اسرائيل وبأبخس الأثمان، مؤمناً بذلك مدخولا سهلاً لـ «داعش». أمَّا العلاقات التجارية، فهي في ذروة ازدهارها. حجم التجارة للعام الماضي بلغ ستة مليارات دولار، بزيادة مليار دولار عن العام الذي سبقه. وباستثناء عدم وجود سفير، فإنَّ العلاقات الديبلوماسية قائمة، وعرّاب التقارب بين البلدين فريدون سينيرلي أوغلو تبوّأ منصب وزير الخارجية في الحكومة الحالية في تركيا.

في بلدٍ متعدّد الانتماءات الاتنية والمذهبية والإيديولوجية مثل تركيا، فإنَّ النظام الرئاسي، في ظلّ ذهنية الاستئثار والشخصنة والأدلجة السالفة الذكر، وخصوصاً في ظلّ غياب الفصل الفعلي بين السلطات، وتَحكُّم السلطة السياسية بالقضائية، وإنكار الهويات السفلى في المجتمع، سيكون مدخلاً إلى حقبة من الاستبداد المحفوف بكل أنواع المخاطر على تركيا نفسها قبل غيرها. والكلمة الأخيرة للشعب التركي على قاعدة «كما تكونون يولَّى عليكم». أما المعارضون في الداخل، فليس أمامهم سوى استمرار المقاومة.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى