مقالات مختارة

سجال نمساوي حول اللاجئين: ماذا لو صار المسلمون غالبية؟ وسيم ابراهيم

 

لولا جلوسه خلف المقود، لكان من الصعب عليه مصادفتهم، بعدما باتوا نجوماً يصنعون الخبر الأول على شاشات التلفزيون منذ أشهر. الضجيج حول اللاجئين يملأ أوروبا، لكنهم غير مرئيين تقريباً هنا. لا يجد ما يدعو الى انفعال زائد أمام المفارقة الفاقعة. نوافذ سيارة الأجرة كانت تعرض طرق فيينا المزركشة بما تبقى من ألوان الخريف، فيما السائق الأربعيني توماس يشير برأسه إلى الخارج، متمتماً بلهجة فاترة: «انظر حولك. لن تراهم هنا. الخائفون من قدومهم، جاء رأيهم بعد مشاهدتهم على التلفزيون، وكذلك بالنسبة لمن يتعاطفون معهم ويساعدونهم».

لا يمكن تجاهل خلوّ العاصمة النمساوية من أي أثر لما تسمّيه أوروبا «أزمة اللاجئين»، رغم أن هذه الدولة هي المحطة قبل الأخيرة في تدفقاتهم المتّجهة بمعظمها إلى ألمانيا والسويد. تفسير ذلك يذهب في أكثر من اتجاه، كما تشرح آني كناب، المسؤولة في مؤسسة «آزيل – كوردينيشن» (تنسيق اللجوء).

خلال حديث الى «السفير»، تقول هذه الناشطة «لا أعتقد أن الأزمة هنا كما تظهر في اليونان، حيث الناس ينامون في الحدائق مثلاً»، قبل أن تضيف «لا يحصل ذلك هنا، لأن المجتمع المدني فعال في تنظيم الاستضافة، وكذلك مؤسسات المدينة. بعض اللاجئين يفضلون البقاء في محطة القطارات، لكي يواصلوا رحلتهم بسرعة. إضافة إلى ذلك، الجو بارد للمبيت في الخارج».

السائق توماس يرى جماعات من اللاجئين أحياناً. بعضهم يستقل سيارته ليقوم بالتبضّع من المتاجر ويعود إلى حيث يسكن. صحيح أن تكلفة «التاكسي» أكبر بكثير من تكلفة وسائل النقل العامة، لكن الأمر ليس اختياراً بالنسبة إلى ظروفهم. يقول إنه ليس «تحليله»، بقدر ما هو نقل لهواجسهم: «يخبرونني أنهم لا يعرفون شيئاً هنا. لا يعرفون أين مراكز التسوق، والأهم، لا يعرفون كيف يركبون المترو وأين ينزلون». يشير بيده إلى بناية لا يمكن تمييزها بين أخريات تشبهها، مضيفاً «بعضهم يسكنون هناك. الحكومة وجدت أماكن شاغرة في أبنية كهذه، وخصصتها للاجئين. هناك نصف مشفى فارغ في المدينة صار يسكنه اللاجئون أيضا».

اللاجئون.. محرّك للسجال في النمسا

سواء كانوا ملحوظين أم لا، فذلك لا يغيّر أنهم أهم محركات السجال الداخلي في النمسا: اللاجئون مقيمون تحت الأضواء، على شاشة التلفزيون. صارت القضية مادة أساسية لدعاية «حزب الحرية»، من اليمين المتطرف، محاولاً تحقيق أكبر مكاسب سياسية ممكنة.

لا تبدو رهاناته خاسرة. الشهر الماضي، شهد إقليم فيينا انتخاباته المحلية. القلق بلغ درجة غير مسبوقة، خصوصاً لدى النمساويين من أصول أجنبية، فالاستطلاعات كانت تعطي الحزب المتطرف حظوظاً جيدة. أخيراً، تمكن «الحزب الاشتراكي الديموقراطي»، حزب المستشار فيرنر فايمان، من الفوز، مع نحو 39 في المئة من الأصوات. لكن الحزب المعادي للمهاجرين حقق نتيجة تاريخية. حل ثانياً، بعدما صوّت له تقريباً 32 في المئة من سكان إقليم العاصمة.

يستثمر المتطرفون تزايد أعداد طالبي اللجوء، لكن حينما يتحدثون عنهم، يشيرون إلى مشاهد الاحتشاد والتدافع على الحدود مع سلوفينيا، ثم الاحتشاد بعد نقلهم عبر الاراضي النمساوية إلى الحدود مع ألمانيا. المستشار النمساوي يحاول كل جهده، لمواجهة تلك الدعاية الشرسة. قال لمواطنيه أخيراً، مهدئاً من مخاوفهم، إن 95 في المئة من اللاجئين الواصلين إلى بلاده يتجهون إلى ألمانيا والسويد، في حين أن خمسة في المئة منهم فقط يبقون.

يفضل فايمن الحديث عن نسب مئوية، لأن الحديث بالأرقام هواية مفضلة لخصومه. السنة الماضية، استقبلت النمسا 28 ألف طالب لجوء، أما في الأشهر التسعة من هذه السنة، فبلغ العدد 52 ألف طالب لجوء. هذه الأعداد، مرئية كانت أم لا، يحسبها السياسيون المتطرفون لمواطنيهم (8.5 ملايين نسمة) على أساس أنهم دولة صغيرة ولا تحتمل هذه الأعداد. لا يركزون طبعاً على أن الدول غنية وقادرة، فحصة المواطن النمساوي من الناتج الإجمالي تفوق مثيلتها لدى جيرانه الألمان.

سلاح الانتخابات

المنظمات المعنية رصدت استخداماً كثيفاً لسلاح «اللاجئين» في الانتخابات الأخيرة. لدى آني كناب خبرة كافية، كي ترى الفرق الذي أحدثته التدفقات الأخيرة، فلها 24 سنة عمل في مؤسسة «تنسيق اللجوء». إنها مؤسسة مظلّة، تنسق عمل 40 جمعية نمساوية فاعلة في قضايا اللاجئين والمهاجرين.

تقول راسمة ملامح الاستخدام السياسي للقضية الإنسانية: «سياسيون كثيرون يقولون هناك أزمة، ويركزون على أن على الحكومة العناية بالنمساويين لا الغرباء»، قبل أن تضيف «بالطبع هناك القلق الموجود عند بعض الناس من تأثيرات سلبية اقتصادية واجتماعية محتملة، لذلك ركزت حملة اليمين المتطرف على دعاية أن المسلمين سيصيرون غالبية، ولن يمكن للمسيحيين ممارسة دينهم بحرية. ركزوا على كل شيء يجلب الخوف وربطوه باللاجئين».

هذه التأثيرات تحلّق حول إيفلين، الموظفة الحكومية التي تعمل أحياناً مع شبكات جمع المساعدات للاجئين. مع ذلك، تقول إن «هناك مصادر قلق مبررة» لأن الأثر مجهول: «هناك من يبالغون في مخاوفهم حول عادات المسلمين وحقوق المرأة. أنا امرأة وأفكر في ذلك. لكن في الحقيقة، نحن لا نعرف كيف سيؤثر اللاجئون على مجتمعنا. لدينا القليل من الولادات، لذلك ربما هناك جيل جديد ستكون غالبيته من عائلات اللاجئين».

لدى هذه السيدة ابن عمره 15 سنة، وهي تتحدث عن التغيرات التي ظهرت في حياته منذ دخل صفه زميلان من عائلات لاجئة. تقول إن القلق في كلامها هو «على الآخر لا منه»: «أحد الطالبين يتحدث الإنكليزية ويمكنه تمشية حاله، الآخر لا يتحدث أي لغة، الأمر صعب جداً عليه»، قبل أن تستدرك «بالنسبة لابني، فهو يساعد أحياناً في الترجمة وتسهيل التواصل. هذا شيء إيجابي».

حملات.. وحملات مضادة

مقابل تصاعد النزعة اليمينية المتطرفة تجاه اللاجئين، تشهد النمسا منذ أشهر حملة دعم عنوانها «مرحبا باللاجئين». احتاج الأمر أشهراً حتى تنتقل تلك الحملة من ألمانيا الجارة، حيث تأسست وذاع صيتها. صار بعض النمساويين يوفرون ملاجئ في غرف شاغرة داخل بيوتهم، آخرون يجمعون المال لاستئجار مساكن. الألبسة والأطعمة تجمع أيضاً لمصلحة اللاجئين، إضافة إلى إعانات لتأمين تذاكر القطار إلى ألمانيا والسويد. حجم التأثير العملي يبقى محدوداً، نظراً للأعداد القليلة الممكن إفادتها، لكن أثره المعنوي والرمزي كان الأهم.

تعميم هذا السلوك ليس أمراً سهلاً في بلد غربي تسوده الفردية، مع طبيعة محافظة بالمجمل. لا تجد إيفلين حرجاً في الحديث صراحة عن ذلك، فهي تشكو منه شخصياً: «نحن عائلة تربّت على مساعدة الآخرين، لكن ذلك ليس شائعاً. أحياناً أحتاج مساعدة من زملائي، إذا كان هناك مقابل مالي يساعدونني، إذا لم يكن، فقلة منهم يستجيبون».

حملة «مرحبا باللاجئين» تقابلها حملة أخرى تقول بغضب «لا أهلاً ولا سهلاً». هذا ما حصل قبل أيام على المعبر الرئيسي مع سلوفينيا. خرج المئات من بلدة شبيلفيلد الحدودية، ساروا إلى المعبر حاملين لافتات الاعتراض على الحكومة، مطالبين بإغلاق الحدود.. ورحيل المستشار مرة واحدة!

مدينة موزارت.. محطة للاجئين

على طرفي المعبر بات الجيشان، السلوفيني والنمساوي، يساعدان شرطة البلدين على إدارته. تحاول النمسا إبطاء التدفق. آخر تقارير المراقبين من هناك، تقول إنه يُسمح لـ75 لاجئا بالعبور كل نصف ساعة. الآلاف يعبرون يومياً، لكن قلة منهم تتوجه إلى فيينا لأسباب عملية: الغالبية العظمى تريد المغادرة إلى ألمانيا.

الباصات متوفرة مجاناً، حول المعبر، لكن الحصول على مكان فيها يستوجب الانتظار. ركوب القطار يلزمه الانتقال إلى مدينة قريبة، فيها محطة دولية. هكذا تبقى سيارات الاجرة خياراً متاحاً. حسابات التكلفة تبعد اللاجئين عن فيينا، فتكلفة التوصيلة إليها حوالي 400 يورو. أما التوصيلة إلى مدينة سالزبيرغ، الحدودية مع ألمانيا، فتكلف 500 يورو.

التدفق على سالزبيرغ جعل المدينة الصغيرة عنواناً لقضية اللاجئين، بعدما كانت محصورة بكونها ماركة شهيرة للسياحة في النمسا. ليس فقط لأن قلبها التاريخي مصنف على لائحة «اليونسكو» للتراث العالمي، منذ 1997، بل لأنها المدينة التي ولد فيها موزارت، في القرن الثامن عشر، لتشهد بداية مسيرته إلى شهرة مدوّية كأحد أهم مؤلفي الموسيقى العالميين. كل هذا يجعل السياح، في موسم الذروة، يفوقون عدد سكانها المئة وخمسين ألفاً تقريباً.

لكن هذا العدد يكاد يصل سالزبيرغ كل شهر الآن. بات يصبّ فيها قسم معتبر من سيل اللاجئين، بعد عبوره من تركيا إلى اليونان، مروراً بمقدونيا ثم صربيا وسلوفينيا، ليصل إلى محطته الأخيرة في المدينة النمساوية، قبل الدخول إلى مقاطعة بافاريا الألمانية.

النمساويون يترقبون ما ستخرج به القمة الأوروبية الطارئة منتصف الشهر، لكنهم قبل ذلك ينتظرون نتائج السجال السياسي الداخلي لجيرانهم الألمان، فكل إجراء يتخذونه سيؤثر عليهم.

حزب المستشارة أنجيلا ميركل، مع شقيقه الحزب الحاكم في بافاريا، يؤيدون إقامة «مناطق عبور». تنفيذها يعني السماح باحتجاز اللاجئين، في مجمعات على الحدود، ريثما ينظر في طلباتهم. من يقبلونه يدخل، ومن يرفضونه يتم ترحيله سريعاً. الفكرة يرفضها حتى الآن «الحزب الاشتراكي الديموقراطي»، الشريك في الائتلاف الحاكم، مفضلاً فكرة «مناطق الدخول»، لإقامة مراكز التجميع داخل الولايات الالمانية.

وسط هذا السجال، لا تقتنع لويزا، مثل كثير من مواطنيها، بأن ما يحرك السياسة الالمانية هو رهافة شعور ميركل. تعمل لويزا موظفة في شركة استيراد جرارات زراعية، وتشكو من تراجع أعمالها مع استمرار انخفاض أعداد المزارعين. تسكن هذه الشابة في فيينا منذ 14 عاماً، قادمة من مدينة متاخمة لألمانيا. تقول بنبرة ساخرة: «لا نعرف ما يدور في عقولهم بالضبط، لكني لا أصدقهم. لا أصدق أن الدوافع الانسانية يمكنها أن تقود سياسة دولة كبيرة، خصوصاً ألمانيا التي نعرفها».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى