سورية إلى الديمقراطية الأولى في الشرق: ناصر قنديل
– بعد كلام المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا بصورة رسمية بلسان الأمم المتحدة، وتمهيداً لعقد أيّ طاولة حوار سورية ــــ سورية، أنّ الرئاسة السورية أمر متروك للسوريين، وأنّ الحوار المنتظر سيتمّ وفقاً لبيان فيينا وما تضمّنه من تكريس للدولة العلمانية الموحّدة ، وبالتالي نهاية أوهام ورهانات إعادة تكوين الدولة السورية وفقاً للتوزيع الطائفي المستند إلى النموذج اللبناني «الملهِم»، صارت المهمة الراهنة للمبعوث الأممي التي تعاقد عليها مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، هي تعريف المعارضة المعتدلة التي يمكن أن تشارك في الحوار والحلّ السياسي، وخصوصاً في الحرب على الإرهاب، وذلك وفقاً لدفتر شروط حدّده بيان فيينا ببنود لا تقبل التأويل، أولها التسليم بأنّ الأولوية التي لا تشاركها هذه المكانة أيّ عناوين أخرى، بما فيها الحديث خصوصاً عن إسقاط النظام، هي الحرب على الإرهاب، وثانيها الإعلان الواضح عن اعتبار التنظيمات المتفرّعة من «القاعدة» عدواً يجب محاربته والقضاء عليه، وفي مقدّمتها «جبهة النصرة» التي احتضنتها واجهات المعارضة ولا تزال تدافع عنها كفصيل معارض، وثالثها التسليم بأنّ المسار السياسي يبدأ من حكومة وحدة وطنية تساند الجيش السوري في حربه على الإرهاب وصولاً إلى النصر، وبعد ذلك ينفتح الباب للتفاهم على عملية سياسية تتضمّن وضع دستور جديد وانتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في ظلّ ضمانات للتكافؤ وشمولية وصحة التمثيل.
– بعيداً عن الدخول في تفسيرات هذا التحوّل الكبير، يمكن القول ببساطة، إنّ بيان جنيف انتهى إلى غير رجعة، وإنّ الحديث عن مرحلة انتقالية وعن هيئة حكم انتقالي أصبح جزءاً من الماضي، وأنه ينتمي إلى مرحلة كانت فيها الصورة الرائجة للمواجهة المسلحة توحي بأنّ الدولة السورية في ضفة وفي الضفة المقابلة المعارضة لا غير، وأنّ صيغة حلّ سياسي بينهما تنهي الحرب وهذا ثبت بطلانه مع خروج المكونات الفعلية للجسم العسكري الذي كان يختبئ وراء مسمّى «الجيش الحر»، وإعلان هويتها الواضحة كمنوّعات تابعة لفكر تنظيم «القاعدة»، وبالتالي ثبوت استحالة وقف القتال بواسطة حلّ سياسي سيشمل واجهات إعلامية لا تغيّر شيئاً حقيقياً في الميدان، وظهور الحرب على الإرهاب كحاجة وأولوية دولية في مقاربة ما يجري في سورية، ما يعني أنّ مكوّنات المسمّيات المختلفة التي تربّعت على كرسي تسمية المعارضة السورية ستكون أمام عملية فكّ وتركيب لتخرج من يستطيع تحمّل موجبات الشراكة في العملية السياسية وتذهب بهم إلى الحوار والقبول بالمنافسة الانتخابية كشكل لحسم مستقبل الدولة السورية ومؤسساتها، والتحاق الذي يعجزون عن ذلك ويتمسّكون بشعاراتهم أو عقائدهم أو أحقادهم أو مصادر تمويلهم، بمعسكر التنظيمات الإرهابية وارتضاء مصيرها المنتظر، وإلا الاستقالة والتقاعد من العمل السياسي والتفرّغ للتمتع بالمال الوفير الذي تجمّع بين أيدي رموز هذه المعارضة طيلة السنوات الماضية.
– المشهد العسكري في سورية يسير بوضوح، خلال الأسابيع المقبلة نحو المزيد من الإنجازات لمصلحة الجيش السوري وحلفائه، والإنجاز الأكبر سيكون في الحصيلة تحرير شمال سورية بما في ذلك إدلب وجسر الشغور وأرياف اللاذقية وحماة وحلب وحمص ودمشق، من القوى المنضوية تحت عباءة «القاعدة»، وبالتالي التوجه بعدها أو بالتوازي نحو حسم الجنوب أو ما تبقى منه. وهذا يعني وفقاً للحسابات التي يجريها الخبراء العسكريون بلوغ الربيع وقد استعاد الجيش السوري السيطرة على كلّ الجغرافيا الواصلة إلى الحدود مع الأردن وتركيا، والتفرّغ للحرب على «داعش»، بالتوازي مع الحرب التي يكون العراقيون قد حققوا فيها إنجازات جعلت حرب الموصل على الأبواب. وبالنظر إلى ما يمكن للسعودية وتركيا و«إسرائيل» فعله لإعاقة هذا المسار تبدو المعادلات أكبر من قدراتهم، وإلا لبقي الاستعصاء قائماً يحول دون ولادة بيان فيينا الذي لم يكتب كحصيلة للمناقشات التي استمرت لساعات بسيطة تجاه قضايا بقيت عالقة لسنوات، بل أعدّت نسخة البيان بتفاهم روسي أميركي وتمّت الدعوة للقاء فيينا لإصداره، ولا أوهام تزوّد المعارضة بالسلاح عند السعودية أو رهانات بعض الفرحين بنصر حزب العدالة والتنمية على فرصة مزيد من التورّط والاحتضان التركي ولا الغارات «الإسرائيلية» المنضوية تحت عنوان الأمن «الإسرائيلي» المباشر في التوازن مع حزب الله، ستسمح بتعديل الوجهة فالواضح أنّ ما طلبه الأميركي من حلفائه الاستعداد لمسابقة الروس وحلفائهم على مناطق سيطرة «داعش» وليس مقاتلة الروس وحلفائهم. والواضح أنّ الأميركي لا يزال يأمر فيُطاع، والواضح أنّ هذه المسابقة تختلف عن إنزال النورماندي في الحرب العالمية الثانية لضمان مسابقة الروس على دخول برلين، لغياب المكوّن السوري أو غير السوري القادر على خوض حرب برية، بدونها لن تكون ثمة فرصة لهزيمة «داعش»، ليصير الرهان الأميركي الحصري على الإمساك بأوراق حضور في المستقبل السوري هو فقط الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة.
– ما ستشهده سورية سيسمح للأميركي وفقاً لموازين القوى وسياقات الحرب، بإقناع حلفائه بأحادية هذه الفرصة ودعوته لهم لصبّ الماء البارد على الرؤوس الحامية في مكونات المعارضة، وسنسمع من الآن وصاعداً كثيراً بالهزيمة الانتخابية لزعيم الثورة الساندينية في نيكارغوا دانييل أورتيغا أمام خصومه المدعومين من واشنطن بعدما ارتضى حلاً سياسياً ينتهي بعملية انتخابية، ورغم عودة أورتيغا للفوز في الانتخابات اللاحقة، فالأميركيون سيستخدمون المثال للقول إنّ الانتخابات فرصة ممكنة وليست مجرد رفع عتب، وسيقولون إنّ التفاهم على مرشح واحد يدعمه الجميع ويكون مدنياً علمانياً مقنعاً بتاريخه الوسطي للسوريين، توضع في خدمة معركته الانتخابية الأموال ووسائل الإعلام والتقنيات العصرية اللازمة لحملة انتخابية متفوقة، واستعمال وسائل الترغيب والترهيب على السوريين في الخارج وهم رقم وازن في الانتخابات، وسيقولون إنّ الضمانات القاسية والمتشدّدة التي سيصرّون عليها، كلها ستمنح فرصاً جيدة للفوز بالمعركة بنصيب برلماني جيد وربما تفتح الطريق لربح المعركة على رئاسة سورية.
– سنناقش غداً الرهان على تكرار فرضية أورتيغا في سورية، لكن الأكيد أنّ الانتخابات المقبلة في سورية وبعد فضيحة الانتخابات التركية، وفقاً لما قاله الأوروبيون، وأمام مشهد الخليج الذي يختصره سؤال وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف في فيينا لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير، يهمّنا أن نعلم مَن الذي انتخب الملك سلمان، وفي المقابل التشوّهات اللاحقة بالعملية السياسية المتفرّعة من تجارب الربيع العربي، ستتبوأ سورية مع صفة دولة المقاومة والاستقلال الأولى، صفة الدولة الأشدّ ديمقراطية في الشرق.
(البناء)