الانتفاضة الفلسطينية … مخاض جديد
غالب قنديل
انشغل كثيرون في النقاش حول تشخيص الحدث الفلسطيني الذي صنعه فتيان وشباب فلسطينيون تمردوا على التردي والانحطاط السياسي وحملوا معهم بدمائهم وبسواعدهم إرادة المقاومة ردا على بشاعة الاحتلال الصهيوني العنصري في الساحات الفلسطينية الثلاث المكتوية بنيران القهر والعنصرية والقمع والموت من فلسطين المحتلة عام 48 إلى غزة المحاصرة الكئيبة رغم انتصارها العسكري المشرف على حروب الغزاة والضفة الغربية المغتصبة التي تعيش تحت وطأة الجدران العنصرية المتناسلة وصلف المستعمرين ونيران قوات الاحتلال .
خلع الشباب الفلسطيني المتمرد أوهام أوسلو وحل الدولتين المزعوم وذرائع السلطة الخانعة للوصاية الصهيونية الأميركية وتنسيقها الأمني مع الغاصب المحتل وتحرروا من كذبة المواطنة في كيان عنصري استيطاني يزداد توحشا في طريقه الممتد نحو خطط الاقتلاع والترحيل والمذابح ورموا في الوحل وهم الجنة المالية بالشراكة مع المحتل مقابل شل المقاومة التي أجبرت شارون على الاندحار من القطاع وحمت أهلها من الضربات الصهيونية بصمود أسطوري .
خرجوا بأعمارهم الطرية يشهرون ما طالت أيديهم من سكاكين وحجارة يقاومون المحتل في كل مكان واستشهدوا بإباء وكرامة ليرفدوا انتفاضة متواصلة سميناها هبة شعبية تحفظا لاحتمال تقطعها بغدر القيادات ومساومتها ولأن القيادة السياسية الجديدة لم تولد بعد وربما ما تزال جنينا مستورا في مخاض لم يكتمل ولكن التصميم الثوري عند الجيل الفلسطيني الجديد الذي ضاق ذرعا بالوعود الخاوية وبالتبريرات الخائبة يثبت قوته وتجذره رغم كل العقبات والحواجز التي يقيمها التضليل السياسي.
الصهاينة يغصون برعبهم وبعجزهم امام الانتفاضة ويسر القادة الفلسطينيون بذهولهم وحيرتهم امام غياب الجواب على سؤال من يحرك الناس إلى التظاهر والصمود في الشوارع والساحات وتكرار المعركة تلو المعركة والطعنة تلو الطعنة والدهسة تلو الدهسة ضد الغزاة والمستعمرين ويتفلت المنتظمون من هيمنة قياداتهم الداعية للتراجع بينما في حبال الوصل الأميركية وخطوط الوصل السرية بالكواليس التركية والسعودية تنصل كثير من الزعماء من المسؤولية وفي أحسن أحوالهم فتشوا عن مكسب هنا او هناك مقابل ما يسمى بالتهدئة التي يطالبهم بهما أصدقاؤهم في الغرب وفي قصور الحكم الداعمة.
الذي يحرك الانتفاضة هي فضيحة الرهانات الساقطة بعدما محض الناس ثقتهم لقيادات ساروا خلفها ربع قرن واكثر وأخذتهم في حلقة مفرغة من نزيف الدماء واستباحة الكرامة الإنسانية وتعاظم وحش الاستيطان والتهويد والتمييز والقمع والتجويع تلك هي فلسطين الواحدة في خريطة الشباب المحفورة داخل القلوب ولا محل فيها لخرائط مربعات القيادات البيرقراطية الباردة الخالية من حرارة الدم الفلسطيني الذي يغلي مع كل عملية قمع ومع كل شبر من الأرض يصادر ومع كل انتهاك للأقصى والقيامة ومع كل دمعة أم أسير ومعتقل .
معجن الوعي الفلسطيني يرتسم ويتشكل في مخاض تاريخي جديد ولو نجحت محاولات الالتفاف التي يقودها كيري وأعوانه في اسطنبول والرياض والدوحة فهي لن تفلح في إخماد الانتفاضة والقضاء عليها لأنها ستنبعث مجددا مسلحة بوعي أوضح وبإرادة أقوى فهكذا تقول تجربة الشعب الفلسطيني الذي لم يفلح كل ما بذله الغرب الاستعماري وعملاؤه العرب والغزاة الصهاينة من جهود لمصادرة حلمه بفلسطين حرة على كامل التراب الوطني وبقدر ما أوهموا الشعب الفلسطيني أنه الحلم المستحيل بقدر ما ازداد شباب فلسطين وفتيانها تعلقا به بعدما خبروا مسارات المذلة والمهانة التفاوضية السلمية بكل أقنعتها البائسة منذ نصف قرن وأكثر في رحاب الحقبة السعودية واتفاقات الهوان الثنائية مع الكيان الصهيوني المتوجة بصفقة اوسلو وخاتمتها مشروع الشراكة مع العدو في ميناء غزة ومنطقتها الحرة مقابل تجميد المقاومة في ثلاجة قطرية أخوانية لخمسة عشر عاما .
لن ننظر على أبطال الميدان فبالتاكيد هم يعرفون أن هذه الانتفاضة تشق مسارا يستدعي عملا نضاليا وتنظيميا جديدا فيه ابتكار وفطنة ومفاجآت لكل عدو ومتآمر ويتطلب خوضا في معركة الوعي الجديد وتعبيرا عن الحقيقة الناصعة كدماء الشهداء باستحالة المساكنة مع الغاصبين تحت أي ستار.
فلسطين الولادة لن تبخل بالقادة الجدد من نسائها ورجالها الأشاوس فالروح الجديدة التي تدهش العالم في مدن وبلدات وقرى فلسطين كلها لا يمكن ان تموت ولا أن تخمد ونقيضها المستمر هو الاحتلال سيكون محفزا لاستمرارها وتصاعدها ولو تقطعت هباتها فالمسار سيتواصل والجديد سيولد ولن يستطيع أحد حبس الشعب العظيم في صيغ وأشكال ولى زمانها وباتت من سقط متاع التجربة المرة لكنه مسار طويل متعرج وصعب ومعقد ومضرج بالدماء ولا يمكن لأي حر وشريف في الوطن العربي إلا ان يصاحب تلك الولادة بإسناد الشباب المنتفض المتمرد بكل ما أوتي من قدرة وأقلها رفع الصوت والاشتراك في معركة الوعي دفاعا عن الفكرة الخالدة التي لا تمحى : فلسطين حرة وعربية رغم أنوف الغزاة والرجعيين والخونة والمتخاذلين.