لبنان والطائف في المرآة السورية
ناصر قنديل
– رغم أنّ الكثير من اللبنانيين يتباهى بنظام الحريات السياسية والإعلامية الذي يتمتعون بعائداته بصورة تقارب وتزيد أحياناً عن منسوب الحرية التي يعرفها العالم الغربي، إلا أنّ اللبنانيين عموماً يعترفون بتشوّه الديمقراطية التي يعيشونها وتخلّفها، ويخجلون من القول إنها تقوم على كونفدرالية إمارات طائفية معطلة لأيّ عملية ديمقراطية، حتى صار انتخاب رئيس الجمهورية عملية يمليها الخارج على اللبنانيين، ويستسلم لها اللبنانيون وهم يعرفون أنّ في ذلك فضيحة لادّعاءات السيادة والاستقلال، وصار البرلمان اللبناني مجموعة من القطارات المغلقة التي يقرّرها زعماء الطوائف ولا يهمّ ما هي برامجها ولا ما هي مكوّناتها وكفاءاتهم، طالما أنّ نظام التوظيف ودورة الخدمات اللذين يشكلان أبرز واجبات أيّ دولة تجاه مواطنيها، لا يمكن للمواطن التمتع بها، دون المرور بزعامات الطوائف، بما في ذلك الطبابة والتعليم، الخاضعين داخل الدولة وخارجها لنظام الطوائف، وهذه الثنائية المريضة دفعت الرئيس سليم الحص إلى القول إنّ في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية.
– في ظلّ هذا النظام الطائفي كانت عيون اللبنانيين دائماً بحكم الجوار والاحتكاك، على نموذج الحكم في سورية، فيجدون المقارنة في كلّ مستويات ومفاصل المقارنة وأوجه الحياة تميل لمصلحة النموذج السوري باستثناء ميزة الحريات التي يتفوّق في مجالها لبنان بأشواط، بينما كان السوريون يفعلون العكس فيرون أنّ تفوّق نموذج دولتهم في كلّ شيء تنقصه الميزة اللبنانية التي تمثلها الحرية. وكان النموذج السوري تحدياً يومياً أمام عيون اللبنانيين، فسورية التي يعادل عدد سكانها خمسة أضعاف لبنان، وبدخل قومي إجمالي يعادل ضعف الدخل القومي للبنان، تقدّم التعليم والطبابة مجاناً لمواطنيها، وتنتشر فيها شبكة خدمية متقدّمة على مستوى الطرق والكهرباء والهاتف، وبأسعار تقل بنسبة واحد إلى عشرة عن تلك التي يسدّدها اللبنانيون دون الحصول على خدمة تعادل نصف ما يحصل عليه المواطن السوري، وكان اللبنانيون يرون أنّ السوريين ينعمون بقدر من الاستقرار الأمني والسياسي وفوقه مكانة لاعب إقليمي فاعل لدولتهم، التي تحوّلت مجلبة فخر واعتزاز لمواطنيها بسبب مواقفها من المسائل العربية، وفي طليعتها قضية فلسطين وخيار المقاومة، مقابل دولة لبنانية ضعيفة وهشة واستقرار أمني مفتوح دائماً على خيار الحرب الأهلية وارتباك سياسي يهدّد بتعطيل الاستحقاقات الدستورية أو استرهانها للخارج، وكان كلّ لبناني غير مصاب بداء العنصرية ضدّ سورية يتمنّى في سرّه لو يستطيع الجمع في بلده بين ميزة الحرية مع ميزات النظام السياسي الحاكم لسورية.
– لم ينتبه اللبنانيون، ولا انتبه السوريون، إلى أنّ هذا التساكن بين النظامين في البلدين المتجاورين مستحيل، وأنّ على أحدهما أن يصيب الآخر بعدواه، أو أن يتلاقحا بتبادلية للميزات الإيجابية لكلّ منهما، فتستقوي سورية بقدر أعلى من الحريات السياسية والإعلامية، مستعينة بالتدرّج والتمرّس اللبناني، ويستأنس لبنان بالطابع المدني العلماني للدولة السورية، المتصالح مع الدين، والقادر على طمأنة المكوّنات الطائفية بغير طريقة تقاسم المناصب على أساس طائفي، وبالتالي تنظيم المجتمع تدريجاً على قاعدة الجلوس فوق هذه القنبلة الموقوتة، حتى جاءت الأزمة السورية، وفرح بعض اللبنانيين وكتبوا وصرّحوا، أنّ الذي يجري هو بتأثير لبناني، كما قالت قوى الرابع عشر من آذار عن كلّ تجارب «الربيع العربي» إنها اقتداء بحركتها التي انطلقت في العام 2005 كتجمع شعبي حاشد ضدّ الدور والوجود السوريين في لبنان إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وعلى المستوى النظري لم يتردّد بعض كتاب هذا الفريق من القول إنها عدوى الحرية اللبنانية التي اجتاحت الشعب السوري وقاومتها دولتهم حتى حدث الانفجار.
– دار الزمان دورته الكاملة وظهرت حقائق الأزمة في سورية كحرب خاضتها دول الغرب والخليج وتركيا و«إسرائيل»، مستقوية بعناصر الضعف في أداء مؤسسات الدولة السورية، ومشتغلة على إطلاق نار فتنة مذهبية، وصولاً إلى استجلاب مقاتلي تنظيم «القاعدة» ورعايتهم وتدريبهم وتسليحهم، وأنّ الهدف الذي كان يبدو ظاهرياً لما يُحاك لسورية من نظام ديمقراطي سرعان ما تلاشى لحساب إعلان «إمارة النصرة» و«خلافة داعش»، وأنّ المؤدّى النهائي المُراد تحقيقه يتصل بموقع سورية ومكانتها في الجغرافيا السياسية للمنطقة الأهمّ والأشدّ حساسية في العالم استراتيجياً واقتصادياً وأمنياً. فسورية عقدة تقاطع خرائط خطوط أنابيب النفط والغاز لأكثر من ربع ثروات العالم في القطاعين الأشدّ حيوية في عالم الطاقة، وسورية دولة الجوار الوحيدة المتبقية لفلسطين المحتلة ضمن خيار الممانعة ودعم المقاومة وتقع على فالق التواصل مع إيران والمقاومة في لبنان وفلسطين، ما يضع أمن «إسرائيل» كقوة ضامنة للمصالح العليا للغرب تحت دائرة الخطر، وسورية تقدّم للعمق الآسيوي الممتدّ حتى الصين من جهة وروسيا من جهة، ولكلتيهما عبر إيران المنفذ البحري على أوروبا. وهي الدولة المتوسطية الممتدّة على الواجهة الساحلية لغرب آسيا، مع تعثر أهداف الحرب وظهور اللاعبين الحقيقيين على المسرح بدأ الكلام العلني الأميركي الفرنسي السعودي التركي عن صيغة جديدة للحكم في سورية تقوم على اتّباع النموذج اللبناني القائم على التقسيم الطائفي، أسماه المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا بلسانهم جميعاً بالدور الملهم للنموذج اللبناني، ليكشف التاريخ حقيقة أنّ تلكؤ الطلائع والنخب اللبنانية والسورية عن التلاقح بين قيمة الحرية مع تكوين الدولة المدنية اللاطائفية ودولة الرعاية الاقتصادية والاجتماعية لبناء نظام حكم عبقري عصيّ على الاختراق، جلب من استحالة التساكن، وتسامح سورية عن نقل نموذجها بسلبياته وإيجابياته إلى لبنان، بل رعايتها للنموذج الطائفي وتقوية بنيته وتعزيز زعاماته، حتى زحف النموذج اللبناني بأسوأ ما فيه إلى سورية خلافاً لما قاله فلاسفة الرابع عشر من آذار بقوة مثال الحرية. فما أريدَ نقله لسورية ليس سوى النظام الطائفي الذي يسترهن لبنان للخارج ويجعله على موعد دائم مع الحروب الأهلية ويصيبه بالشلل عند كلّ استحقاق، ويشكل مظلة الحماية لمنظومة الفساد والإفساد، التي يكفي التوقف فيها بالمقارنة بين حال البلدين في ملفين راهنين هما النفايات والكهرباء لرؤية سورية بعد خمس سنوات حرب بحال لا تجوز مقارنتها بالحال المزرية التي يعيشها لبنان.
– مرة أخرى دار الزمان دورته الكاملة، وفشل مشروع النموذج اللبناني «الملهم»، وجاء لقاء فيينا ليكرّس سورية دولة موحّدة علمانية، ويكرّس جيشها ومكانته والحاجة الإقليمية الدولية التي يمثلها في الحرب على الإرهاب، ولكن مع ضخّ كمية من مساحات الحرية والديمقراطية في تركيبة النظام السياسي، دون المساس بمساحة الاستقلال الوطني التي دفع السوريون ثمنها دماً غالياً. وبصورة أو بأخرى نجحت وصفة الرئيس السوري بشار الأسد بالتغلب على معوقات نقل سورية إلى ضفاف الديمقراطية والحرية دون النيل من خيارها القومي والمقاوم، ودون السماح بتعريضها لاختبار السموم السرطانية الطائفية القاتلة، التي يكفي القبول بتجربتها مرة حتى تتجذّر وتتخندق ويصير اجتثاثها مكلفاً وصعباً.
– وفقاً لقاعدة استحالة التعايش بين النظامين المختلفين إلى درجة التناحر، يصير السؤال: هل سينتبه اللبنانيون والسوريون هذه المرة أنّ أقصر الطرق بعد التفوّق الذي سيكسبه النموذج السوري في نهاية الحرب والأزمة بميزتي الحرية والديمقراطية المضافتين إلى مفهوم الدولة المدنية العلمانية القوية والمستقلة، هو ملاقاة لبنانية استباقية تبدأ بالإقرار بفشل نظام الطائف، والذهاب إلى نظام لاطائفي مهّد له بخجل اتفاق الطائف، واعتماد انتخابات برلمانية على أساس نظام النسبية، قبل أن يصير هذا الانتقال حاجة قيصرية في لبنان بعد التعافي السوري، ويصبح ربما صمّام أمان لا بدّ منه لاستقرار سورية منعاً لتسرّب السموم الطائفية؟
(البناء)