مدلول مؤتمر فيينا: إنهاء «داعش» وإخوته يتقدّم الحلّ السياسي د. عصام نعمان
لا غلوّ في القول إنّ واشنطن وموسكو توافقتا، أخيراً، على أنّ خطر تنظيم «الدولة الإسلامية ــــ داعش» داهم وشامل وأنه يتهدّدهما كما العالم أجمع. تطوران مهمّان حملاهما على التسليم بهذه الحقيقة وبضرورة توليد إرادة مشتركة وتفاهم استراتيجي لمواجهة مفاعيلها: تعاظم قدرات «داعش»، بما هو محور «الإسلام الجهادي» ورأس حربته، وصمود سورية في وجه استغلال واشنطن وحلفائها الإقليميين لـِ «داعش» وإخوته لإسقاط نظامها السياسي وتفكيكها إلى كيانات مذهبية وأثنية بالتزامن مع عملية مماثلة في العراق.
موسكو أدركت باكراً قوة «داعش» وشمولية خطره، فسعت لحمل واشنطن على الكفّ عن استغلاله في مخططها المعادي لسورية، واتخذت لهذه الغاية خطوة وقائية لافتة بموافقتها على نزع أسلحة سورية الكيميائية لتحقيق هدفين استراتيجيين: إجهاض ضربة أميركية وشيكة وموجعة لسورية في العام 2013 من جهة، وتفادي إمكانية وقوع تلك الأسلحة المدمّرة في أيدي «داعش» أو غيرها من التنظيمات الإرهابية من جهة أخرى. ذلك أنّ الاستخبارات الروسية كانت تأكدت من أنّ «داعش» ا ستخدم سلاحاً كيميائياً ضدّ الجيش السوري في محيط مدينة حلب كما في محيط مدينة دمشق، وأنه لن يتورّع في قابل الأيام عن استخدام السلاح الكيميائي وغيره من أسلحة الدمار الشامل ضدّ روسيا وأميركا وسائر أعدائه إذا ما اقتضت مصالحه الاستراتيجية.
واشنطن كانت تدرك هذه الحقيقة، لكنها تباطأت في مصارحة حلفائها الإقليميين بها آملةً أن يتمكّنوا من إسقاط دمشق قبل أن تجد نفسها أميركا مضطرةً إلى إنهاء تعاونها الظرفي مع «داعش» والمباشرة في مواجهته جدّياً. هذا يفسّر عدم فعالية الغارات المسرحية التي شنّتها طائرات «التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب»، طيلة أشهر وسنوات، على مواقع «داعش» في سورية والعراق، كما تهديد أميركا لـِ «الحشد الشعبي» بقصف وحداته المقاتلة إذا ما حاولت مساندة الجيش العراقي في هجومٍ كان مقرّراً لاسترداد مدينة الرمادي من براثن «داعش».
مع توسُّع «داعش» في شرق سورية تدمر و«جبهة النصرة» في غربها إدلب قدّرت موسكو أنّ احتمال انتصار تنظيمات «الإسلام الجهادي» لا يشكّل خطراً على وحدة سورية ونظامها وسيادتها فحسب، بل على أمن روسيا القومي أيضاً. ذلك أنّ روسيا الاتحادية دولة تعدّدية تضمّ جمهوريات إسلامية يتعاطف بعض مواطنيها مع شعارات «الإسلام الجهادي» ويشارك بعضهم الآخر في الحرب التي تشنّها «داعش» و«النصرة» وغيرهما في سورية والعراق وعليهما.
أكثر من ذلك، سرّبت موسكو للإعلام تقديرات استخبارية مفادها أنّ «داعش» بصدد استعمال أسلحة كيميائية ضدّ أعدائه في سورية والعراق. قبل ذلك، كان الرئيس فلاديمير بوتين صرّح خلال استقباله رؤساء استخبارات بلدان رابطة الدول المستقلة في موسكو «أنّ الإرهابيين يستغلون الشرق الأوسط كقاعدة لتدريب مقاتلين جدد قبيل إرسالهم إلى مناطق أخرى لزعزعة الاستقرار فيها. لذا يجب رفع مستوى التعاون بين الدول في هذا المجال واعتماد الأساليب الأكثر فعالية ووضع مقاربات موحدة لتحقيق الأهداف المحددة».
في الواقع، كان بوتين قد بدأ، قبل أسابيع، بوضع أفكاره وخططه موضع التنفيذ بتكثيف حضور روسيا برياً وجوياً وبحرياً في سورية وبمباشرة سلاحها الجوي غارات هادفة ودقيقة على مواقع «داعش» و«النصرة» في شمال البلاد وغربها وصولاً إلى مواقعهما في محافظتيْ درعا والقنيطرة في جنوبها مدلول هذه الحملة الروسية المتعاظمة داخل سورية أنّ موسكو عازمة على حرمان التنظيمات الإرهابية مواطئ أقدام ومواقع أرضية يمكن اتخاذها قواعد للتدريب والتجهيز ومنطلقات لشنّ هجمات مدمرة لا تقتصر على سورية والعراق بل تمتدّ إلى بلدان مجاورة وربما إلى روسيا تحديداً.
أدركت واشنطن، بعد طول لأيٍ ومخاتلة، أنّ الحضور الروسي في سورية ليس من شأنه ترجيح ميزان القوى لمصلحة الرئيس بشار الأسد فحسب، كما قالها صراحةً رئيس هيئة أركان الجيوش الأميركية الجنرال جوزف دنفورد، بل من شأنه أيضاً توليد تداعيات تهدّد حضور أميركا ونفوذها في الشرق الأوسط. وعليه، ليّنت واشنطن موقفها ودعت حلفاءها الأطلسيين والإقليميين إلى التسليم بأنّ الإرهاب هو الخطر الأكبر الذي يهدّد الجميع، وأنّ مواجهته بجدّية هي الأولوية الأولى في هذه المرحلة المترعة بالحروب والاضطرابات من ليبيا إلى اليمن مروراً بمصر وسورية والعراق وفلسطين.
معنى مؤتمر فيينا، إذاً، هو إقرار أطراف الصراع، ولو بدرجات متفاوتة، بأنّ الخطر الأكبر والأدهى هو الإرهاب وانّ إنهاء «الدولة الإسلامية»، بما هي محوره ورأس حربته، يتقدّم الحلّ السياسي الذي سيكون، بطبيعة الحال، مدار مفاوضات وتجاذبات لمدة طويلة مشروطة بالزمن المطلوب لاقتلاع تنظيمات الإرهاب من سورية واستعادة وحدتها الجغرافية والسياسية. لكن ذلك لا يمنع ممثلي النظام والمعارضة من التفاوض في فيينا منتصفَ الشهر الحالي من أجل التوافق على دستور جديد للبلاد وانتخابات.
بهذا المعنى تكون سورية، رغم غيابها عن مؤتمر فيينا، الرابح الأول من انعقاده بما ينطوي عليه من مدلولات سياسية واستراتيجية. غير أنّ ذلك لا يعني أنّ الصراع سوف يهدأ وانّ وتيرة الاضطرابات في عالم العرب سوف تتلاشى. بالعكس، ثمة جبهات في هذا البلد أو ذاك ستبقى مشتعلة في سياق أغراض ومصالح، إقليمية ودولية، يُراد تحقيقها على حساب قوى محلية تحاول هي الأخرى استخلاص حصتها في حمأة المساومات والمقايضات الجارية لإعادة رسم خريطة تقاسم المصالح والنفوذ في الشرق الأوسط الكبير.
(البناء)